أحاديثُ الطّينةِ والعدالةُ الإلهيّة 

هل هذا الحديث يخالف العدالة الالهية ؟ عن أبي حمزه الثمالي قال سمعت أبا جعفر الإمام الباقر عليه السلام يقول ان الله عز وجل خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه، وخلق ابدانهم من دون ذلك وقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ثم تلا هذه الايه : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون.} وخلق عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وابدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا ثم تلا هذه الايه : { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما ادراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين.} .

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

حتّى نحصلَ على فهمٍ صحيحٍ لأحاديثِ الطّينةِ، لابدَّ أن ندرسَ رواياتِها دراسةً مجموعيّةً، ولا نقصر النّظرَ فيها على روايةٍ واحدة. 

رواياتُ أحاديثِ الطّينةِ كثيرةٌ مُستفيضةٌ – إن لم تكُن متواترةً – مرويّةٌ في كتبِ الفريقينِ، وهيَ مقطوعةُ الصّدورِ عنِ المعصوم (ع). 

فإن كانَ مرادُكم أنّها تُخالفُ العدالةَ الإلهيّةَ مِن جهةِ لزومِ الجبرِ وأنّ الذي خُلِقَ مِن طينةٍ طيّبةٍ فمصيرُه حتماً إلى الجنّةِ، ولا يمكنُ أن يُغيّرَ ويُبدّلَ، وأنّ مَن خُلقَ مِن طينةٍ خبيثةٍ فمصيرُه إلى النّارِ، ولا يمكنُ أن يغيّرَ ويُبدّل؟! 

فنقولُ: إنّ أحاديثَ الطّينةِ ليسَت علّةً تامّةً لصدورِ الأفعالِ منّا، ولا تسلبُ الإختيارَ منَ العبدِ، وذلكَ – بحسبِ ما وردَ في الكثيرِ مِن رواياتِ الطّينةِ - لأنّ هذهِ الطينات قد لطخها اللهُ ببعضِها، يعني لطخَ الطّينةَ الطيّبةَ معَ الطينةِ الخبيثةِ، ثمَّ فرزَهما عَن بعضِهما، فلُطخَت الطينةُ الطيّبةُ بالطينةِ الخبيثةِ، وبالعكس. 

ومِن هُنا أيضاً وبسببِ ما أصابَ المؤمنَ مِن لطخةِ طينةِ الكافرِ يمكنُ له أن يبدّلَ طينتَه ويحوّلها مِن طينةٍ طيّبةٍ إلى طينةٍ خبيثةٍ، لأنّ قابليّةَ الكُفرِ موجودةٌ عندَه بسببِ ما أصابَته مِن لطخةِ طينةِ الكافر. 

وبالعكسِ أيضاً: وبسببِ ما أصابَ الكافرَ مِن لطخةِ طينةِ المؤمنِ، يمكنُه أن يُغيّرَ ويُبدّلَ طينتَه مِن طينةٍ خبيثةٍ إلى طينةٍ طيّبةٍ، لأنّ قابليّةَ الإيمانِ موجودةٌ عندَه بسببِ ما أصابَته مِن لطخةِ طينةِ المُؤمن. 

وليسَ الخلطُ والمزجُ واللّطخُ هوَ سببُ إرتكابِ المعاصي، بحيثُ لو لم يصدُر لما صدرَ منهم ذلكَ، وليسَ كونُ الإنسانِ مخلوقاً مِن طينةٍ خبيثةٍ هيَ سببُ صدورِ المعاصي، وكذلكَ ليسَ سببُ صدورِ الطاعاتِ منَ المؤمنينَ هيَ كونُهم مخلوقينَ مِن طينةٍ طيّبةٍ، سببُ صدورِ الطّاعاتِ والمعاصي يرجعُ إلى إرادةِ العبدِ وإختيارِه، فهوَ بإختيارِه يُمارسُ الطّاعاتِ والمعاصي. 

قد تسألُ فما هوَ دورُ الطينةِ الطيّبةِ والخبيثةِ في أفعالِ الإنسانِ وتقريرِ مصيرِه؟ 

الجوابُ: لتيسيرِ الطّريقِ وتسهيلِ السّبيلِ، وليسَت هيَ العلّةَ التّامّةَ والسّبب الرّئيسيّ، وسيأتي بيانُه. 

ولذا نرى كثيراً منَ الكُفّارِ قد تحوّلوا إلى الإيمانِ، ونرى بعضَ المؤمنينَ تحوّلوا إلى الكُفر ! 

وقد يكونُ ذلكَ مِن بابِ تبديلِ الطينةِ التي هيَ أمرٌ إختياريٌّ تابعٌ لإرادةِ المُكلّفِ وإختياره. 

فأحاديثُ الطّينةِ على نحوِ المُقتضى، وليسَت على نحوِ العلّةِ التامّةِ، فلا يلزمُ الجبر. 

وبحسبِ طائفةٍ منَ الرّواياتِ الواردةِ في ذيلِ أحاديثِ الطّينةِ، أنّ للهِ المشيئةَ في طيناتِ هؤلاء. 

فيمكنُ للهِ أن يُغيّرَ ويُبدّلَ، كلُّ ذلكَ بحسبِ ما يتجدّدُ منَ العبدِ في تغييرِ مصيره. 

ولذا لم يجفَّ القلمُ، بَل هوَ كلُّ يومٍ في شأنٍ، ويمحو ما يشاءُ ويثبتُ وعندَه أمُّ الكتاب. 

 

وإن كانَ مرادُكم أنّها تخالفُ العدالةَ الإلهيّةَ مِن جهةِ أنّه لماذا هناكَ تفاوتٌ في خلقِ الطيناتِ، فبعضُهم مِن طينةٍ طيّبةٍ، وبعضُهم مِن طينةٍ خبيثةٍ، وأصحابُ كلٍّ منَ الطينةِ الطيّبةِ والخبيثةِ على مرتبتين . 

فلماذا لم يُخلق الجميعُ مِن طينةٍ واحدة؟  

فنقولُ: إنّ اللهَ تباركَ وتعالى علمَ قبلَ أن يخلقَ الخلقَ أنّ عبادَه على أقسام: 

1ـ قسمٌ يريدُ السّعادةَ والكمالَ ويسعى لها بكلِّ طاقتِه وإستعدادِه، فاللهُ تعالى خلقَهم مِن صفوِ الطّينِ وخالصتِه، حتّى يعينَهم على الوصولِ إلى أعلى مراتبِ الكمالِ، وهُم الأئمّةُ والأنبياءُ عليهم السّلام. 

2ـ وقسمٌ يريدُ السّعادةَ والكمالَ ولكن يسعى لها سعياً مُتباطئاً ومتثاقلاً، فيخلطُ عملاً صالحاً وآخرَ سيّئاً، وهذا لا يُخلقُ مِن صفوِ الطينِ وخالصتِه، لأنّهُ لا يريدُ أعلى درجاتِ الكمالِ، فلو خلقَه مِن صفوِ الطّينِ وخالصتِه لكانَ خلافَ حكمتِه، فخلقَهم مِن فاضلِ طينةِ القسمِ الأوّلِ، ثمَّ مزجَ طينتَهم معَ الطّينةِ الخبيثةِ، فهذا العبدُ علمَ اللهُ منهُ أنّهُ ستصدرُ منهُ المعاصي في الدّنيا ولِذا خلقَه منَ الطّينةِ الطيّبةِ ثمَّ خلطَها بالطّينةِ الخبيثةِ، ليُيسّرَ لهُ سبيلَ ذلك.  

فالعبدُ بإرادتِه وإختيارِه إختارَ هذا الطريقَ، واللهُ يسّرَ له السّبيلَ. { ولا يظلمُ ربُّك أحداً }. 

3ـ وقسمٌ يريدُ الشّقاءَ ويسعى لها بكلِّ طاقتِه وإستعدادِه، بعكسِ القسمِ الأوّلِ، فاللهُ خلقَهم مِن أخبثِ طينةٍ، ليُيسّرَ لهُم الوصولَ إلى طريقِ الشّقاءِ، وأعلى مراتبِ الضّلالِ والكُفرِ، ومعَ ذلكَ مزجَ طينتَهم معَ الطّينةِ الطيّبةِ، لأنّه علمَ منهم أنّهم سيمارسونَ بعضَ أفعالِ الخيرِ رياءً أو نفاقاً أو ... فيسّرَ لهم طريقَ ذلك. 

4ـ وقسمٌ يريدُ الشّقاءَ ولكِن يسعى لها سعياً متباطئاً متثاقلاً، بعكسِ القسمِ الثاني، فاللهُ خلقَهم مِن طينةٍ خبيثةٍ ثمَّ مزجَ طينتَهم بالطينةِ الطيّبةِ، ليُيسّرَ لهُم الوصولَ إلى طريقِ الشّقاء.

وبالجُملةِ: هذا التّقسيمُ بحسبِ علمِ اللهِ تعالى بحالِ خلقِه، ولذا خلقَهم مِن طيناتٍ مُتفاوتةٍ بحسبِ ما علمَ مِن حالِهم. 

ومعَ كلِّ ذلكَ فيمكنُ للإنسانِ أن يُبدّلَ ويغيّرَ مصيرَه إذا أرادَ ذلكَ وكانَ صادِقاً معَ نفسِه وربّه، { ولن يغيّرَ اللهُ ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسِهم } و { كلُّ يومٍ هوَ في شأنٍ } و { يمحو اللهُ ما يشاءُ ويُثبت وعندَه أمُّ الكتاب } . 

فالإنسانُ إذا أرادَ أن يُغيّرَ فإنَّ للهِ المشيئةَ فيهم.  

 

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.