كيف يمكن خلق العالم من دون مادة سابقة ؟!
عبد الهادي عادل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . الإلحاد - في هذه الأيام - قد بسط مخالبه على الضعفاء بحدود بعيدة ... وقد واجهتنا العديد من الإشكالات من قبلهم لكننا نتصدى لبعضها... والبعض الآخر نبحث ونسأل عنها ... هناك شبهة تقول: إذا كان الله خالق الكون وما فيه، فنريد أن نعرف كيف يخلق الله المادة من اللا مادة ؟؟
الأخ عبد الهادي .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تقريرُ الشبهة:
كيف يمكنُ خلقُ العالمِ من دون مادّة سابقة، والحالُ أنّ العلماءَ توصّلوا إلى قانون حفظ المادّة "المادة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم" فالتّجارب أثبتت أنّ المادةَ لا تفنى ولا تستحدث، فهي محفوظةٌ في جوهرها متغيّرةٌ في صورها وأشكالها، فليس هناك شيءٌ يوجد من العدم ولا شيءٌ ينعدم، وإنّما هناك تحوّلٌ من صورة إلى صورة أخرى، ومع ذلك فكيف يقولُ الإلهي أنّ الكونَ بمادّته وصورته مخلوقٌ من دون مادة سابقة؟
قبلَ الإجابة لا بُدّ من بَيان مقدّمة يتّضحُ فيها خطأُ المنهج الذي أدّى إلى هذه الشبهة، والمقدمة هي أنّ قانونَ العلّية الذي يعترفُ به الإلهي والمادّي يفيد أنّه لا بدّ لكلّ معلولٍ من علّة ولكلّ ظاهرة من سبب عقلًا، وهذا أمرٌ عامّ يشملُ كلّ ظاهرة حادثةٍ بلا استثناء؛ وإلاّ لكان تخصيصاً للقاعدة العقلية.
غيرَ أنّ الماديّ تصوّر أنّه يجب أن يكون لكلّ معلولٍ مادّي علةً ماديّة تتحوّل إلى ذلك المعلول، فكما يجب أن يكونَ للباب مادةٌ سابقةٌ وهي الخشب ليتحوّل إلى هيئةِ وصورةِ الباب، كذلك يجبُ أن يكون لمادة الكون علّة ماديّة سابقةً تتحوّل إلى الصورة الفعليّة، وهذا هو ما يهدفُ إليه الماديّ ولكنّه غير ثابت؛ لأنّ ثبوتَه يكونُ بأحد طريقين: طريقُ العقل، وطريقُ التجربة.
أمّا العقل، فهو لا يحكمُ إلا بضرورة وجود علّةٍ للمعلول، أمّا أنّ هذه العلّة يجب أن تكونَ ماديّة فهذا ما لا يقرّه العقل.
إذن فالذي يحكمُ به العقل: هو أنّ للكون -بمادّته وصورته -علةً خالقةً له، وأمّا لزوم أن تكون تلك العلّةُ ماديّةً، فلم يثبت من جانب العقل، هذا هو غاية ما يقضي به العقل، وأمّا أنّ العلّة يجب أن تكون في كل الموارد علّةً ماديّةً فلم يدل عليه دليل ولا يقرّه عقل. ومنه يتبيّن الخلطُ الذي وقعَ فيه الماديّ، حيثُ خلطَ بين نفيّ العلّة مطلقاً، وبينَ نفي العلّة الماديّة لخلقه، فالذي أثبتتهُ الفلسفةُ وذهبَ إليه الإلهيونَ هو بُطلان عدمِ وجود علّة للعالم، بمعنى عدم تحقّق العالم بدون علّة، وأمّا نفيُ العلّة الماديّة للعالم فلا إشكالَ فيه؛ إذ لم يدلْ دليلٌ على لزوم كون العلّة في جميع الموارد علّةً ماديّةً.
وأمّا التجربةُ، فهي وإن قامت على أنّ لكلّ معلول ماديّ علّة، ماديّةً سابقةً، لكنّ نتيجتها تختصُّ بالشرائطِ التي قامت فيها التجربةُ، وأما تسريةُ نتيجتها إلى بدء الخلقة فغيرُ صحيحٍ قطعاً؛ وذلك لأنّ التجربةَ في المختبرات تقضي بأنّ لكلّ ظاهرةٍ ماديّة علّة ماديّة، إلّا أنّه يختصّ بمجال التجربة فقط ولا تعمُّ نتيجتُها بدءَ الخلقة - الذي هو محلّ الكلام - حتى يلزمَ من ذلك الاعترافُ بأنّ للمادة الأولى مادةً أخرى تحوّلت إليها.
فحاصلُ التجربة يختصّ بمجال جريانها ولا يتعدّى شرائطَها، ولذلك العلماءُ والبيولوجيون يصرّحون: "بأنّ الكائن الحيّ لا يمكنُ أن ينشأَ إلّا من مادةٍ حية" وهو صحيحٌ ونعترفُ به، غير أنّ ما ذكروهُ يختصّ بموردِ التجربةِ، وهو الحياةُ الحاليّة التي نعيش فيها، ولا يشملُ بدء الخلقة.
والسؤالُ الذي ينبغي طرحه: هو كيف نشأتِ الموجودات الأولى في الكرةِ الأرضية بعدَ انفصالها عن الشّمس، في حين أن العلم يقول: "أنّ الأرض كانت يوم انفصالها كتلةً ملتهبةً لا تصلحُ لوجود الحياة والأحياء فيها أبداً"؟ من هنا نستنتج أنّه من الممكن أن تنشأ موجوداتٌ حيّةٌ من موجوداتٍ غير حيّة في ظروفٍ خاصّة، وإن كانَ هذا الأمر غيرَ ممكن في الظروف الحاليّة.
والحقيقةُ أنّ منشأ خطأ الماديّ هو عدمُ وقوفه في مسيرِ التجربةِ وموردها إلاّ على فاعلٍ من نوع واحد (وهو الفاعل المادي) وتصوّر أنّ الفاعل وأنّ العلّة على إطلاقها منحصرةٌ بما وقف عليه في مسيرها، فأخذ يسألُ عن العلّة الماديّة التي خُلق منها الكون، ولم يعلم بأنّه لم يدلْ أّي دليل على حصرِ العلّة في العلّة الماديّة بحيث لا يكون هناك علّة غيرها.
وما أُعتمدَ عليه عن طريق التجربة، الإجابة عنه واضحة: فإنّ التجربةَ ليس لها الا الإثباتُ دون النفي، فالتجربةُ في مقدورها أن تثبتَ أنّ هنا علّة ماديّة، وأمّا أنّه ليسَ هنا علّة غير ماديّة فهيَ قاصرةٌ عن مثل هذا النفي وغير قادرةٍ عليه.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ الماديّ رأى في مسير التجربة أنّ كلّ فاعلٍ يفعلُ بواسطةِ المادة السابقة حيث يحولّها من صورةٍ إلى أخرى، كما يفعلُ النّجار بالخشب حيثُ يحوّله إلى سرير، فزعم أنّ كلّ علّة لا تفعل إلّا بمادةٍ سابقة تحوّلها إلى غيرها، ومن هنا أخذَ يسألُ عن المادّة التي صنعَ بها الخالق هذا الكون؟! والحالُ أنّ عدم إمكانِ صنعِ شيءٍ من دون مادةٍ سابقة، إنّما يصحّ بالنسبة إلى الفاعلِ المادي الذي لا يقومُ في الحقيقة إلا بتحريكِ أجزاء المادّة الحاضرة وضَمّ بعضِها إلى بعض؛ ولذلك لا بدّ لتحقّق فاعليّته من الاستعانة بمادةٍ موجودةٍ سلفاً؛ ليمكنهُ أن يركّبَ ويضمَّ بعضَها إلى بعض أو يُفرّق شيئاً عن شيء، وأمّا الفاعلُ المجرّد المطلق، فهو بقدرته المطلقة قادرٌ على خلقِ شيء وإيجاده من دونِ مادة سابقةٍ كما تفعلُ النّفس؛ فإنّها كفاعلٍ غير ماديّ تخلقُ الصورَ والمعاني والأفكار من دون مادة سابقة.
إذن، الفاعلُ الإلهي والخالقُ المبدعُ ليسَ شأنهُ شأنَ الفاعلِ المادي الذي يستعينُ بالمادة الجاهزة ليوجد ظواهرَ مادية جديدة، بل هو بما له من القدرةِ المطلقة قادرٌ على إيجادِ المادّة إبتداءاً وتحليتِها بأنواعِ الصور وإخضاعها للقوانين والسّنن.
ويمكنُ تلخيصُ ما سبق في نقاط:
أوّلاً: العالمُ بمادّته وصورته لا بدّ له من علّة، ولا يمكن لأحد إنكارهُ إلا السفسطائي.
ثانياً: العلّة لا تنحصرُ بالعلّة الماديّة، وأنّ التجربة وإن أثبتتْ ذلك النّوع من العلّة، ولكنّها ليس لها نفيُ نوع آخر من العلة.
ثالثاً: إنّ الماديّ خلطَ بين العلّة الماديّة ومطلق العلّة، فزعمَ أنّ نفيَ المادة التي يؤخذُ منها الكون مساوٍ لنفي أصل العلّة.
رابعاً: إنّ الفاعلَ في مجال الطبيعة، إنّما يفعلُ ويصنعُ بمعونةِ المادّة الحاضرةِ فيحوّلها من صورةٍ إلى صورةٍ أخرى، ولكنّ ذلك لا يوجب أن يكون هذا الأمر هو شأنُ كلّ فاعلٍ وعلّة؛ فإنّ من العللِ القويّة - أي المجرّدة عن المادة - تخلقُ المادة وتوجدها وتصوّرها كيف ما تشاء.
خامساً: إنّ النفس الإنسانية - وهي فاعلٌ غير ماديّ - تقومُ بصنع كثير من الصور والمعاني من دون مادة سابقة.
النتيجة:
إذن، قانونُ حفظ المادة "المادة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم" لا يتعارضُ مع الدّين، بل يُعدّ وثيقة في الدعوة إلى الله تعالى، فقانون أنّ المادة لا تفنى ولا تستحدث ولا توجد من عدم، والتي قالها العلماء بناءاً على ما يجري في التجربة المشاهدة في العالم المقيس، ولا يتحدثونَ عن وجدانيات وما وراء المادة، وبالتالي فالمادة في الواقع لا أستطيعُ أن أفنيها، ولا أستطيعُ أن أستحدثها، ولا أوجدها من العدم، فالذي يُفني ويستحدث ويُوجد من عدم هو الله وحده - سبحانه وتعالى-، وبالتالي فهذا القانون موافق للدّين، وليس معارضاً له.
ودمتم سالمين.
اترك تعليق