المحكم والمتشابه في الأحاديث
السؤال: إذا كان كلام المعصوم فيه محكمٌ ومتشابهٌ، وعامٌّ وخاصٌّ، وصعبٌ ومستصعب؛ إذن: لابدَّ لنا من معصومٍ آخر يبيّن لنا كلام هذا المعصوم، ولا نزال بحاجةٍ إلى المئات من المعصومين الآخرين، وهذا محال!
الجواب:
إنّ وجود المحكم والمتشابه، والعام والخاص، الصعب والمستصعب، ليس ظاهرةً خاصةً بأحاديث المعصومين (عليهم السلام)، بل هو سِمةٌ أصيلةٌ في النصوص الدينيَّة على وجه العموم، وعلى رأسها القرآن الكريم، يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
وهذا يدلّ على أنّ التنوّعَ في البيان، وتعدّدَ طبقات الخطاب، أمرٌ مقصودٌ إلهيّاً، وليس خللا ًفي الفصاحة أو نقصاً في البيان.
ومثل هذا تماماً يجري في كلام المعصومين (عليهم السلام)، فهم يتكلّمون مع الناس على مراتب عقولهم، ويتدرّجون معهم في البيان، فيجملون في مقامٍ ويفصّلون في مقامٍ آخر، وقد يذكرون قاعدةً في موضعٍ ثم يخصّصونها في موضعٍ آخر، تماماً كما هو أسلوب القرآن الكريم.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «فإنَّ أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن ناسخٌ ومنسوخٌ، وخاصٌّ وعامٌّ، ومحكمٌ ومتشابه» [الكافي ج1 ص63]، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّا - والله - لا نعدّ الرجل فقيهاً حتّى يعرف لحن القول» [التوحيد ص459]، فالرواية تعترف بوجود المحكم والمتشابه في أحاديثهم، وتبيّن أنّ الفقيه الحقّ هو من يمتلك أدوات الفهم والتمييز.
ثم إنّ التفاوت في أسلوب الخطاب يعود إلى عوامل موضوعيّة عدّة، أبرزها:
1ـ عمق القضايا الدينيَّة والعقائديَّة التي يتناولها المعصوم، وهي بطبيعتها تتطلّب مستوياتٍ متعدّدةً من البيان بحسب استعداد السامع وقابليّته للفهم.
2ـ تفاوت عقول الناس واستعداداتهم، مما يفرض تنوّعاً في الخطاب والتعبير بحسب درجة إدراكهم ومستوى وعيهم.
3ـ اختلاف الزمان والمكان والسياق الذي ورد فيه الكلام، ما يجعل الجواب يتنوّع حسب حال السائل والظرف المحيط.
وغيرها من العوامل. [للمزيد ينظر: شناخت نامه حديث ج2 ص270-285].
إذنْ: فوجود المتشابه ابتلاءٌ واختبارٌ، ويعدّ وسيلةً تعليميّةً للترقي العقليّ والفهم التدريجيّ، وهو طبيعةٌ في الخطاب التعليميّ والتربويّ، وليس خللاً.
وعليه، فإنّ القول بوجود صعوبةٍ أو تشابهٍ في بعض كلام المعصوم لا يعني أنّنا بحاجةٍ إلى معصوٍم آخر يشرح كلامه، بل توجد وسائل أخرى لفهم هذا الكلام المعقّد من غير التسلسل في العصمة، ومنها: الاعتماد على العلماء الثقات، وتراكم الفهم في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
فمن أهم أدوات فهم كلام المعصومين، بعد الرجوع إلى النصوص، هو الاستناد إلى العلماء الذين تتلمذوا على منهج أهل البيت، وامتلكوا أدوات الاجتهاد والاستنباط والتأمل في مجموع الروايات. فقد ورد عن الإمام (عليه السلام): «فأمّا مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يُقلّدوه» [تفسير العسكري ص300].
وهذا دليلٌ صريحٌ على أنَّ المرجعيَّة في بيان معاني الدين لا تنحصر في المعصوم، بل تشمل الفقيه العادل المتخصّص، الجامع لشروط الاجتهاد.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ حديثنا صعبٌ مستصعبٌ، لا يحتمله إلا ملكٌ مقرّبٌ أو نبيٌّ مرسلٌ أو عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان» [الكافي ج1 ص401].
فإنّ الإمام نفسه يصرّح بأنّ مَن امتحن الله قلبه بالإيمان ـ أي العالم الورع الراسخ ـ يمكنه أن يتحمّل هذا الحديث ويفهمه، فيفتح الباب لاجتهاد غير المعصومين ضمن ضوابط دقيقة.
بل إنّ الأئمة وضعوا معايير واضحةً للرجوع إلى العلماء وفهم المتشابهات، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا» [مستطرفات السرائر ص109]، فدور الأئمة هو وضع الأصول العامة، ودور العلماء هو الاستنباط والتفريع بناءً على هذه الأصول.
وقد أكّد الإمام الرضا (عليه السلام) ذلك بقوله: «إنّ في أخبارنا متشابها كمُتشابه القرآن، ومحكماً كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا» [عيون أخبار الرضا ج1 ص261]، فأعطى بذلك معياراً علمياً لحل المتشابهات، قائماً على إرجاع المتشابه إلى المحكم.
وقد أثمر هذا المنهج تراكماً علمياً هائلاً في التراث الشيعيّ، حيث توالت أجيال الفقهاء والعلماء ـ بدءاً بالشيخ الصدوق والمفيد والطوسيّ، ومروراً بالمحقّق والعلّامة، ووصولاً إلى فقهاء العصر الحاضر ـ على تفسير النصوص وفهم أقوال الأئمة، لا بعصمةٍ، بل باجتهادٍ علميٍّ مؤصّل مستندٍ إلى أدواتٍ علميَّةٍ ومعايير منهجية.
بل إنّ في الحوزات العلميَّة، وفي منهج دراسة العلوم الدينيَّة، يوجد بحثٌ دقيقٌ ومتكاملٌ في كيفيَّة التعامل مع النصوص المتشابهة والمتعارضة وسبل معالجتها، وهو ما يُبحث بشكلٍ مفصّلٍ في باب التعادل والتراجيح من علم الأصول، وهذا الباب ليس اجتهاداً عقليَّاً صرفاً، بل مرتكزٌ على الروايات الشريفة والنصوص المعتبرة، التي وردت في المصادر الحديثيَّة، كـ(باب اختلاف الحديث) في الكافي الشريف، وغيرها من كتب الحديث.
وتُعرف هذه الروايات باسم (الأخبار العلاجيَّة)، لأنّها وضعت قواعد محدَّدة للتعامل مع ظاهرة تعارض النصوص، كالأخذ بالأوثق، أو الأشهر، أو الموافق للكتاب والسُنَّة، وغير ذلك من الضوابط التي أرساها أهل البيت (عليهم السلام) بأنفسهم، مما يُغني عن الحاجة إلى معصومٍ جديدٍ عند كلِّ مورد غموضٍ أو اختلاف.
إذن: القول بأنّ وجود المحكم والمتشابه والعام والخاص يستلزم وجود معصومٍ آخر دائماً غير صحيح، وفيه خلطٌ ومغالطة؛ لأنَّ الحاجة إلى البيان لا تستلزم دوماً أنْ يكون المبيّن معصوما، بل قد يبيّن المعصوم نفسه كلامه في مواضع أخرى.
أو يبيّنه معصومٌ آخر ضمن سلسلة الهداية نفسها - كما فعل الأئمة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) -. أو يبيّنه العلماء غير المعصومين، بناءً على القواعد التي وضعها المعصومون، كما هو حال الفقهاء والمفسّرين.
فالحاجة إلى البيان لا تؤدّي إلى التسلسل، بل يكفي وجود منهجٍ علميٍّ رصينٍ يعود إلى الأصل المعصوم، يُحتكم إليه في الفهم، ويُتّبع في التأويل.
فالحقيقة أنّ السؤال ينطوي على (مغالطة نفي الوسط)، حيث يفترض أنّ أمَامَنا خياران فقط: إما أنْ يكون كلام المعصوم واضحاً بالكامل لجميع الناس، أو نحتاج إلى معصومٍ جديدٍ لكلّ بيان.
لكن في الواقع هناك خيارٌ ثالثٌ معقولٌ جداً، وهو: وجود نظامٍ داخليٍّ للبيان ومن أمثلتِه (مُحكمٌ يُفسّر المتشابه، رواياتٌ تُقيّد الروايات، اجتهادٌ علميٌّ مضبوط)، وهذا ما قاله الأئمة أنفسهم.
ثـم إنَّ وجود التشابه أو العموم في كلام المعصوم لا يعني بالضرورة الغموض المفضي إلى الحيرة، بل قد يكون له حكمته التربويَّة والعقليَّة، مثل اختبار الناس وتمحيص نيَّاتهم، وفتح باب التعمق للراسخين، وتوسيع دائرة الاجتهاد.
وقد ذكر القرآن أنّ فيه محكماً ومتشابهاً، ولم يذكر أنَّ هذا يستلزم نبيَّاً بعد النبيّ لفهمه، بل أرجع المتشابه إلى المحكم، ودعا إلى اتباع الراسخين في العلم.
والحمد لله رب العالمين
اترك تعليق