شبهة: أزلية المادة وأبديتها, فلا صانع لها ولا موجِد.

: اللجنة العلمية

جواب الشبهة:

المقدمة: وفيها أمران:

الأول: إنّ الهدف من دعوى كون المادة أزلية – بعد الفراغ من بطلان الصدفة – رفض فكرة الإله؛ لأنه على القول بحدوثها فلابد لها من محدث, فهروباً من مؤنة البحث عن موجِد لهذا الكون, فالحل هو القول بأزلية المادة, وحينئذٍ لا نحتاج أنْ نثبت أنّ هناك صانعاً, وأمّا إذا أبطلنا فكرة أزلية المادة من أساسها, فحينئذٍ لا بد من القول بوجود الصانع لهذا الكون.

بعبارةٍ أخرى: إنّ إثبات وجود شيء يتصف بالأزليّة، والأبديّة معناه أنّه قديم, ومعنى ذلك لم يسبقه عدم, ولم يلحقه عدم, ومعنى ذلك, أنّه ليس بحادث, ولذا فلا يبحث عن وجود محدث له.

والمادي يزعم أنّ (المادة) أزليّة وقديمة, وأمّا الإلهي عنده أنّ (الله تعالى) هو أزلي وقديم.

وطبعاً لا يمكن الظفر بدليل واحدٍ ينتصر للمادي, وجميع الأدلة هي بصالح الإلهي, كما سيأتي بيان بعضها.

الثاني: معنى الحادث: فقد عُرّف بتعريفين:

وهو ما كان وجوده مسبوقاً بالعدم, أي لم يكن موجوداً ثمَّ وجِد بعد ذلك .

 ما كان وجوده مسبوقاً بالغير, كما في العلقة كانت مسبوقة بالغير، أي بالنطفة, والمضغة مسبوقة بالغير، أي بالعلقة, وهكذا.

وبعبارة أخرى: القديم لا بداية له, والحادث له بداية, أو قل القديم لم يسبقه زمان, بل الزمان منفيٌ عنه جزماً, أمّا الحادث سبقه الزمان, بحيث لم يكن موجوداً, وهذا شاملٌ لكل الموجودات الإمكانيّة.  

هل التغير يلازم الحدوث؟

الجواب: نعم , فإذا ثبت أنّ شيئاً معيناً متغير فقطعاً هو حادث. وعليه فإذا أثبتنا أنّ المادة متغيرة, فهي حادثة, وتحتاج إلى محدث, وليست بأزلية لتستغني عنه.

وهذا ما نبحثه في أمور عدة:

أولاً: المادة Matter في الفيزياء: هي كلّ ما له كتلة وحجم, وللمادة خصائص مختلفة تشمل الحجم والكتلة والكثافة.  

ثانياً: المادة يُمكن أن تكون في حالات مختلفة تحدد هيئاتها، وحالات المادة الطبيعية بشكل رئيسي على أربعة أطوار: الصلبة والسائلة والغازية والبلازما. 

ثالثاً: إنّ التغير الحاصل في المادة له أشكال مختلفة:

(أ) إذا كان في نفس الجوهر تسمّى صيرورة, كصيرورة المعدوم موجوداً بفعل الموجِد.

(ب) وإنْ كان في المكان تسمّى نقلة أو انتقال, كحركة الاجسام من نقطة إلى اخرى في المكان. 

(ت) وإنْ كان في الكم تسمّى نمواً أو ذبولاً أو زيادةً أو نقصاناً.

(ث) وإنْ كان في الكيف تسمّى استحالة, كاستحالة اللون الاحمر إلى أصفر, كم لو اُضيف إليه اللون الابيض, أو كاستحالة الماء البارد حاراً وبالعكس.

فالحادث لم يكن ثمَّ كان, فأصبح موجوداً بعد أنْ لم يكن, وأصبح كبيراً بعد إنْ كان صغيراً, وأصبح حاراً بعد أنْ كان بارداً, وهكذا.

رابعاً: تحول المادة إلى طاقة ينافي الأزلية: إنّ المادة يمكن أن تتحول إلى طاقة، والطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة طبقًا لقوانين معينة، وهذا يدل على أنّ الوجود ليس صفة ذاتيّة ملازمة للمادة، أو الطاقة؛ إذ لو كان الوجود صفة ذاتيّة ملازمة للمادة، لَمَا انفك عن المادة وفارَقها بأي حال من الأحوال، ولو كان الوجود صفة ذاتيّة ملازمة للطاقة، لَمَا انفك عن الطاقة وفارقها بأي حال من الأحوال، أي: إن الوجود صفة عارضة للمادة والطاقة، تعرِضُ للمادة، أو الطاقة في بعض الأحوال، وتنفك عن المادة أو الطاقة في بعض الأحوال، وهذا يستلزم أن يكون لوجود المادة بداية؛ أي: المادة مُحدَثة ليست أزلية، وكل محدَثٍ له محدِثٌ.

والنتيجة: إنّ المادة وهي كتلة, ومتغيرة, وقد ثبت ذلك بالقوانين الفيزيائية الطبيعية لابد من أنْ تكون حادثة, لعروض حالات الحوادث المختلفة عليها لأستحالة قدم المتعير. 

الطريق العلمي لإثبات حدوث المادة:

والطريق لإثبات ذلك بما توصل إليه العلم الحديث – في الفيزياء – من أنّ هناك انتقالاً من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة, ولا يوجد عكس هذه الظاهرة, فالكون يتجه إلى درجةٍ تتساوى فيه جميع الأجسام من حيث الحرارة، وعند ذلك لن تتحقق عمليات كيميائية أو طبيعية، ويستنتج من ذلك: أنّ الحياة في عالم المادة أمر حادث ولها بداية، إذ لو كانت موجوداً أزلياً وبلا ابتداء لزم استهلاك طاقات المادة، وانصباب ظاهرة الحياة المادية منذ زمن بعيد. 

وإلى ما ذكرنا أشار " فرانك آلن " أستاذ علم الفيزياء بقوله: " قانون " ترموديناميا " أثبت أنّ العالم لا يزال يتجه إلى نقطة تتساوى فيها درجة حرارة جميع الأجسام، ولا توجد هناك طاقة مؤثرة لعملية الحياة، فلو لم يكن للعالم بداية، وكان موجوداً منذ الأزل لزم أن يقضى للحياة أجلها منذ أمد بعيد، فالشمس المشرقة والنجوم والأرض المليئة من الظواهر الحيوية وعملياتها أصدق شاهد على أن العالم حدث في زمان معين، فليس العالم إلا مخلوقا حادثا(1).

*وقد أعلن العلماء: إنّ قوانين (الديناميكا الحرارية) قد أخذت تدلهم على أنّ لهذا الكون بداية، ولابـد لـه مـن مبدئ من صـفاته العقـل، والإرادة واللانهايـة، ويجب أن تخالـف طبيعتـه طبيعة المادة الّتي تتكون من ذرات تتآلف بدورها من شحنات أو طاقات، لا يمكن بحال بحكم العلم أن تكون أبديّة أزلية.

*يقول أستاذ العلوم الطبيعية في جامعة ميتشيغان الأمريكية "إيرفنج وليام نوبلوتشي":(فعلم الفلك مثلاً يشير إلى أنّ لهذا الكون بداية قديمة، وأن الكون يسير إلى نهاية محتومة، وليس مما يتفق مع العلم أن نعتقد أنّ هذا الكون أزلي ليس له بداية، أو أبدي ليس له نهاية، فهو قائم على أساس التغيير). 

*يقول جون كليفلاند كوثران من علماء الكيمياء والرياضة الأمريكان: (وتدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة، والآخر بسرعة ضئيلة، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية، ومعنى ذلك أيضاً أنها ليست أزلية، إذ أن لها بداية, وتدل الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية، بل وجدت بصورة فجائية، وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد، وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لابد أن يكون مخلوقاً، وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين كونية محدودة، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان).

*يقول الدكتور دونالد روبرت (...أما عن تحديد عمر التكوينات الجيولوجية مثل مواد الشهب وغيرها، فقد أمكن باستخدام العلاقات الإشعاعية أنْ نحصل على صورة شبه كمية عن تاريخ الأرض, ويستخدم في الوقت الحاضر عدد من الطرق المختلفة لتقدير عمر الأرض بدرجات متفاوتة من الدقة، ولكن نتائج هذه الطرق متقاربة إلى حد كبير، وهي تشير إلى إنّ الكون قد نشأ منذ نحو خمسة بلايين سنة، وعلى ذلك فان هذا الكون لا يمكن أنْ يكون أزليا, ولو كان كذلك لما بقيت فيه أية عناصر إشعاعية, ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية)(2).

الخلاصة:

لا يمكن أن تكون المادة أزلية، ولا يمكن أن يكون الكون أزليًا أيضاً، وقد تقدم الأسباب التي تدعو للجزم بأن المادة غير أزلية ، ولو كانت المادة أزلية، فمن ذا الذين وضع لها القوانين الطبيعية التي تحكم الكون كله لكيما يكون في انسجام يفوق الإدراك؟! وكيف تلاحمت العناصر المختلفة لتكوّن جميع المواد الّتي توجد على سطح الأرض؟! ومن الذي يضبط الكون بهذه الدقة المتناهية؟!.

وتعبير أن " المادة أزلية " هو تعبير غير منطقي؛ لأنّ المادة قابلة للتغيير، وليس من المعقول أنّ المتغير يكون أزليًا، والمادة تحمل في طياتها عنصر الضعف، وليس من المعقول أن يكون الضعيف أزليًا، إذاً المادة لا يمكن أن تكون أزلية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الإلهيات، السبحاني، ص31.

(2) اقتباس من القمص بولس عطية بسليوس - دراسات في علم اللاهوت.

الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي - الإلحاد وكيف نجابهه.