اتهام النبي (ص) بالتبول واقفا
السؤال: يقولُ مخالفونا: لماذا يا شيعة تطعنون بنا، حيثُ وردَ في كتبنا أنّ رسول الله (ص) بالَ واقفًا، فقد وردَ في الكافي عندكم أنّ الإمام الصادق (ع) قد سُئِلَ عن الرجل يبول واقفًا فقال: «لا بأسَ به».
الجواب:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
يشيرُ السؤالُ إلى ما رواهُ البخاريُّ ومسلِمٌ بعدّة ألفاظٍ مختلفةٍ وبالإسناد إلى حُذيفةَ بن اليمان أنّه قال: «أتى النّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) سُباطةَ قومٍ فبالَ قائمًا ثمّ دعا بماءٍ فجئتُهُ بماءٍ فتوضّأ» [صحيح البخاريّ ج1 ص62، صحيح مسلم ج1 ص157]، وسُباطةُ القومِ هي: (الموضع الذي يُرمى فيه التراب والأوساخ وما يُكنسُ من المنازل) [يُنظر: لسان العرب ج7 ص209].
أقول: مضافًا إلى ما في مضمون هذه الرّواية من الإساءة لشخص النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فإنّ تخريج البخاريِّ ومسلِمٍ لها في صحيحيهما إساءةٌ أعظم؛ حيثُ شكّل اندراجُها في سلسلةٍ من الرّواياتِ المسيئةِ الأخرى إساءةً لمقامه السامي، ولم يَعُد خفيًّا على المسلمين أنّ هذه الرّوايات ونظائرها هي التي دفعتْ ببعضِ الدّول الغربيّة إلى التّجاوزِ على ساحةِ قُدسِ الحبيبِ المصطفى (صلى الله عليه وآله).
وتوجد عدّةُ وُجوهٍ تدلُّ على فساد هذه الرّوايةِ، فمن تلك الوجوه:
1 ـ ما ذكراهُ مُعارَضٌ بما رُوي بسندٍ صحيحٍ عن عائشةَ أنّها قالت: «مَن حدّثَكم أنّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه [وآله[ وسلم) بالَ قائمًا فلا تُصدّقوه، ما كانَ يبولُ إلّا جالسًا»، قال الترمذيّ: (هو أحسنُ شيءٍ في هذا البابِ وأصحّ)، وصحّحه الألبانيّ [يُنظر: صحيحُ سننِ النّسائيّ ج1 ص8].
ووردَ عن شُريحٍ قال: «سمعتُ عائشةَ تُقسِمُ باللهِ، ما رأى أحدٌ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه [وآله[ وسلم) يبولُ قائمًا منذ أُنزِل عليه الفرقانُ»، قال الحاكمُ: (هذا حديثٌ صحيحٌ على شرطِ الشّيخينِ ولم يُخرجاه...) [المستدرك ج1 ص583].
أقول: كلام عائشة واضحٌ في لزوم عدم تصديق ما يُنسَبُ إلى النّبيِّ (صلى الله عليه وآله) من التبوّلِ واقفًا، حيثُ إنّها ناظرةٌ في كلامها إلى ما كان ينسبُه البعضُ إلى النّبيِّ من ذلك – ومن جملتها الرّوايةُ المنسوبةُ إلى حذيفة -، فهذا الكلام منها مُفسِّرٌ ومُوضِّحٌ لخطأ هذه النسبة.
2 ـ من المعلوم أنّ (التبوّلَ وقوفًا) مكروهٌ شرعًا، وقد روى الفريقانِ نهيَ النّبيِّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك [يُنظر: السُّننُ الكبرى ج1 ص165]، وبالتالي فكيف يُعقَلُ ارتكابُه لما نهى عنه؟!
3 ـ إنّ التبوّل وقوفًا – وخصوصًا في العَلَنِ وبمرأىً من النّاس – هو ظاهرةٌ مذمومةٌ عند العقلاءِ كما هو معلوم؛ لأنّها مُنافيةٌ للمروءةِ، وتخدش الحياء، وتَحُطُّ من وقار صاحبِها وقدرِه في أعين النّاسِ [يُنظر: فقهُ السُّنّة ج1 ص35]، خصوصًا بالنسبةِ لذوي الشرف والسُّؤددِ، فكيفَ للنّبيِّ (صلى الله عليه وآله) – والحالُ هذه – أنْ يتخلّفَ عن طريقة العقلاءِ وهو سيّدُهم؟!
فهي – حينئذٍ – تَقدحُ في عِصمته الثابتة بأدلّةٍ قطعيّةٍ؛ لأنّ العصمة تعني: (التنزّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنّسيان، كما تعني وجوبَ أنْ يكونَ مُنزَّهًا حتّى عمّا يُنافي المروءة، كالتبذُّلِ بين النّاس من أكلٍ في الطريق أو ضحكٍ عالٍ، وكلِّ عملٍ يُستهجَنُ فعلُه عند العُرف العامّ) [يُنظر: عقائد الإماميّة ص54].
4 ـ إنّ الرّواية صرّحت بوقوعِ التبوّل في سُباطةِ قومٍ، وهذا يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) قد تصرّفَ في مِلك الغير تصرّفًا سيّئًا ومؤذيًا لهم ومن دون إذنِهم، وذلك مُحرَّمٌ شرعًا، وفيه نقضٌ لما جاءَ به من تشريعٍٍ كما هو واضح، وقد حارَ علماءُ العامّة في حلّ هذه المُعضلة، فذكروا وُجوهًا لمعالجتها، لكنّها غير وافيةٍ.
وأنت بعد هذا كلِّه، ألا تَعجب من تنزيه علماءِ العامّة عُمرَ بن الخطّاب عن التبوّل قائمًا وروايتِهم عنه أنّه قال: «ما بلتُ قائمًا منذ أسلمتُ» [سننُ الترمذيّ ج1 ص17، المُصنَّف لابن أبي شيبة ج2 ص265]، في الوقت الذي يتّهمون النبيَّ (صلى الله عليه وآله) بهذا الفعل المشين؟!
ألا يعني ذلك أنّ عمرَ بن الخطّاب أكثرُ التزامًا بالشّريعة وأرجحُ عقلًا وأكملُ أخلاقًا من النبيِّ (صلى الله عليه وآله)؟!
لكن لماذا العجب؟ فإنّهم فضّلوا عمرَ على النبيِّ (صلى الله عليه وآله) في الكثير من المواطن التي لا تخفى على المسلمين، وكما قال القائل: (إذا لم تَستَحِ فاصنَعْ ما شِئتَ).
وأمّا محاولة تبرير هذه الإساءة عن طريق الإشكال بما رواه ثقةُ الإسلام الكلينيُّ بسندٍ صحيحٍ عن ابنِ أبي عُمير، عن رجلٍ، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: «سألتُهُ عن الرجل يَطلي فيبولُ وهو قائمٌ؟ قال: لا بأسَ به» [الكافي ج6 ص500]، فهي محاولةٌ بائسةٌ لا تخرج عمّا اعتاده العامّة والسلفيّة من الدفاع عن رموزهم ولو من خلال الطّعن برسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ إذ يُلاحظُ بشأن هذه الرواية ما يأتي:
1 ـ إنّ الرّواية مُنزَّلةٌ على الضّرورة، فإنّ قولَه: «الرّجلُ يَطلي فيبولُ»، يعني طلاءَ الجسد بالنّورة لإزالة الشّعر عنه، وقد روى الصدوق: «أنَّ من جلس وهو متنوّرٌ خِيف عليه الفتق» [من لا يحضره الفقيه ج1 ص115]، فيكون الرجل مضطرّاً للتبوّل واقفاً.
ومن جهةٍ أخرى فإنّ موضع الطلاء هو الحمّام عادةً وقد ذكر بعض العلماء أنّ الحكم بالكراهة إنّما هو لأجل التوقّي من البول، فلو كان في حالٍ لا يفتقر معه إلى التوقّي منه كما لو كان في الحمّام ونحوه فقد زالت الكراهة [ينظر: نهاية الأحكام ج1 ص82].
ومن الواضح أنّ رواية مسلم والبخاريّ خاليةٌ من أيِّ عذرٍ يجعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مضطرّاً إلى التبوّل واقفاً، ولاسيّما وأنّه في مكانٍ عامٍّ ولا خصوصيّة فيه كالتي في الحمّام حتى نتعقّل الحادثة.
2ـ إنّ التبوّل وقوفاً وإنْ جاز لعوام الأمّة على كراهة، غير أنّ ذلك لا يكشف عن جوازه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ وذلك لاختلاف المقامات والتكاليف بينه وبين الأمّة، فلا تجوز المقايسة المذكورة، وقد تقدّم: أنّ ذلك ممّا ينافي عصمته (صلى الله عليه وآله) لكونه فعلاً منافياً للمروءة.
والخلاصة: أنّ اتّهام النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بهذا الفعل المشين هو فريةٌ واضحةٌ لا ينهض عليها دليل، وأنّ رواية الكافي أجنبيةٌ عنها تماماً.
ختاماً: هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
اترك تعليق