الاستثمار السلبي للمناقبيات في التاريخ الإسلامي

: سيد حسن العلوي

جُبِل الإنسان بفطرته على التطلّع إلى معرفة أسباب ما يقع من الأحداث, والنظر في مناشئها, ورصد تأثيراتها في حاضر حياته ومستقبلها. وحيث إنّ أكثر ما مضى من الأحداث قد غطّى عليه الزمان جِلباباً, وصار في عُهدة الغيب, كانت حاجة الإنسان في كشف ما ورِّي عن الأنظار من تلك الأحداث المؤثّرة في حياته, ولم تدركه الظّاهرات من الحواس منها, إلى أن يبذل الوسع في سبر غمار الماضي, وتجميع ما وصل إليه من أثارةٍ، أو علمٍ, واستقصاء ما يمكن دَركُه من مدوّناتٍ ومحفوظات, والتقاط القدر الأكبر من الشواهد في زوايا الزمان والمكان والذّوات, لتكتملَ عنده صورةُ الحدث واضحةً صافية غير مشوهة، ولا مشوشة .

فإنّ الأحداث التاريخية - أيُّ حدثٍ كان - لابدّ في تحقق وقوعه خارجاً، من زمان لحدوثه، ومكان لوقوعه، وذوات تُرسِم معالمه

هذا التدخل الإنساني في حفظ الأحداث، وتدوينُها وتجميع شتاتها هو الذي يشّكل اللّبنات الأساسية لعلوم التاريخ. وهنا يأتي دور المتخصّص والباحث ليقوم بتحليل تلك الأحداث, وما طرأ على المجتمع الإنساني, وما عرض عليه في محطاته الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وكل ما مرّت به من أوضاع وأحوال، ومن ذلك نتبيّن مدى ارتباط قضايا التاريخ بحاضرنا ومستقبلنا, فالتاريخ وإن كان محكوماً بآنات الزمان, وذات الحدث بعنوانه الخارجي وإن كان ينقضي بفواتها, إلاّ أنّ آثاره تبقى غضّة حيّة, تعيش في العصور كلها, تسجل حضورها الواقعي, وتلقي بظلالها على المجتمع الإنساني في كل مجالاته الحضارية.

 ونتبيّن - من جهةٍ أخرى - الحاجة إلى اليد التخصصيّة الأمينة لتنقية ما شابَ التاريخ من أدران الوضع والتدليس, وإلقاء الأضواء على مساحات من الأحداث التاريخية طالما كانت قاتمة, وكتابته بالأسلوب العلمي التحليلي, ودراستهُ دراسة موضوعية شاملة, وهي بذلك تسدي إلى الإنسانيّة خدمة جليلة تُحمد عليها ما تعاقب الجديدان وسار النيّران. 

ولو لوينا عنان الكلام صوب تاريخنا الإسلامي, لوجدناه لم يزغ عما أسلفنا من مزايا ومشكلات, بل قد تتسع دائرة البحث في قضايا التاريخ الإسلامي عن غيرها, لارتباطها بقضايا عقائديّة, وفقهيّة, ونفسيّة عاطفيّة, وغير ذلك من الأمور المهمة ذات التأثير المرتبط بكيان الأمة الإسلامية وأفرادها.

 إنّ كتب التاريخ الإسلامي قد اكتفت بعرض الروايات للوقائع ، وفق تسلسل زمني، أو وفق هيكلية معينة، من دون أن تهتم بدوافع الحدث ومحفزاته القريبة، فضلاً عن ربطه بسائر المؤثرات والأسباب، أو الظروف والمناخات التي أنتجته، أو أثرت فيه بصورة أو بأخرى. أمّا النتائج والآثار ، فهي غائبة كلياً -أو تكاد- عن ذهن الراوي أو المؤرّخ ، إلاّ فيما شذ وندر.

  فكثير من القضايا في تاريخنا الإسلامي أُظهرت على غير حقيقتها، وأُلبست غير ثيابها, وزورت تفاصيلها، وشوّهت صورتها حتّى وصلت إلينا، ونقلت لنا وكأنها قضيّة مختلفة تماماً عن واقعها الأصلي. فإنّ التاريخ الإسلامي لم يُدرس دراسة موضوعيّة شاملة, وإنّما تُعرض له أكثر البحّاث بصورة تقليديّة, وهي لا تجدي المجتمع, ولا تفيده, كما لا تلقي الأضواء على واقع تلك الأحداث التي جرّت للمجتمع كثيراً من الخطوب والمشاكل, وأوقفت مسيرته نحو التطوّر حسبما يريده الإسلام. 

 ولا يصحُّ أن نقول: إنّ هذه الأمور قضايا تاريخية قد انقضى زمنها، ولا ينفعنا البحث عنها في حياتنا المعاصرة، ولا جدوى في بذل الجهد لدراستها، ولابدّ من الاهتمام بالأمور الّتي تنفع واقعنا المعاصر فحسب؛ لأنّ قضايا التاريخ الإسلامي ليست سرداً مجرّداً لأحداث مضت, بل لها ارتباطها الوثيق بمصادر التشريع عند المسلمين، فعندما تحلل قضية تاريخية, فإنّها قد تنتهي إلى قضايا أخرى لها مساس مباشر بحياة المسلم في أبعاد: (عقائديّة وولائيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصادية), وقد يكون لها تأثير في فهم آية أو رواية، أو في فهم حكم شرعي، أو استنباطه. يقول مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذا المعنى "واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتّى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله, فإنّهم عيش العلم وموت الجهل"(1). 

ولطالما كانت كتابة التاريخ والبحث فيه, وجبةٌ شهيةٌ، ومادةٌ دسمةٌ يعتاش عليها من يتقرّب إلى السلطان زلفى, فتراه لا يترك منقبة إلاّ وأضفاها للحاكم, ولا يدع أصلاً تاريخياً يسوؤه من قريب أو بعيد إلاّ  وحذفه, أو بتر منه, أو أضاف, أو كنّى, ليعمّي على الحقيقة, وفي أحسن الأحوال يؤوّل مضمونه لصالح الحاكم المغتصِب للحكم, أو يبرّره, وهذه هي مشكلة الأقلام المأجورة في كل فترات التاريخ، فللسلطة والأموال بريق مخادع على حروف التدوين، يراه الباحث بوضوح حين يجد في مدونات المؤرخين ما يكاد يخطف بالأبصار، من أكداس التراث الحافل بالمناقبيات، والمزايدات المحشورة للتفخيم والتعظيم، وحتّى الاستعانة بالغيبيّات، لإضفاء القداسة على الحاكمين وأتباعهم، وتطويعاً للمحكومين بكمّ أفواههم عن تهوين أقدار حكّامهم، أو تهويل أخطائهم، فإنّ ذلك من قدر الله, فعليهم الرضا والتسليم، وإلى جانب ذلك يجد الهمزَ واللمزَ للخصوم. فكثير من المؤرخين كان لا يكتب ولا يثبت إلاّ ما ينسجم مع نفسيّة الحاكم، ويتفق وقوله مهما كان مخالفاً للواقع والحقيقة.

  ومن يتأمل في مجمل أسماء المؤرّخين, وزمن كتابتهم للتأريخ, يتبيّن عنده بوضوح أنّ الكثير من اُسس التأريخ الموجود بين أيدينا, قد أُنشئت في العهد الأموي والعباسي, ولا يخفى على ذي لب ما دأب عليه رجال وساسة الدولتين من محاولات متكررة لإضفاء هالة الشرعيّة والقدسيّة على حكّامها, مع دفع أصحاب الحق الشرعيين عن مناصبهم. فكان من الطبيعي أن يعمد النظامان، وأتباعهما إلى تشذيب كلّ الأصول التاريخيّة الّتي لا تتوافق مع الخط الذي تنتهجه الدولتان، أو تسخير الأقلام لأن تتوافق في مساراتها، والتي تتناغم مع التوجهات غير المشروعة لرواد هاتين الدولتين. ولمّا كان تاريخ الحاكمين سجّل الأحداث بأقلام مأجورة لهم، فقلّ أن تجد حَدَثاً سجلته الأقلام بأمانة تامة، وإذا وجدت ذلك القليل فهو أيضاً فلتة، وإلاّ فتشويه الحقيقة، وتلميع الصورة شأن جلّ رواة الأحداث.

  ولعل مشكلة التناقض والتعارض في القضايا التاريخية التي وصلت إلينا وابتلينا بها, كان موردُ التزوير والتطبيل للحكّام ووضعُ المناقبيات لهم يمثّل حصةَ الأسد بالنسبة إلى بقية أسباب موارد التعارض تلك 

فقد اعتمد الكثير من المؤرخين ما يصل إليهم من النصوص التاريخيّة دون إخضاعها للنقد والمناقشة، فتناقلته الأفواه, وجاء مَنْ بَعدَهَم ليسجّل ما كتبوا على أنّها حقائق تاريخية مسلّمة, بل هو كالذكر المنزَل المُحَكم يؤوَّل ما يخالفه لصالحه وحسابه, وإلاّ يهمل ويضرب به عرض الجدار لو لم يمكن الجمع, فابتنت على (هذه المسلّمات) جملةٌ واسعة من التصورات والمعتقدات ، واختلط السليم بالسقيم, والحق بالباطل, حتى عَميت المسالك على كثرة من الباحثين.

  يقول الطبري في مقدمة كتابه الشهير بتاريخ الأمم والملوك: " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، فلْيُعلم أنّه لم يُؤتَ في ذلك من قِبَلنا، وإنّما أتى في بعض ناقليه إلينا، وإنّا إنما أدّينا ذلك على نحو ما أُدّيَ إلينا "(2).

وقال ابن الأثير في مقدمة كتاب (الكامل في التاريخ), في سرده لكيفية كتابة تاريخه: " فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطَّبري، إذْ هو الكتاب المعوّل عند الكافّة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أُخِل بترجمة واحدة منها "(3).

 وقد غصّ تأريخه المذكور بأخبار سيف بن عمر الأسدي, رغم ما اتفق عليه الجميع من الطّعن به والتشهير بمذهبه, فقد " قال ابن معين: ضعيف الحديث, وقال مُرّة: فُلَيس خير منه. وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثُه حديثَ الواقدي. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي والدارقطني: ضعيف. وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامّتها منكَرة, لم يتابع عليها. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. قال: وقالوا إنّه كان يضع الحديث. قلت: بقية كلام ابن حبان : اتهم بالزندقة. وقال البرقاني عن الدارقطني: متروك. وقال الحاكم: أتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط, قرأت بخط الذهبي: مات سيف زمن الرشيد "(4) 

فكان من أبرز أوجه استثمار النصّ التاريخي هو عملية النقد والتأويل والمقارنة بين النصوص واستنتاج أوجه الاختلاف بينها حول أية واقعة, للوصول إلى صورة واضحة للقضية التاريخية, تقترب إلى الواقع ما استطاع الباحث إلى ذلك سبيلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)نهج البلاغة،ج2، ص32.

(2)تاريخ الطبري،ج1، ص5.

(3) الكامل في التاريخ، ج1، ص3.

(4) تهذيب التهذيب، ج4، ص259.