الشورى العمرية خطةٌ مدبَّرةٌ لتولية عثمان
السؤال: لماذا تحولت الخلافة من "النص" إلى "الشورى" في وصية عمر بن الخطاب لمّا أُصيب؟ وما هي الأسباب الداعية لذلك؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم -أيدك الله- أنَّ الشورى العمريّة تُعتبر من أبرز الانتقادات الموجّهة إلى الخليفة الثاني، حيث لم يكن يؤمن بمبدأ الشورى أصلاً في اختيار الخليفة؛ وذلك لأنّه كان يتأسّف على عدم وجود سالم وأبي عبيدة ومعاذ، وأنّ أحداً منهم لَـو كان حيّاً لكان استخلفه، ففي روايةٍ أنّه قال عند احتضاره: «لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً ما جعلتها شورى» [تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص272، الاستيعاب ج2 ص568]، وفي روايةٍ أخرى: «إذا أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجرّاح حيّ أستخلفه» [مسند أحمد ج 1ص18]، وفي رواية ثالثة: «لو كان معاذ حيّاً لاستخلفته» [تفسير النسفيّ ج2 ص240].
ويبدو أنّ السرّ وراء الإصرار على تداول الخلافة بين هؤلاء فقط: هو أنّ هؤلاء الخمسة – أبا بكر وعمر وسالم وأبا عبيدة ومعاذ – كانوا أصحاب الصحيفة التي كتبوها في حجّة الوداع في تعاقدهم وتعاهدهم على سلب الخلافة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى عدم خروج الخلافة منهم، ففي الرواية: «أوّل ما في الصحيفة: النكث لولاية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنّ الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم، ليس بخارجٍ منهم..» [كتاب سليم ص154، إرشاد القلوب ص201].
وبالجملة، فإنّ عمر بن الخطّاب كان يرى النصّ لا الشورى، وعندما توفّي الباقون من أصحاب الصحيفة لَـم يكن أمامه سوى أن يجعل أمر الخلافة في أكثر البيوت خصومةً وعداءً لبني هاشم، وهم بنو أميّة، وأراد أنْ يجعلها لعثمان بن عفّان، غير أنّه كان يعلم بأنّ عثمان سيسلّط بني أميّة على رقاب الناس، وأنّ المجتمع الإسلاميّ سيقوم بالثورة ضدّه وقتله، فخشي أنْ تقع الملامة عليه من تنصيبه – كما وقعت على عبد الرحمن بن عوف بعد أنْ أحدث عثمان ما تسبّبت بمقتله -، وقد صرّح بذلك عمر بن الخطّاب عندما حضر الستّة أهل الشورى عنده قائلاً: «والله، ما يمنعني أن أستخلفك -يا عثمان- إلّا عصبيّتك وحبّك قومك وأهلك» [الإمامة والسياسة ص53]، وصرّح بذلك أيضاً في موطنٍ آخر قائلاً: «فوالله، لو فعلتُ لجعل بني أبي معيط على رقاب الناس، يعملون فيهم بمعصية الله، والله لو فعلتُ لفعلَ، ولو فعلَ لفعلوه، فوثب الناس عليه فقتلوه» [الاستيعاب ج1 ص345].
فلـمّا كان التنصيص على عثمان بن عفّان بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ غير ممكن لئلّا تقع عليه الملامة، جعلها شورى صوريّةً باعتبار أنّها تمثّل الحلّ الأنسب لجعل الخلافة لعثمان بن عفّان وصرفها عن أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ وذلك لـمّا أبلغه عبد الرحمن بن عوف أنَّ جماعةً من الصحابة -وفيهم طلحة والزبير وعمّار وأبو ذرّ- يقولون: «لو مات عمر لبايعنا عليّاً» [أنساب الأشراف ج1 ص250].
فجعل الخلافة في الستّة أصحاب الشورى، وهم: أمير المؤمنين (عليه السلام) والزبير بن العوّام وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وعثمان بن عفّان، وجعل شروطاً في عمليّة التنصيب، من جملتها: لو اختلف أصحاب الشورى فينبغي تنصيب مَن يكون معهم عبد الرحمن بن عوف، وابن عوف معروفٌ بأنّه يميل إلى صهره عثمان بن عفّان، كما أنّ سعداً لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، وبالتالي تكون الشورى هي خطّةٌ مدبّرةٌ لتفصيل الخلافة على مقاس عثمان بن عفّان حصراً.
ولَـم يخفَ أمر هذه الشورى على مثل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّه بعدما خرج من عند عمر بن الخطّاب، تلقّاه عمّه العبّاس، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): «عُدِلتْ عنّا! فقال العبّاس: وما علمك؟ قال عليّ: قُرِن بي عثمان، وقال عمر: كونوا مع الأكثر، فإنْ رضي رجلان رجلاً، ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرّحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون، فيولّيها عبد الرّحمن عثمان، أو يولّيها عثمان عبد الرّحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني» [تاريخ الطبري ج2 ص583، تاريخ المدينة ج3 ص930].
وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة الشقشقيّة بقوله: «جعلها في جماعةٍ زعم أنّي أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم حتّى صرتُ أُقرنُ إلى هذه النظائر، لكنّي أسففتُ إذ أسفّوا وطرتُ إذ طاروا، فصغى رجلٌ منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره» [نهج البلاغة ص49].
فـ (سعد بن أبي وقّاص): منحرفٌ عن أمير المؤمنين، حتّى أنّه تخلّف عن بيعته بعد قتل عثمان مع أنّ الأمّة قد اجتمعت على بيعته، فكان في قلبه حقدٌ دفينٌ تجاه أمير المؤمنين، وكان عمر عالماً بأنّ سعداً لن يبايع علياً (عليه السلام)، ولذلك أدخله في الشورى.
وأمّا (عبد الرحمن بن عوف): فبينه وبين عثمان مصاهرة، حيث إنّ عبد الرحمن كان زوج أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أخت عثمان لأمّه أروى بنت كريز، فهذه المصاهرة تملي على أمثال عبد الرحمن أن يقدم عثمان على عليّ (عليه السلام)، مضافاً إلى انحراف عبد الرحمن عن عليّ (عليه السلام) من الأساس، ولهذا أدخله عمر في الشورى.
وأما (عثمان بن عفّان): فهو المرشّح الحقيقيّ لعمر، وهو من بيتٍ معروفٍ بالبغض والعداء لبني هاشم في الجاهليّة والإسلام.
والسرّ في جعل عثمان هو المرشّح الحقيقيّ – دون غيره من المبغضين لبني هاشم ولأمير المؤمنين -، هو أنّ لعثمان فضلاً على عمر بن الخطّاب، فإنّه لـمّا حضرته الوفاة قال له ابنه عبد الله: لو أمّرت عليهم رجلاً؟ فقال: «والذي نفسي بيده، لأُردِدَنَّها إلى الذي دفعها إليّ أوّل مرّة» [تاريخ المدينة ج2 ص121، تاريخ دمشق ج44 ص436]، فهو يحلف بالله أنّه سيردّ الخلافة لـمَن دفعها إليه، وهذا يعني أنّ الشورى صوريّةٌ وإنّما هي في حقيقتها تنصيص على عثمان.
والمقصود من قوله: «لأُردِدَنَّها إلى الذي دفعها إليّ أوّل مرّة»: أنّه لـمّا ثقل أبو بكر دعا عثمان، فأملى عليه عهده وفيه: (إنّي استخلفتُ) فأغْمِي عليه قبل أنْ يذكر اسم أحد، فكتب عثمان من عنده اسم عمر، ففي الرواية: «ولـمّا أملى عليه عهده هذا على عثمان أغمي على أبي بكر قبل أن يسمّي أحداً، فكتب عثمان: (عمر بن الخطاب)، فأفاق أبو بكر، فقال لعثمان: لعلّك كتبتَ أحداً، قال: ظننتُك لـما بك، وخشيتُ الفرقة، فكتبتُ: عمر بن الخطاب، فقال: يرحمك الله، أما لو كتبتَ نفسك لكنتَ لها أهلاً» [تاريخ دمشق ج44 ص252].
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
اترك تعليق