لماذا لا يمكننا القول بازلية المادة عوضًا عن ازلية الخالق اي ان المادة هي واجبة الوجود لا الله

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله

أوّلاً: إنَّ مفهومَ المادّةِ غيرُ واضحٍ، فماذا يُقصدُ بالمادّةِ الأزليّةِ؟ وهل هيَ قوّةٌ خفيّةٌ غيرُ محسوسةٍ أوجدَت الأشياءَ؟ أم هيَ ذاتُ الأشياءِ المحسوسةِ والملموسةِ مثلَ السّماءِ والأرضِ والحيوانِ وغيرِ ذلك؟ أم يقصدُ بها السّننُ والقوانينُ التي تحكمُ الكونَ؟  

فإذا كانَ المقصودُ بالمادّةِ الأزليّةِ هيَ قوّةٌ خفيّةٌ خارجةٌ عنِ الأشياءِ وليسَت شيئاً منها؛ لأنّها لو كانَت شيئاً منها لاحتاجَت هيَ نفسُها إلى مادّةٍ أُخرى تُوجِدُها، فطالمَا هيَ أزليّةٌ فهيَ بالحتمِ ليسَت منَ الأشياءِ الموجودةِ في عالمِ الطّبيعةِ؛ لأنَّ كُلَّ ما هوَ موجودٌ فهوَ غيرُ أزليٍّ ومُتغيّرٌ وحادثٌ، وعليهِ لابدَّ أن تتّصفَ هذهِ القوّةُ الخفيّةُ بكونِها حيّةً، وعالمةً، وقادرةً، وسميعةً، وبصيرةً، وحكيمةً.. وبالتّالي كاملةٌ وغيرَ عاجزةٍ. وهذا في واقعِ الأمرِ إعترافٌ بشكلٍ غيرِ مُباشرٍ بوجودِ إلهٍ مُنزّهٍ عنِ النّقصِ أو المُشابهةِ لخلقِه.  

أمّا إذا كانَ المقصودُ بالمادّةِ الأزليّةِ هيَ نفسُها الأشياءُ المنظورةُ في عالمِ الموجوداتِ مِن سماءٍ وأرضٍ وغيرِ ذلكَ، فهذا لا يمكنُ قبولُه لأنَّ كلَّ ما في عالمِ المحسوساتِ حادثٌ وقابلٌ للتّغيّرِ والزّوالِ فكيفَ يكونُ أزليّاً؟ وكما هوَ معلومٌ أنَّ كُلَّ مُتغيّرٍ حادثٌ وكلُّ حادثٍ يحتاجُ إلى خالقٍ؛ لأنَّ العقلَ لا يُسلّمُ بأنَّ الشّيءَ يوجدُ نفسَه، فإن كانَ بمقدورِ الأشياءِ أن تُوجدَ ذواتَها لأوجدَتها كاملةً لا نقصَ فيها، ولكانَ وجودُها دائماً لا يعتريهِ العدمُ، في حينِ أنّنا نرى النّقصَ في الموجوداتِ لحاجتِها لبعضِها ولغيرِها، فمثلاً لو كانَ وجودُ الإنسانِ مِن ذاتِه لأوجدَ نفسَه تامّاً كامِلاً عالِماً لا يخفى عليهِ شيءٌ، وقادِراً على كلِّ شيءٍ، وحيّاً لا يموتُ، وهكذا لجمعَ كلَّ الكمالِ لنفسِه طالَما هوَ الخالقُ لنفسِه، فلماذا يخلقُها ناقصةً ومُحتاجةً؟ 

أمّا إذا كانَ المقصودُ بالمادّةِ الأزليّةِ هيَ القوانينُ والسّننُ التي تحكمُ الكونَ، فالسّؤالُ البديهيُّ الذي يفرضُ نفسَه على العقلِ ما هوَ مصدرُ هذهِ القوانين؟ لأنَّ العقلَ لا يفهمُ وجودَ قوانينَ مِن غيرِ مُقنّنٍ ومِن غيرِ غايةٍ وهدفٍ لهذهِ القوانينِ، وعليهِ فإنَّ الكشفَ عنِ القوانينِ الدّقيقةِ والتّسالمَ على وجودِها لا علاقةَ لهُ بما يفترضُه الإلحادُ مِن عدمِ وجودِ إلهٍ، فكما سألنا عمَّن خلقَ الأشياءَ؟ يبقى السّؤالُ قائِماً مَن خلقَ القوانينَ؟ أو مَن خلقَ هذا الكونَ المُنظّمَ بالقوانينِ؟ وليسَت لنا مُشكلةٌ في كيفَ يعملُ الكونُ، سواءٌ كانَ ذلكَ العملُ طِبقاً لقانونٍ أو طبقاً لأمرٍ آخر.  

ثانياً: الحديثُ عنِ اللهِ يبدأ أساساً بعدَ الإعترافِ بأنّهُ ليسَ جُزءاً منَ الطّبيعةِ والمادّةِ؛ لأنَّ الإنسانَ يبدأُ مشوارَه في بحثِه عنِ اللهِ مِن بعدِ أن يعلمَ أنَّ المادّةَ صمّاءُ عمياءُ ناقصةٌ لا يمكنُ أن توجِدَ نفسَها، وبالتّالي لابدَّ مِن إلهٍ أوجدَها ورسمَ لها الغايةَ والأهدافَ، فكيفَ بعدَ ذلكَ ينتكسُ هذا العقلُ الباحثُ ليعودَ بعدَ طولِ بحثٍ وعناءٍ إلى أنَّ المادّةَ هيَ الإلهُ؟ فالمادّةُ والطّبيعةُ تكتنفُها مظاهرُ النّقصِ والحاجةِ في كلِّ أركانِها وزواياها، ولو فرضنا أنَّ هُنالكَ شيئاً منَ الطّبيعةِ يستحقُّ أن يكونَ إلهاً فهوَ الإنسانُ بوصفِه أكثرَ مظاهرِ الطّبيعةِ تميّزاً، ومعَ ذلكَ لا نجدُ الإنسانَ الذي يدّعي هذهِ المرتبةَ وهوَ في تمامِ عقلِه وإدراكِه لما يقولُ، فكلُّ واحدٍ منّا يعلمُ يقيناً بأنّهُ مخلوقٌ وليسَ خالقاً، والشّعورُ الذي يلاحقُ الإنسانَ وبشكلٍ دائمٍ هوَ شعورُه بالنّقصِ والحاجةِ، وعندَما يعتقدُ الإنسانُ بوجودِ إلهٍ خالقٍ لهُ ولغيرِه لابدَّ أن يؤمنَ بأنَّ ذلكَ الإلهَ خارجٌ عَن حدودِ الطّبيعةِ، وحينَها يكونُ قولُ مَن يقولُ أنَّ اللهَ هوَ الطّبيعةُ أو هوَ المادّةُ قولٌ سخيفٌ وتفكيرٌ ساذجٌ لكونِه مُخالِفاً لمُقتضى التّفكيرِ البُرهانيّ والعقلِ الإستدلاليّ.

وفي المُحصّلةِ يُمكنُنا أن نقولَ أنَّ المادّةَ لا تصلحُ أن تكونَ إلهاً، كما لا يمكنُ أن نتعرّفَ على اللهِ كما نتعرّفُ على الطّبيعةِ، فاللهُ هوَ الغيبُ الذي لا يُعرفُ إلّا بالعجزِ عَن معرفتِه، فكلُّ ما عندَ الإنسانِ مِن أدواتِ المعرفةِ مُصمّمةٌ بحيثُ تنسجمُ معَ قوانينِ الطّبيعةِ، وكلُّ ما هوَ بمقدورِ الإنسانِ هوَ إثباتُ وجودِه وإخراجهُ عَن حدِّ التّعطيلِ وحدِّ التّشبيهِ، فلا يمكنُ تعطيلُه لأنَّ آياتِه شاهدةٌ بوجودِه، ولا يمكنُ تشبيهُه لأنّهُ خالقٌ غيرُ مخلوقٍ، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السّلام) في خُطبةِ الوسيلةِ: (الحمدُ للهِ الذي منعَ الأوهامَ أن تنالَ إلّا وجودَه وحجبَ العقولَ أن تتخيّلَ ذاتَه لامتناعِها منَ الشّبهِ والتّشاكلِ بَل هوَ الذي لا يتفاوتُ في ذاتِه ولا يتبعّضُ بتجزئةِ العددِ في كمالِه، فارقَ الأشياءَ لا على اختلافِ الأماكنِ ويكونُ فيها لا على وجهِ المُمازجةِ، .... إن قيلَ: كانَ، فعلى تأويلِ أزليّةِ الوجودِ وإن قيلَ: لم يزَل، فعلى تأويل نفي العدم، فسُبحانَه وتعالى عَن قولِ مَن عبدَ سواهُ واتّخذَ إلهاً غيرَه علوّاً كبيراً).