المقصر في حق أهل البيت (ع)

السؤال: ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: «والمُقَصِّرُ في حقِّكم زاهقٌ»، ما هو المراد بـ «المقصّر»؟ وكيف يكون الإنسان مقصِّراً في حقّ الأئمّة (عليهم السلام)؟

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب:

يحسن بدايةً الوقوف على معاني الكلمات الواردة في هذا النصّ، وهي: (التقصير) في اللغة: يعني التواني والتهاون في أداء ما ينبغي فعله، وهو ضد التمام والكمال [ينظر: معجم مقاييس اللغة ج5 ص96]. و(الحقّ): هو ما له ثبوتٌ وحقيقة، بخلاف (الباطل) الذي لا واقع له ولا ثبات. [ينظر: التحقيق في كلمات القرآن ج2 ص262]. و(الزهوق): يقصد به الهلاك والانمحاق، كما يُقال: «زَهَقَت نفسه» أي خرجت روحه، ويقال: «زهق الباطل» أي اندثر واضمحلّ. [ينظر: التحقيق في كلمات القرآن ج4 ص377].

والملاحظ أنّه بعد أنْ تسرد الزيارة الجامعة الكبيرة سلسلةً من كمالات الأئمّة (عليهم السلام) وخصائصهم الجليلة، تأتي عبارة: «والمُقَصِّرُ في حقِّكم زاهقٌ» لتُبرز في موقعها دلالةً مهمةً، حيث وردت مباشرةً بعد تلك الصفات الرفيعة، مما يشير إلى أنَّ المطلوب من الناس تجاه هذه الذوات المقدسة هو عدم التقصير في حقّهم مطلقاً.

وبناءً على ذلك، فإنَّ المقصود من عبارة: «والمُقَصِّرُ في حقِّكم زاهقٌ»: أنّ مَن توانى أو أهمل في أداء ما يجب عليه تجاه أهل البيت (عليهم السلام) من الاعتقاد والمودّة والطاعة والمتابعة، فهو من الهالكين عند الله تعالى. وليس المقصود بالتقصير مجرّد ضعف المحبَّة أو قلة المعرفة، بل يشمل كلّ تفريطٍ في حقوقهم الواجبة التي رتّبها الشرع على الناس، كالاعتراف بإمامتهم، والتسليم لمقامهم، واتّباع أوامرهم، والبراءة من أعدائهم، والرجوع إليهم في الدين، ومودّتهم، والدفاع عنهم، والاستغاثة بهم في الشدائد. فمن قصّر في شيءٍ من هذه الحقوق الأساسيَّة فقد عرّض نفسه للبعد عن خط الهداية، وكان من الزاهقين، أي الهالكين الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة. [ينظر: في رحاب الزيارة الجامعة ص361].

فهذه العبارة: «والمُقَصِّرُ في حقِّكم زاهقٌ»، تشير إلى أحد الاتجاهين المنحرفين في النظر إلى مقام الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، فكما أنّ هناك مَن بالغ فيهم إلى حدّ الغلو، فإن هناك مَن انحرف في الاتجاه المقابل، فانتقص من قدرهم، وجعلهم في مرتبةٍ لا تليق بهم.

وهذا الاتجاه المقصّر لم يقدّر مكانتهم الإلهيَّة كما ينبغي، بل حصر شخصياتهم في إطارٍ بشريٍّ محض، وغفل عن أبعادهم الغيبيَّة المرتبطة بالوحي والعصمة والاختيار الإلهيّ، فاختزل دورهم الرساليّ في صورةٍ محدودةٍ لا تعبّر عن حقيقتهم التي اصطفاهم الله تعالى لأجلها، وجعلهم حججه على خلقه.

فالمقصّرون في حقهم هم مَن عرفوا فضائلهم ومقاماتهم، ولكنهم فرّطوا في أداء ما يجب تجاههم من طاعةٍ وموالاةٍ وتسليمٍ، فانشغلوا عنهم، أو قدّموا غيرهم عليهم، أو شكّكوا في مقاماتهم، مع علمهم بها، فهؤلاء هم المعنيّون بقول الزيارة: «زاهق»، أي أنّهم هالكون بسبب تفريطهم العمديّ في حقوق الأئمة (عليهم السلام).

أما الذين لم تصلهم المعرفة الصحيحة، أو لم تتضح لهم معالم الحق بشكل يُلزمهم بالحجة، فهؤلاء يُعدّون من القاصرين لا المقصرين، والفرق بينهما: أن القاصر هو من لم يعلم، ولا يتعمد الإهمال، فهو غير مكلفٍ من الناحية الشرعيَّة لعدم توفر شرط العلم، بخلاف المقصر الذي يعلم لكنه يتوانى ويتهاون عن عمد، وهذا هو المذموم عقلا وشرعاً. فالقاصر لا يُعدّ من الهالكين، لكنّه أيضا لا يبلغ درجة اللازمين المتبعين؛ لأنّ اللحوق بهم متوقفٌ على ملازمتهم، كما أنه لا يُثاب ثواب أهل المعرفة واليقين، وتفصيل الفرق بين القاصر والمقصر مع دليله له محلّه الخاص به [ينظر: أدب فناء المقربين ج6 ص269].

وقد دلّت الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) على أنَّ من قصّر في حقهم - سواء بإنكار إمامتهم أو بعدم أداء ما يجب له عليهم - يكون من الهالكين والمعذبين؛ لِـما في ذلك من التهاون بأمر الله تعالى الذي أمر بولايتهم واتباعهم.

ومن أبرز هذه الأحاديث: حديث ابن أبي يعفور، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذابُ أليم: من ادّعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إمامًا من الله، ومن زعم أنّ لهما في الإسلام نصيبًا» [الكافي ج1 ص374]. وهذا الحديث يُبيّن أنَّ جحد الإمام الحق، أو الاعتراف بإمامٍ باطلٍ، أو القول بأنهما متساويان في الدين، من الذنوب العظيمة التي تُوجب الحرمان من الرحمة الإلهية يوم القيامة والعذاب الشديد.

وفي حديث الحلّال، قال: «سألت الإمام الكاظم (عليه السلام): «أخبرني عن الذي يعاندك، ولا يعترف بحقك من أولاد فاطمة، هل هو كغيره من الناس في العقاب؟ فقال الإمام (عليه السلام): كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: عليهم ضعفُ العذاب» [الكافي ج1 ص377]. وهذا يدلّ على أن من كان من ذرية فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ثم عاند الأئمة (عليهم السلام) مع علمه واطلاعه على حقهم، فإن عقوبته أعظم؛ لأن الحجة عليه أتم، ومقامه يفرض عليه أن يكون أقرب إلى الحق، فإذا انحرف مع كل ذلك، استحق عذاباً مضاعفاً.

فهذان الحديثان يوضّحان أنّ التقصير في حقّ الأئمة (عليهم السلام) ـ جحداً أو تجاهلاً أو عناداً ـ هو من أسباب الهلاك والعذاب في الآخرة.

الخلاصة:

تدلّ الروايات الشريفة عن أهل البيت (عليهم السلام) على أنَّ التقصير في حق الأئمة، سواء بإنكار إمامتهم أو التفريط في طاعتهم ومودتهم، يُعدُّ من موجبات الهلاك والعذاب، فقد بيّن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ من جحد إماماً منصوباً من الله تعالى، أو ادّعى الإمامة زوراً، أو ساوى بين الإمام الحق والباطل، فهؤلاء لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة ولهم عذابٌ أليم، كما أشار الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى أنّ من كان من ذرية الزهراء (عليها السلام) ثم عاند الأئمة (عليهم السلام) مع علمه، فله عذابٌ مضاعف؛ لأن الحجة كانت أوضح في حقه، وبهذا يتضح أنّ المقصرين في معرفتهم أو في أداء حقوقهم ـ مع علمهم ـ هم من الهالكين، بخلاف القاصرين الذين لم تبلغهم الحجة.

والحمد لله ربّ العالمين.