هَلْ يَصِحُّ القَولَ إِنَّ الطَّبِيعَةَ هِيَ الرَّبُّ؟
يَقُولُ البَعضُ: إِنَّنا لا نَستَطيعُ أَن نُمَيِّزَ بَينَ ما نُسَمِّيهِ الدِّينِ الآينِشْتَاينِيِّ والدِّينِ الغَيبِيِّ، وإِنَّنا حِينَما نَقُولُ الرَّبُّ فَلَهُ مَعانٍ مُختَلِفةٌ عِندَ النَّاسِ، فمَثلاً: عِندَما يَتَحَدَّثُ آينِشْتَاينُ عَنِ الرَّبِّ فهُو يَقصُدُ الطَّبِيعةَ، أَمَّا غَيرُهُ فيَقَصُدُ غَيبِيَّاً لا نَستَطيعُ أَن نَراهُ أَو نَلمَسُهُ أَو نَسمَعُ صَوتَهُ، وذلِكَ هُو الفَرقُ بَينَ مَن يُؤمِنُ بِالعِلمِ ومَن لا يُؤمِنُ بِهِ.
أَوَّلاً: أَشَرنا في أَجوِبةٍ سابِقةٍ إِلى أَنَّ عُلَماءَ الطَّبِيعةِ عِندَما يَتَحَدَّثُونَ عَنِ الإِيمانِ أَوِ الإِلحَادِ يَفقِدُونَ أَيَّ خُصُوصِيَّةٍ يَنالُونَها بِسَبَبِ مَرتِبَتِهِم العِلمِيَّةِ؛ وذلِكَ لأَنَّ الحَدِيثَ حَولَ هذهِ العَناوِينَ لا عَلاقَةَ لهُ بالعُلومِ الطَّبِيعيَّةِ.
فإِلَهُ آينِشْتَاينَ كمَا عَبَّرَ السَّائِلُ ليسَ لهُ عَلاقةٌ بمُنجَزاتِ آينِشْتَاينَ العِلمِيَّةِ، فالنَّظَريَّاتُ الفِيزيَائِيَّةُ الَّتي ٱبْتَكَرَها شَيءٌ والقَولُ إِنَّ الطَّبِيعةَ هِي الإِلَهُ شَيءٌ آخَرُ، فإِذا لَمْ يَكُنْ بمَقدُورِنا مُجارَاتِهِ في مَجالِ تَخَصُّصِهِ ونُسَلِّمُ لهُ بِمَا أَنجَزَهُ عِلمِيَّاً إِلَّا أَنَّ هذا لا يَعنِي أَن نُسَلِّمَ لِفِكرِةِ إِلهِ الطَّبِيعةِ؛ لِكَونِها فِكرَةً خُرافِيَّةً لا تَنسَجِمُ مَعَ العَقلِ البُرهانِيّ، وعَليهِ حَشْرُ أَسمَاءِ العُلَماءِ في هَذا الحِوارِ ليسَ في مَحِلِّهِ.
ثانِيَاً: أَكَّدنَا سابِقاً أَيضَاً على أَنَّ الدَّائِرةَ الَّتي تَتَحَرَّكُ فِيها عُلومُ الطَّبِيعَةِ تَختلِفُ عَنِ الدَّائِرةِ الَّتي يَتَحَرَّكُ فِيها العَقلُ التَّحلِيلِيّ والبُرهانِيّ، وإِثباتُ أَنَّ لِهَذهِ الطَّبِيعةِ خالِقاً أَو ليسً لهَا خالِقٌ لا يَتمُّ نِقاشُهُ ضِمنَ دَائِرةِ العُلومِ الطَّبِيعِيَّةِ، وإِنَّما العَقلُ التَّحلِيلِيّ والبُرهانِيّ هُو الَّذي يَتَحَمَّلُ مَسؤُولِيَّةَ هَذهِ القَضِيَّةِ، ومِن هُنا كانَت عِبارَتُهُ الَّتي أَرادَ أَن يُشِيدَ فِيها بِإِلَهِ آينِشْتَاينَ وهِي: (.. وذلك هُو الفَرقُ بَينَ مَن يُؤمِنُ بِالعِلمِ ومًن لا يُؤمِنُ بِهِ) عِبارةٌ غَيرُ صَحِيحةٍ؛ لِكَونِها لا تَنسَجِمُ مَعَ نَسَقِ الحَدِيثِ عَنِ الإِلَهِ.
ثالِثاً: الحَدِيثُ عَنِ ٱللهِ يَبدَأُ أَسَاسَاً بَعدَ الإِعتِرافِ بأَنَّهُ لَيسَ جُزءَاً مِنَ الطَّبِيعةِ؛ وذلِكَ لِكَونِ الطَّبِيعةِ تَكتَنِفُها مَظاهِرُ النَّقصِ والحاجَةِ في كُلِّ أَركانِها وزَوَايَاهَا، ولَو فَرَضْنا أَنَّ هُنالِكَ شَيئَاً مِنَ الطَّبِيعةِ يَستَحِقُّ أَن يَكونُ إِلَهَ فهُو الإِنسَانُ؛ بِوَصفِهِ أَكثَر مَظاهِرِ الطَّبِيعةِ تَمَيُّزَاً، ومَعَ ذلِكَ لا نَجِدُ الإِنسَانَ الَّذي يُمكِنُهُ أَن يَدَّعِيَ هذهِ المَرتِبةَ، فكُلُّ واحِدٍ مِنَّا يَعلَمُ يَقِينَاً بأَنَّهُ مَخلُوقٌ وليسَ خالِقاً، والشُّعُورُ الَّذي يُلاحِقُ الإِنسَانَ وبِشَكلٍ دائِمٍ هُو شُعورُهُ بِالنَّقصِ والحاجةِ، وعِندَما يَعتَقِدُ الإِنسَانُ بِوُجودِ إِلَهٍ خَالِقٍ لهُ ولِغَيرِهِ لا بُدَّ أَن يُؤمِنَ بأَنَّ ذلِكَ الإِلَهَ خارِجٌ عَن حُدُودِ الطَّبِيعةِ، وحِينَها يَكونُ قَولُ مَن يَقولُ: إِنَّ ٱللهَ هُو الطَّبِيعةُ قَولٌ سَخِيفٌ، وتَفكِيرٌ سَاذَجٌ؛ لِكَونِهِ مُخالِفَاً لِمُقتَضَى التَّفكِيرِ البُرهانِيّ والعَقلِ الإِستِدلَاليّ.
وعَليهِ الإِلَهُ الَّذي يَجِبُ أَن نُؤمِنَ بهِ هُو الإِلَهُ الَّذي لا يُمكِنُ أَن نَلمَسَهُ أَو نَراهُ؛ لأَنَّ كُلَّ ما يَصحُّ لَمْسُهُ أَو رُؤيَتُهُ فهُو مَخلُوقٌ مَادِيٌّ مُحتاجٌ في وُجودِهِ إِلى خالِقٍ، وإِذا كانَ السَّائِلُ يَعتَقِدُ بِأَنَّ (إِلَهَ) آينِشتَاينَ هُو أَكثَرُ عِلمِيَّةً؛ لأَنَّهُ يَتمُّ لَمسُهُ وُرؤيَتُهُ، فعَلى ذلِكَ يُمكِنُنا القَولُ: إِنَّ الأَصنامَ الحَجَرِيَّةَ والخَشَبِيَّةَ أَيضَاً أَكثَرُ عِلمِيَّةً مِن إِلَهِ آينِشتَاينَ نَفسِهِ.
وفِي المُحَصِّلَةِ يُمكِنُنا أَن نَقولَ: إِنَّ الطَّبِيعةَ لا تَصلُحُ أَن تَكُونَ إِلَهَاً، كمَا لا يُمكِنُ مَعرِفةُ ٱللهِ كمَا نَعرِفُ الطَّبِيعةَ، فٱللهُ هُو الغَيبُ الَّذي لا يُعرَفُ إِلَّا بِالعَجزِ عَن مَعرِفتِهِ، فكُلُّ مَا عِندَ الإِنسَانَ مِن أَدواتِ مَعرِفَةٍ فهِي مُصَمَّمةٌ بِحَيثُ تَنسَجِمُ مَعَ قَوانِينِ الطَّبِيعةِ، وكُلُّ مَا هُو بِمَقدُورِ الإِنسَانِ هُوإِثباتُ وُجودِهِ وإِخراجِهِ عَن حَدِّ التًّعطِيلِ، وحَدِّ التَّشبِيهِ، فلا يُمكِنُ تَعطِيلُهُ؛ لأَنَّ آياتِهِ شاهِدةً بوُجُودِهِ، ولا يُمكِنُ تَشبِيهُهُ؛ لأَنَّهُ خالِقٌ غَيرُ مَخلُوقٍ، يَقولُ أَميرُ المُؤمِنِينَ (عليهِ السَّلامُ) في خُطبَةِ الوَسِيلةِ: (الحَمدُ للهِ الَّذي مَنَعً الأَوهَامَ أَن تَنالَ إِلَّا وُجودَهُ، وحَجَبَ العُقُولَ أَن تَتَخَيَّلَ ذاتَهُ؛ لٱمْتِناعِها مِن الشَّبَهِ والتَّشَاكُلِ، بَل هُو الَّذي لا يَتَفاوَتُ في ذاتِهِ، ولا يَتَبَعَّضُ بِتَجزِئَةِ العَدَدِ في كَمالِهِ، فارِقُ الأَشياءِ لا على ٱخْتِلافِ الأَماكِنِ، ويَكونُ فِيها لا على وَجهِ المُمَازَجَةِ، .... إِن قِيلَ: كانَ، فعَلى تأوِيلِ أَزَلِيَّةِ الوُجُودِ، وإِن قِيلَ: لَمْ يَزَلْ، فعَلى تأوِيلِ نَفيِ العَدَمِ، فَسُبحَانَهُ وتَعَالى عَن قَولِ مَن عَبدَ سُواهُ، وٱتَّخَذَ إِلَهَا غَيرَهُ عُلُوَّاً كَبِيراً).
اترك تعليق