هروب الخليفة الثاني من المعارك
السؤال: هل روي عندنا - أهل السنَّة - أنَّ عمر بن الخطَّاب قد هرب من المعارك، أم المذكور مجرَّد أكاذيب شيعيَّة؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية لابدَّ أنْ يُعلم بأنَّنا نعتقد بأنَّ الصحابة ليسوا على مستوىً واحدٍ في الاشتراك بالفضائل النفسيَّة؛ إذ كان فيهم المؤمن والمنافق، والعادل والفاسق، والعالِم والجاهل، والشجاع والجبان، إلى غير ذلك.
وما يرتبط بأصل السؤال، فإن الخليفة الثاني لَـم يكن معروفاً بالشجاعة في الحروب، ولم يسجّل له التاريخ موقفاً مشرّفاً في المعارك، بل سجّل أنّه كان يهرب من ساحة المعركة عند اشتداد الوطيس، ويفرّ من الزحف؛ مخالفاً لما عاهد عليه الله ورسوله، كما سيتبيّن.
ثمَّ ليُعلم ثانياً أنَّ نقل الحقائق وبيان التاريخ المشين لبعض الصحابة ليس من قبيل السبِّ والشتم حتَّى يُقال بأنكم تسبُّون الصحابة! كلَّا، فإنَّ السبَّ شيءٌ وبيان الحقائق وفق الأدلَّة شيءٌ آخر، كما هو واضح.
إذا بان هذا واتَّضح فنقول: لقد ورد في جملةٍ من مصادر أهل العامَّة فرار بعض الصحابة من المعارك والحروب، ومن جملتهم عمر بن الخطَّاب، ومن ذلك:
أوَّلاً: معركة أحد:
روى الطبريُّ بالإسناد عن عاصم بن كُليب، عن أبيه قال: «خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران -وكان يعجبُهُ إذا خطب أنْ يقرأها - فلما انتهى إلى قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾، قال: لما كان يوم أحد هزمناهم، ففررتُ حتَّى صعدتُ الجبل، فلقد رأيتُني أنزو كأنَّني أرْوَى) [تفسير الطبريّ ج7 ص327].
أقول: الملاحَظ في نقل السيوطيّ والصالحيّ لفظ (هُزمنا) بدل (هزمناهم)، مع أنَّ المرويَّ في الجميع عن كُليب! بل إنَّ السيوطيَّ خرَّج الرواية عن ابن جرير نفسه! فقال ما لفظه: (أخرج ابن جرير، عن كُليب قال: «خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أنْ يقرأها، فلما انتهى إلى قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾، قال: لما كان يوم أحد هُزمنا، ففررتُ حتَّى صعدتُ الجبل فلقد رأيتني أنزو كأنَّني أروى») [الدر المنثور ج2 ص355]. وقريبٌ منه ما نقله محمَّد بن يوسف الصالحيّ في كتابه [سبل الهدى ج4 ص206]، فدقق.
قال فخر الدين الرازيُّ: (قال القفَّال: والذي تدلُّ عليه الأخبار في الجملة أنَّ نفراً منهم تولُّوا وأبعدوا، فمنهم من دخل المدينة، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب، وأمَّا الأكثرون فإنَّهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك. ومن المنهزمين عمر، إلَّا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين، ولم يبعد، بل ثبت على الجبل) [تفسير الرازيّ ج9 ص398].
وقال شهاب الدين الألوسيُّ: (ذكر أبو القاسم البلخيُّ: أنَّه لم يبق مع النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) يوم أحد إلَّا ثلاثة عشر - إلى قوله - وأمَّا سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل، وعمر بن الخطَّاب... كان من هذا الصنف) [روح المعاني ج2 ص312].
ثانياً: معركة الخندق:
روى ابن سعد بسنده عن عائشة قالت: «خرجتُ يوم الخندق أقفو آثار الناس، فسمعتُ وئيد الأرض ورائي - تعني: حسَّ الأرض -، فالتفتُّ فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مِجنَّه، فجلستُ إلى الأرض، قالت فمر سعدٌ وهو يرتجز ويقول:
«لبث قليلاً يدرك الهيجا حمل * ما أحسن الموت إذا حان الأجل» قالتْ: وعليه درعٌ قد خرجت منه أطرافه، فأنا أتخوَّف على أطراف سعد - وكان سعد من أطول الناس وأعظمهم - قالت: فقمتُ فاقتحمتُ حديقة، فإذا فيها نفرٌ من المسلمين، وفيهم عمر بن الخطَّاب، وفيهم رجلٌ عليه تسبغةٌ له، تعني المغفر، قالت: فقال لي عمر: ما جاء بكِ؟ والله إنّكِ لجريئة» [الطبقات الكبرى ج3 ص390، وينظر: مصنَّف ابن أبي شيبة ج20 ص487، مسند أحمد ج42 ص26، وغيرها].
وعلَّق عليه المحقق شعيب الأرنؤوط بالقول: (حديثٌ حسن) [الإحسان لابن بلبان ج15 ص501].
ثالثاً: معركة الحديبية:
روى محمَّد بن عمر الواقدي، وفيه: «وكان أوَّل من بعث رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) إلى قريش خراش بن أمية الكعبيّ على جملٍ لرسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) يُقال له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عن رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) ما جاء له، ويقول: إنما جئنا معتمرين، معنا الهدي معكوفاً، فنطوف بالبيت ونحل وننصرف. فعقروا جمل النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم)، والذي ولي عقره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله، فمنعه من هناك من قومه حتَّى خلوا سبيل خراش، فرجع إلى النبيّ ولم يكد، فأخبر النبيَّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) بما لقي، فقال: يا رسول الله، ابعث رجلاً أمنع مني، فدعا رسول الله عمر بن الخطَّاب ليبعثه إلى قريش، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، قد عرفت قريش عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني... قال عمر: ولكن أدلُّك يا رسول الله على رجلٍ أعزَّ بمكَّة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفَّان» [المغازي ج2 ص600، وينظر: سيرة ابن هشام ج2 ص315، تفسير الطبريّ ج22 ص224، الثقات لابن حبان ج1 ص298، وغيرها].
وعلَّق عليه المحقق شعيب الأرنؤوط بالقول: (إسناده حسن، محمَّد بن إسحاق، وإنْ كان مدلِّساً وقد عنعن إلَّا أنَّه قد صرَّح بالتحديث في بعض فقرات هذا الحديث، فانتفت شبهة تدليسه، ثمَّ إنه قد توبع، كما سيأتي برقم: (18928) (18929). وبقية رجاله ثقاتٌ، رجال الشيخين) [مسند أحمد ج31 ص220].
وقال شمس الدين الذهبيُّ: (قال عروة في نزوله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) بالحديبية: فزعت قريش لنزوله عليهم، فأحبَّ أنْ يبعث إليهم رجلاً؛ فدعا عمر ليبعثه فقال: إني لا آمنهم، وليس بمكَّة أحدٌ من بني كعب يغضب لي، فأرسل عثمان) [تاريخ الإسلام ج2 ص382].
رابعاً: معركة خيبر:
روى ابن أبي شيبة بسنده عن عبد الله بن بريدة الأسلميّ عن أبيه قال: «لما نزل رسول الله بحضرة خيبر فزع أهل خيبر وقالوا: جاء محمَّد في أهل يثرب، قال: فبعث رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) عمر بن الخطَّاب بالناس فلقي أهل خيبر، فردُّوه وكشفوه هو وأصحابَه، فرجعوا إلى رسول اللَّه (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) يجبِّن أصحابه ويجبِّنه أصحابه، قال: فقال رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): لأعطينَّ اللواء غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله، قال: فلمَّا كان الغد تصادر لها أبو بكر وعمر، قال: فدعا علياً وهو يومئذٍ أرمد، فتفل في عينه وأعطاه اللواء. قال: فانطلق بالناس، قال: فلقي أهل خيبر ولقي مرحباً الخيبريَّ - إلى قوله - قال: فالتقى هو وعليٌّ فضربه عليٌّ ضربةً على هامته بالسيف، عض السيف منها بالأضراس، وسمع صوت ضربته أهل العسكر، قال: فما تتام آخر الناس حتَّى فتح لأولهم» [المصنَّف ج21 ص14، وينظر: مسند البزار ج10 ص318، تاريخ دمشق ج42 ص96، وغيرها].
وروى أيضاً بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «كان عليٌّ يخرج في الشتاء في إزار ورداء - ثوبين خفيفين -، وفي الصيف في القباء المحشو والثوب الثقيل. فقال الناس لعبد الرحمن: لو قلتَ لأبيك فإنَّه يسهر معه. فسألتُ أبي فقلتُ: إنَّ الناس قد رأوا من أمير المؤمنين شيئاً استنكروه، قال: وما ذاك؟ قالوا: يخرج في الحرِّ الشديد في القباء المحشو والثوب الثقيل ولا يبالي ذلك، ويخرج في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين والملاءتين لا يبالي ذلك، ولا يتقي برداً، فهل سمعتَ في ذلك شيئاً، فقد أمروني أنْ أسألكَ أنْ تسأله إذا سمرتَ عنده؟ فسمر عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الناس قد تفقَّدوا منك شيئاً - إلى قوله - قال: فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) بعث أبا بكر، فسار بالناس فانهزم حتَّى رجع إليه، وبعث عمر فانهزم بالناس حتَّى انتهى إليه، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): لأعطينَّ الراية رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُهُ، يفتح الله له، ليس بفرَار، فأرسل إليَّ فدعاني فأتيته وأنا أرمد لا أبصر شيئاً، فتفل في عيني وقال: اللَّهم أكفهِ الحرَّ والبرد، قال: فما آذاني بعد حرٌّ ولا برد» [المصنَّف ج18 ص59].
أقول: قوله (صلَّى الله عليه وآله): «ليس بفرَّار»، تعريض بالأوَّل والثاني، والفرَّار من صيغ المبالغة التي تعني كثرة الفِرار والهروب.
وروى الحاكم النيسابوريُّ بالإسناد عن جابر الأنصاريّ (رضي الله عنه) قال: «إنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) دفع الراية يوم خيبر إلى عمر... فانطلق، فرجع يجبِّن أصحابه ويجبِّنونه»، قال الحاكم: (هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم، ولم يخرجاه) [المستدرك ج3 ص40].
وروى أيضاً بالإسناد عن عليٍّ (رضي الله عنه) قال: «سار النبيُّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) إلى خيبر، فلمَّا أتاها بعث عمر... وبعث معه الناس إلى مدينتهم أو قصرهم، فقاتلوهم فلم يلبثوا أنْ هزموا عمر وأصحابه، فجاءوا يجبِّنونه ويجبِّنهم»، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وصحّحه الذهبيّ في التلخيص [المستدرك ج3 ص40].
خامساً: معركة حنين:
ورد في صحيح البخاريّ عن أبي محمَّد - مولى أبي قتادة -: أنَّ أبا قتادة قال: «لما كان يوم حنين، نظرتُ إلى رجلٍ من المسلمين، يقاتل رجلاً من المشركين، وآخر من المشركين يختله فأسرعتُ إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني، وأضرب يده فقطعتها، ثمَّ أخذني فضمَّني ضمَّاً شديداً حتَّى تخوَّفت، ثمَّ ترك، فتحلَّل، ودفعتُه ثمَّ قتُلته، وانهزم المسلمون وانهزمتُ معهم، فإذا بعمر بن الخطَّاب في الناس، فقلتُ له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله! ثمَّ تراجع الناس إلى رسول الله» [صحيح البخاريّ ج5 ص155].
قال أحمد بن إسماعيل الكورانيُّ في قوله: («وانهزم المسلمون وانهزمتُ معهم، فإذا بعمر بن الخطَّاب في الناس». هذا يدلُّ على أنَّ عمر من المنهزمين) [الكوثر الجاري ج7 ص316]. ولكنه يشكِّك فيه اعتماداً على كلام أهل السير! وهو كما ترى، إذْ ما ورد في البخاريّ صريحٌ جداً في هروب الرجل وفراره من المعركة.
ثمَّ إنَّ الملاحَظ في خبر البخاريّ هذا أنَّ عمر بن الخطَّاب قد عزا فراره من المعركة إلى قضاء الله وقدره، وهو عين الجبر والإلجاء!
والنتيجة النهائيَّة من كلِّ ذلك، أنَّ هروب الرجل في الحروب مرويٌّ في أهمِّ مصادر القوم، وليس من أكاذيب الشيعة كما قال السائل.. والحمد لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق