ظاهرة التساهل بتكفير وتشريك المسلمين.
انّ رزيّة التكفير هي من أعظم ما رُزئ بها الإسلام ، حيث شغلت المسلمين طيلة قرونٍ خلتْ وما زالتْ ، ولقد عانى المسلمون لا سيّما أتْباع أهل البيت (ع) ، من ويلات هذا النهج التكفيريّ المنحرف ، فرُوِّع الآمنون منهم واستُحلّت دماؤهم وأموالهم، فانتشرتْ هذه الفتنةُ وعمّ الاضطراب في عموم البلاد الإسلامية.
وأكادُ أجزمُ بأنّ أصحاب هذا النهج المتطرِّف كانوا يهدفون من وراء ما أحدثوه إلى تشويهَ صورة الإسلام والمسلمين في نظر غير المسلمين، فاستحلالُهم الأموالَ العامّة وسعيُهم إلى إتلاف ما أمكن إتلافُه ومحاولتُهم لزعزعة الأمن وإخافة الآمنين وإيذائهم يهدفون منه إلى إعطاء صورة مشوّهةٍ عن الإسلام لأعدائه في أنه دينُ إرهابٍ وقتلٍ وسرقة ونهب.
نصوص تحريم التكفير من الكتاب والسنة:
ولخطورة هذه المسألة فقد أَمر الله عز وجل بالتثبُّت فيها قبل إصدار الأحكام على الناس ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (سورة النساء 94) فقد أمر الله -عزّ وجلّ- في هذه الآية الشريفة المؤمنين المجاهدين في سبيل الله أنْ يتثبَّتوا فيمن أشكل عليهم أمرُه ولم يعلموا حقيقة إسلامه أو كفره ، قال ابن جرير: "فتأنَّوا في قتل من أشكل عليكم أمرُه ، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره ، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبَس عليكم أمرُه، ولا تتقدموا على قتل أحدٍ إلا على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله" ، فالآية صريحة في أنّ مَن أظهر شيئاً من شعائر الإسلام حُكم بإسلامه، ولهذا صدر النهي من الله تعالى عن نفي الإيمان عمّن تحقق فيه ذلك ، ولازمُه الحكم بإسلام المرء إبتداءً ، لعلة عدم الدليل القاطع على عدم إعتبار إقراره. فمجردُ الشك في أنه قد يكون متعوِّذاً لا يكفي في نفي وصف الإسلام عنه.
يقول الشَّوكاني في معنى الآية: " والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لستَ مؤمناً ، فالسِّلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام ، وقيل هما بمعنى الإسلام ، أي لا تقولوا لمن ألقى إليكمُ الإسلام ، أيْ كلمتَه ، وهي الشهادة لستَ مؤمناً. وقيل هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام، أيْ لا تقولوا لمن ألقى إليكمُ التسليم ، فقال السلام عليكم: لستَ مؤمناً "
فإذا كان القرآنُ الكريم قد نهى المسلمين عن تكفير مَن يلقي عليهم السلام، فكيف بمن يصرِّح بكلمة التوحيد التي هي عصمة دم المسلم؟! وقد وردتْ أحاديثُ كثيرةٌ في الصحاح وغيرها تؤكِّد حرمةَ دم المسلم ، منها :
ما رواه البخاريُّ في صحيحه "عن أنس بن مالكٍ ، قال: قال رسول الله (ص) من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلمُ الذي له ذمةُ الله وذمة رسوله فلا تحقروا الله في ذمته"(1) ، وهذه الرواية فيها نوعُ تفصيلٍ وتوضيحٍ لمن يُحكم بإسلامه ، فلاحظ .
وروى أيضا بسنده " عن ابن عمر ، أنّ رسول الله (ص) قال : أُمِرتُ أنْ أُقاتل الناس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عَصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام ، وحسابُهم على الله"(2).
ومنها ما رواه مسلمٌ في صحيحه "عن أبي مالكٍ عن أبيه ، قال سمعتُ رسول الله (ص) يقول : من قال لا إله إلا الله ، وكَفر بما يعبُد من دون الله حرم ماله ودمه ، وحسابُه على الله "(3) .
وروى أيضا بسنده "عن أبي هريرة ، عن رسول الله (ص) قال : أُمرتُ أنْ أُقاتل الناس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئتُ به ، فإذا فعلوا ذلك عَصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها ، وحسابُهم على الله"(4) .
وعليه ، فالعصمة مقطوعٌ بها من الشهادة، ولا ترتفع ويُستباح خلافها إلا بقاطعٍ ، ولا قاطعَ من شرعٍ، ولا قياسَ عليه(5).
ويدلك على ذلك أيضاً، ما قاله ابن رجب: "فإنّ كلمتَي الشهادتين .بمجردهما تَعصم من أتى بهما ، ويصير بذلك مسلماً ، فإذا دخل في الإسلام فإنْ أقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بشرائع الإسلام فله ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم"(6).
تواتر الأحاديث النبوية في النهي عن التكفير بغير حق:
وقد تواترتِ الأحاديث النبويّة في النهي عن تكفير المسلم بغير حقٍّ، ومنها:
1 – حديث أبي ذر ، أنه سمع النبيّ (ص) ، يقول : "لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ، ولا يرميه بالكفر ، إلا ارتدّتْ عليه إنْ لم يكن صاحبُه كذلك "
2 – وعن أبي ذر ، أنه سمع رسول الله (ص) ، يقول : " ومن دعا رجلاً بالكفر ، أو قال : عدوّ الله ، وليس كذلك ، إلا حار عليه "
3 – وعن ابن عمر ، أنّ رسول الله (ص) ، قال : " أيُّما رجلٍ قال لأخيه : يا كافرُ ، فقد باء بها أحدهما "
4 – حديث ثابت بن الضحّاك ، أنّ النبيّ (ص) ، قال : " ومن رمى مؤمناً بكفْرٍ فهو كقتْلِه "
5 - وعن أبي هريرة أنّ رسول الله (ص) ، قال : " إذا قال الرجل لأخيه : يا كافرُ فقد باء بها أحدهما "(7) .
كلُّ ذلك في قبال ظاهرة التساهل بتكفير وتشريك المسلمين ، التي تُعدُّ شذوذاً في الفكر الإسلامي .
والذي ساعد على تفشّي هذه الظاهرة (عند الوهابيين، وللأسف عند بعض السنيّين أيضاً)، هو عدم التعمُّق في دراسة العلوم الإسلامية ، الذي ينمُّ عنه الفهم السطحيُّ لبعض النصوص ، والأخذ بالمتشابه وترك المحكَم ، واعتماد الجزئيّات والإعراض عن الكليّات ، والحكم اعتماداً على أقوال الآخرين من دون تمحيص ، فلا معرفة لهم بشيءٍ من العلم إلا ما يلوكونه من أقوال أسيادهم ، فإذا أصبح الواحد منهم خالي الوفاض ، وأفلس من كلِّ الحُججِ المقنعة - بحيث لا يجد ما يؤيِّد مقولتَه - عمَد إلى آياتٍ نزلتْ في الكفّار فجعلها على المؤمنين ، وإلى ذلك أشار ابن عمر في قوله : "هم شِرار الخلق ، و قال : إنهم انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفّار فجعلوها على المؤمنين"(8).
___________________
(1) صحيح البخاري ، 1 : 153 ، 384 ، باب فضل استقبال القبلة .
(2) صحيح البخاري ، 1 : 17 ، 25 ،باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة .
(3) صحيح مسلم ، 1 : 39 ، ح 139 ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله .
(4) المصدر السابق .
(5) كتاب الشِّفا – للقاضي عياض- 2 : 232 ، فصلٌ في تحقيق القول في إكفار المتأوِّلين .*
(6 )جامع العلوم والحكم (1/230) .
(7) صحيح البخاري ، 20 : 260 .
(8) صحيح البخاري، 9: 16 .
اترك تعليق