علّة تسمية أهل البيت (ع) باسم معادن العلم

السؤال: من الصّفاتِ أو الألقابِ التي أُطلِقَتْ على أهلِ البيتِ (عليهم السلام) أنّهم «مَعدِنُ العِلمِ». لكنّ العلومَ التي وصلتنا عنهم قليلةٌ جدًّا، وغالبُها علومٌ غيبيّةٌ أو تتعلّقُ بالدِّين، والبشرُ الذينَ أتَوا بعدَهم جاؤوا بعلومٍ عظيمةٍ جدًّا واكتشافاتٍ علميّةٍ باهرةٍ. إذن: لماذا هم مَعدِنُ العِلمِ دون غيرِهم؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

يشيرُ السائل إلى اللقب الثابت لأهل البيت (عليهم السلام) والذي نطقت به النصوص الشرعيّةُ حتّى عقد ثقة الإسلام الكلينيُّ بابًا أسماه: (باب: أنَّ الأئمّة مَعْدنُ العلم وشجرة النّبوّة ومُختَلَف الملائكة) [يُنظر: الكافيّ ج1 ص221].

وهو لقبٌ معروفٌ منذ صدر الرّسالة على ما يبدو من بعضِ الرّوايات، كقول أبي بكرٍ للزهراء (عليها السلام) عقبَ خُطبتِها حولَ فدك: (صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنتِ مَعدِنُ الحكمة ومَوْطِنُ الهُدى والرحمة، ورُكنُ الدين، وعَينُ الحُجّة، لا أُبعِدُ صوابَكِ، ولا أُنكِرُ خِطابَكِ...) [الاحتجاج ج1 ص144].

وقد ذكرنا غير مرّةٍ: أنّ هنالك ثلاثة عناصر رئيسةً تتميّز بها ألقابُهم (عليهم السلام) من كونها ألقابًا منصوصةً شرعًا، كما أنّها موضوعةٌ لحِكمةٍ وغايةٍ من ورائها، مُضافًا إلى وجود مناشئَ انتزاعٍ لها؛ ومن هنا كانت كاشفةً عن كمالاتهم التامّة.

وما نريد الإجابة عنه هنا هو ما يتعلّق بعلومهم (عليهم السلام) ليكشف عن مدى كونهم (معادِن العلم) وذلك من خلال بيان أمور:

الأمر الأوّل: في تأصيل أهل البيت (عليهم السلام) للعلوم:

من الواضحِ أنّه ليس لموحِّدٍ مُسلمٍ أنْ يجرؤَ على إنكار رجوعِ العلوم كلِّها إلى اللهِ تعالى، فإنّه (جلّتْ قدرتُه) هو الذي: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، ثمّ إنّ هذه العلوم لم تكنْ مَركوزةً في أصل خِلقة الإنسان وفِطرتِه، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وإنّما حصلت له عن طريق الكَسب والتعلُّم من الأنبياءِ والمُرسلين (عليهم السلام) الذين تلخّصت وظيفتهم في وضعِ النّاس على المسارِ الصّحيح، وتعريفهم بآليّات الحفاظ على الاستقامة، وتأصيل العلوم للنّاس بالمقدار الذي يَدفَعُهم نحو إعمال عقولهم واستخراج دفائنها واستكشاف فُروع تلك العلوم في سبيل التّطوّر والتّقدّم في مختلف مجالات الحياة، والوصول إلى سعادة الدّنيا والآخرة، قال أمير المؤمنين (عليهِ السّلام): «... فبعثَ فيهم رسلَه، وواتَرَ إليهم أنبياءَه؛ ليستأدوهم ميثاقَ فِطرتِه، ويذكّروهم منسيَّ نعمتِه، ويَحتَجّوا عليهم بالتّبليغِ، ويُثيروا لهم دفائنَ العقولِ...» [نهجُ البلاغة ص43].

ويشهد بذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، وكذا قال (عزّ وجلّ): {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80].

فإذا عرفتَ ذلك، فإنّ علوم جميع الأنبياء قد اجتمعتْ عند رسول الله وأهل بيته (صلّى الله عليه وعليهم أجمعين) بوصفهم أمناءَ الرّسالة الخاتمة، فكانت وظيفة أهل البيت (عليهم السلام) واقعةً في طَولِ وظيفة الأنبياء والمُرسلين (عليهم السلام) بأن يُعلِّموا النّاس أصول العلوم ويتركوا لهم فروعه، فعن الإمام الصّادق (عليه السّلام) قال: «إنّما علينا أن نُلقيَ إليكم الأصولَ، وعليكم أن تُفرّعوا»، وقال الإمامُ الرّضا (عليه السّلام): «علينا إلقاء الأصولِ إليكم، وعليكم التّفريع» [مستطرفاتُ السّرائر ص109].

ومن شواهد ذلك: ما رواه أبو الأسودِ الدّؤليّ، قال: «دخلتُ على أمير المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالبٍ (عليه السّلام) فوجدتُ في يده رُقعةً، فقلتُ: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنّي تأمّلتُ كلام العرب فوجدتُه قد فَسَدَ بمخالطة هذه الحمراء - يعني الأعاجم - فأردتُ أنْ أضع شيئًا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثمّ ألقى إليَّ الرّقعة وفيها مكتوبٌ: الكلامُ اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ، فالاسمُ ما أنبأَ عن المُسمّى، والفعلُ ما أُنبئَ به، والحرفُ ما أفادَ معنى، وقال لي: ‌ا‌نْحُ ‌هذا ‌النَّحوَ» [تاريخُ النّحو للطّنطاويّ ص22].

فكما ترى أنّ الإمام (عليه السّلام) وضع أصول هذا الِلم، ثمّ ترك البحث والتّفصيل في الفروع لأبي الأسود، فكذلك هو الحال في سائر العلوم الدّنيويّة الأخرى، ومِنْهُ يظهَرُ السرُّ في تلقيبهم (عليهم السلام) بلَقَب (معادن العلم)

الأمرُ الثّاني: في تنوّعِ علومِهم (عليهم السّلام):

اعلَم – هَداكَ اللهُ – أنّه لا حزازةَ ولا منقصةَ فيما لو غلَب على علوم أهل البيت (عليهم السلام) وصفُ الغيبيّة والدينيّة، بعد قضاء العقل بضرورة تقديم الأهمّ على المُهِمّ، وبعد كون الدين أفضل من الدنيا، والآخرة خيرٌ من الأولى.

على أنّنا - مع ذلك كلّه- لو عُدنا إلى الواقع لوجدناه غير متوافِقٍ مع هذه الدعوى على الإطلاق؛ فإنّ لهم (عليهم السّلام) حضورًا واسعًا ومتميّزًا في ميادين العلوم الأخرى أيضًا، فقد تكلّم أمير المؤمنين (عليه السّلام) في حقول علم الاجتماع، وعلم النّفس، وعلم النّفس التربويّ، والتّاريخ، والآداب واللّغات، وعلوم العربيّة: كالبلاغة والنّحو والصرف، والعلوم العسكريّة، والسّياسة، والإدارة.

ومن شواهد ذلك – مثلًا – عهده لمالك الأشتر، وما كُتبَ فيه من عشرات الشّروحات والدراسات والرّسائل الأكاديميّة؛ ككتاب "عهد الأمير إلى المسؤول والمدير"، وكتاب "عهد الأشتر: مضامين ودلالات"، وكتاب "الإمام عليّ وأصول الحكم"، وغير ذلك.

وهكذا هو الحال بالنسبة إلى بقيّة علوم الطّبيعة الفيزيائيّة والحيويّة، ففي منتصف عام (1968م) نظّم مركز الدّراسات العُليا المتخصّص في تاريخ الأديان، التّابعُ لجامعة استراسبورغ الفرنسيّة، دورةً علميّةً حول الشّيعة الإماميّة وتاريخهم العلميّ والحضاريِّ، وحول حياة الإمام الصّادق (عليه السّلام) على وجهِ الخصوص، وقد ضمّتِ الدّورةُ خمسًا وعشرين شخصيّةً من أساتذة جامعاتٍ، وعلماء استشراقٍ من أمريكا وفرنسا وبريطانيا وسويسرا وبلجيكا وإيطاليا، وعلماء من دُوَلٍ عربيّةٍ وإسلاميّةٍ، منهم السيّد موسى الصّدر.

وقد بحث الحاضرون في عدّة مجالاتٍ علميّةٍ طرح فيها الإمام (عليه السّلام) نظريّاتٍ رائدةً وفريدةً في الفيزياء، والكيمياء، والفلك، وفي علم الطّبِّ أيضًا، فمن ذلك مثلًا: نظريّة الضّوء ونِسبيّة الزّمن، ونظريّةُ علاقة الضّوء بنقل بعض الأمراض، ونظريّة نشأة الكون، وكذا نظريّة أشعّة النّجوم، وغير ذلك، وقد نشرت دار المطبوعات الجامعيّة في فرنسا عام (1970م) أبحاث تلك الدّورة العلميّة في كتابٍ باللّغة الفرنسيّة بعنوان: الإمام الصّادق في نظر علماء الغرب، ونقله إلى العربيّةِ د. نور الدين آل عليّ – أكاديميٌّ من جامعة السّوربون، فليُراجَعِ الكتابُ المذكورُ بعنايةٍ وتدبّرٍ.

كما يُمكن الرجوعُ إلى موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالبٍ – المجلّد العاشر، وكتاب معرفة الإمام – المجلّد الثامن عشر، للوقوف على تفاصيل علومهم (عليهم السلام).

الأمر الثّالث: ظُهور جميع علومهم (عليهم السلام) عند قيام دولتهم:

من الضّرورة بمكانٍ أنْ نعلم أنّ ما وصلَنا عنهم (عليهم السلام) من العلوم والمعارف لا يعني نهاية ما لديهم، وإنّما اقتضت الحِكمة الإلهيّةُ ظهور بعض علومهم وتأخير الأعمِّ الأغلب منها إلى حين قيام دولة العدل الإلهيِّ في آخر الزّمان، كما صرّحت بذلك أخبار الظّهور المُقدّس عند الفريقَين

منها مثلًا: ما أخرجه الرّاونديّ بإسناده إلى أبان، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال:

«العِلمُ سبعةٌ وعشرون حرفًا، فجميع ما جاءت به الرُّسُلُ حرفان، فلم يعرف النّاس حتّى اليوم غير الحرفَين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين حرفًا فبثَّها في النّاس، وضمَّ إليها الحرفَين حتى يبثَّها سبعةً وعشرين حرفًا» [الخرائج والجرائح ج2 ص841].

ومن هنا جاءت الآيات وروايات الفريقَين لتؤكّد بأنّ عصر الظّهوِ المُقدّس عصرُ الرّخاء والتقدّم والكمال الحقيقيّ للحياة البشريِّ، وبشكلٍ لم يسبقْ له مثيلٌ على مرِّ التّاريخِ. [يُنظر: معجم أحاديث الإمام المهديّ ج1 ص189، عصر الظّهور للكورانيّ ص259، عصر الظّهور للزّماني ص137].

ولعلّ من وُجوه الحِكمة في تأخير علومهم (عليهم السّلام) إلى ذلك الحين أمرَين:

أحدُهما: إعراض الأمّة عنهم (عليهم السلام):

فقد جاء في كتب اللّغة:

(المَعدِن: مكانُ كلِّ شيءٍ وأصلُه ومُبتدَؤُه، وعَدَنتُ البلدَ: تَوَطَّنتُه. وعَدَنتِ الإبلُ بمكانٍ كذا: لَزِمَته فلم تبرَحْ. ومنه قولُه تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: جنّاتُ إقامةٍ. ومنه سُمِّيَ المعدِنُ – بكسرِ الدّال – لأنّ النّاسَ يُقيمونَ فيهِ الصّيفَ والشّتاء. ومركزُ كلِّ شيءٍ: مَعدِنُه.) [العين ج2 ص42، الصّحاح ج6 ص2162].

فإذا تبيّن لك ذلك، فاعلم أنّ حال العلم كحال الذهب والفضّة، فكما أنّ الحصول عليهما يستوجب البحث عنهما في مواطنهما ومظانّهما، فكذلك يجب البحث عن العلم عندهم (عليهم السلام)؛ لأنّهم معدن العلم وأصله ومكانه وينبوعه، وهذا يقضي بضرورة أنْ تفيء الأمّة إليهم، وتجهد في طلب العلم النافع منهم، قال الراغب الأصفهانيّ: (...كما أنّ من الماء ما يجري من غير فعلٍ بشريّ، ومنه ما يُعاين تحت الأرض، لكن لا يُتوصَّل إليه إلّا بدلوٍ ورشاء، ومنه ما هو كامنٌ يحتاج في استنباطه إلى حفرٍ وتعبٍ شديد، فإن عُني به أُدرك وإلّا بقي غير منتفَعٍ به، كذا العلم في نفوس البشر، منه ما يوجد من غير تعلم بشريّ وذلك حال الأنبياء، فإنّه تَفيض عليهم المعارف من جهة الملأ الأعلى، ومنه ما يوجد بأدنى تعلّم، ومنه ما يصعب وجوده كحال أكثر عوامّ الناس) [الذريعة إلى مكارم الشريعة ص186]. فالعلم إذن لا يحصل من دون سعيٍّ وطلب؛ ولكنّ الأمّة - وللأسف - هي التي أعرضت وتخلّت عنهم (عليهم السلام) بمحض اختيارها، فكان ذلك سبباً في حرمانها من بركات علومهم.

والآخر: أنّه على تقديرِ رجوعِ الأمّةِ إليهم (عليهم السلام) فإنّ الغالبيّةَ العظمى من أبنائها ليسوا مؤهّلين من ناحية الإخلاص والأمانة بحيث يمكن بذلُ العلمِ إليهم؛ ليصونوه ويعطوه حقَّه وينفعوا الناس به بكلّ أمانةٍ؛ ومن هنا تجد حملةَ علومهم أناساً قليلين على مرّ العصورِ؛ ولهذا كان يتأوّه ويتألّمُ بابُ مدينة العلم أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّتِه لكُميل بن زياد، فيقول: «... آه، إنّ ههُنا لعلماً جمّاً - وأشار إلى صدرِه - لو أصبتُ له حَمَلةً، بلى، أصبتُ لَقِناً غيرَ مأمونٍ عليه، مستعملاً آلةَ الدينِ للدنيا، ومستظهراً بنِعَمِ اللهِ على عبادِه، وبِحُجَجِه على أوليائِه، أو منقاداً لحَمَلَةِ الحقِّ لا بصيرةَ له في أحنائِه، ينقدحُ الشكُّ في قلبِه لأوّلِ عارضٍ من شبهةٍ. أَلا لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذّةِ، سلسَ القيادِ للشهوةِ، أو مغرَماً بالجمعِ والادّخارِ، ليسا من رعاةِ الدينِ في شيءٍ، أقربُ شيءٍ شبهاً بهما الأنعامُ السائمةُ، كذلك يموتُ العلمُ بموتِ حامليه» [نهج البلاغة ص496]، وكما ترى فإنّ بعضَ الناسِ خونةٌ للعلمِ، وبعضَهم تُجّارٌ فيه، ومنهم سفهاءُ لا بصيرةَ لهم، يضعونَ العلمَ في غيرِ مواضعِه، حتّى يتسبّبَ ذلك في كوارثَ عالميّةٍ؛ كما هو الحالُ فيمن وضعَ علمَ الذرّةِ والعلومِ التي تتعلّقُ بالجيناتِ وتطويرِ الفايروساتِ تحت تصرّفِ الدولِ الغربيّةِ وقوى الاستكبارِ والشرّ، فألحقَ بسببِ ذلك دماراً هائلاً بالبشريّةِ.

الأمر الرابع والأخير: في مصير ما بذلوه من علومهم (عليهم السلام):

بقي أنْ تعرف - أخي السائل الكريم - بأنّ قلّة ما وصلنا من علومهم (عليهم السلام) لا يرجعُ في الحقيقة إلى قلّة ما بذلوه منها، وإنّما هنالك عوامل عديدةٌ أدّت إلى نسبة علومهم إلى غيرهم.

منها: عامل التقيّة التي أملتها الظروف السياسيّة والأمنيّة على أهل البيت (عليهم السلام)، كما هو معروفٌ من سيرتِهم.

ومنها أيضاً: سرقة المجهودات العلميّة من قبل خصومهم، حتّى أنّك تجد بعض المؤرّخين من أتباع السقيفة ومدرسة الخلافة يفعلون ذلك في وضحِ النهار، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تجد البعض ينسب علم ‌النحو تارةً إلى ‌نصر ‌بن ‌عاصمٍ الدؤليّ [الفهرست ص61]، وأخرى إلى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج!، مع أنّ جميع روايات الفريقين تؤكّد أنَّ واضعه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي ذلك يقول الأنباريّ: (... فأمّا زَعْمُ من زَعَمَ أنّ أوّل من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ‌ونصر ‌بن ‌عاصمٍ ‌فليس ‌بصحيحٍ؛ لأنّ عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضاً نصر بن عاصمٍ أخذه عن أبي الأسود، ويُقالُ عن ميمون الأقرن. والصحيحُ أنّ أوّل من وضع النحو عليُّ بنُ أبي طالبٍ [عليه السلام]؛ لأنّ الروايات كلّها تُسندُ إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسندُ إلى عليّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه [عليه السلام]) [نزهة الألبّاء ص21].

ونظيرُ ذلك ما في علم الكيمياء، فليس خفيّاً على أحدٍ من المسلمين أنّ ‌جابر ‌بن ‌حيانٍ الكوفيَّ، المولود سنة (101 هـ)، والمتوفّى سنةَ (161 هـ)، كان قد تلقّى هذا العلم عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وألّف فيه كتاباً يشتملُ على ألف ورقةٍ تتضمّنُ رسائل الإمامِ في هذا العلم، وهي خمسمائة رسالة [ينظر: فهرست ابن النديم ص435، وفيات الأعيان ج1 ص327، الوافي بالوفيات ج11 ص27].

إلّا أنّك مع ذلك تجد المؤرّخ العثمانيَّ حاجي خليفةَ يزعمُ أنّ جابراً تتلمذ في الكيمياء على يد خالد بن يزيد بن معاوية [ينظر: كشف الظنون ج6 ص137]، مع أنّ خالداً هلك سنة (90 هـ)، أي قبلَ ولادة جابر بن حيّان بأحدَ عشرَ عاماً! [ينظر: تاريخ دمشق ج16 ص315]، وهلمّ جرّاً في علومٍ أخرى.

ختاماً، هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.