هَلْ تَجُوزُ التَّلْبِيَةُ لِغَيْرِ اللهِ؟
كَامِلٌ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. هَلْ يَجُوزُ التَّلْبِيَةُ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى؟ إِذَا كَانَتِ الإِجَابَةُ بِنَعَمْ نَرْجُو ذِكْرَ الأَدِلَّةِ مِنْ مَصَادِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَشُكْرًا لِجَنَابِكُمُ الكَرِيمِ.
الأَخُ كامل المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
1- التَّلْبِيَةُ لُغَةً:
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ المُشْكِلِ 1 / 205: وَقَوْلُهُ: لَبَّيْكَ. فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْلَ التَّلْبِيَةِ الإِقَامَةُ بِالمَكَانِ، يُقَالُ: أَلْبَبْتُ بِالمَكَانِ: إِذَا أَقَمْتُ بِهِ، وَلَبَبْتُ، لُغَتَانِ، ثُمَّ قَلَبُوا البَاءَ الثَّانِيَةَ إِلَى اليَاءِ اسْتِثْقَالًا، كَمَا قَالُوا: تَظَنَّيْتُ، فَكَأَنَّ قَوْلَهُ: لَبَّيْكَ. أَيْ أَنَا عِنْدَكَ، وَأَنَا مُقِيمٌ مَعَكَ، وَقَدْ أَجَبْتُكَ. ثُمَّ بَنَوْهُ لِلتَّوْكِيدِ، فَكَانَ المَعْنَى: أَقَمْتُ عِنْدَكَ إِقَامَةً بَعْدَ إِقَامَةٍ، وَإِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ. حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الخَلِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى اتِّجَاهِي إِلَيْكَ، مَأْخُوذٌ مَنْ قَوْلِهِمْ: دَارِي تَلبُّ دَارَكَ: أَيْ تُوَاجِهُهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى مَحَبَّتِي لَكَ، مَأْخُوذٌ مَنْ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ لبَّةٌ إِذَا كَانَتْ مُحِبَّةً لِوَلَدِهَا، عَاطِفَةً عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى سَعْدَيْكَ: سَاعَدْتُ طَاعَتَكَ مُسَاعَدَةً بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ: أَسْعَدَكَ اللهُ إِسْعَادًا بَعْدَ إِسْعَادٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ الوَهَّابِيُّ عَطِيَّةُ بْنُ مُحَمَّد سَالِمٍ فِي شَرْحِ بُلُوغِ المَرَامِ (160 / 7):
وَهَكَذَا عِنْدَمَا يَأْتِي الحَاجُّ وَيَشْرَعُ فِي نُسُكِهِ يَكُونُ شِعَارُهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَ(لَبَّى) فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الإِجَابَةِ وَالإِقَامَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، إِذَا نَادَاكَ إِنْسَانٌ فَقُلْتَ: لَبَّيْكَ. مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَا هَاهُنَا وَتَحْتَ أَمْرِكَ، أَجَبْتُكَ فِي دُعَائِكَ، وَمُمْتَثِلٌ لِأَوَامِرِكَ، فَالحَاجُّ حِينَمَا يَشْرَعُ فِي نُسُكِهِ يُعْلِنُ قَائِلًا: لَبَّيْكَ، إِنَّمَا هِيَ إِجَابَةٌ لِذَاكَ النِّدَاءِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. أَه.
2- أَمَّا مُصْطَلَحًا وَشَرْعًا فَهِيَ بِنَفْسِ المَعْنَى أَيْ أَجَبْتُكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهَا مَعْنًى خَاصًّا وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ اخْتِصَاصَ إِطْلَاقِهَا عَلَى اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) أَبَدًا، بَلْ حَتَّى مَعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الحَجِّ وَقَوْلِ لَبَّيْكَ اللهُ لَبَّيْكَ، فَإِنَّهُمْ يُفَسِّرُونَهَا عَلَى أَنَّهَا يُقْصَدُ مِنْهَا إِجَابَةُ المَخْلُوقِ وَهُوَ نِدَاءُ إِبْرَاهِيمَ (عَ) لِلنَّاسِ بِالحَجِّ.
قَالَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الكَبِيرِ (2 / 42 (قَوْلُهُ: لَبَّيْكَ) مَعْنَاهُ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، أَيْ أَجَبْتُكَ لِلحَجِّ حِينَ أَذَّنَ إِبْرَاهِيمُ بِهِ فِي النَّاسِ كَمَا أَجَبْتُكَ أَوَّلًا حِينَ خَاطَبْتَ الأَرْوَاحَ بِأَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ.كَذَا قِيلَ. وَالأَحْسَنُ أَنَّ مَعْنَاهُ امْتِثَالًا لَكَ بَعْدَ امْتِثَالٍ فِي كُلِّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ.
3- تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ لَا يَخْتَصُّ اسْتِعْمَالُهَا بِإِجَابَةِ الخَالِقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اسْتِعْمَالُ الصَّحَابَةِ لِهَذِهِ الكَلِمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكُلِّ أَرْيَحِيَّةٍ وَمِنْ دُونِ أَيِّ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ وَلَا اتِّهَامٍ.
فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (1/41): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَمَعَاذًا رَدِيفَهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ؟ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: يَا مَعَاذُ؟ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا...
وَفِي البُخَارِيِّ أَيْضًا (1 / 121) وَمُسْلِمٍ (5 / 30) قَالَ: ...وَنَادَى: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ؟ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
وَفِيهِ أَيْضًا (5 / 105). قَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟ قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، لَبَّيْكَ نَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ.
وَفِي البُخَارِيِّ (5 / 106) وَمُسْلِمٍ (3 / 106): فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلُطْ بَيْنَهُمَا، الْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟ قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟ قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ. وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ فَنَزَلَ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ فَانْهَزَمَ المُشْرِكُونَ فَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ غَنَائِمَ كَثِيرَةً فَقَسَّمَ فِي المُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةً فَنَحْنُ نُدْعَى وَيُعْطَى الغَنِيمَةُ غَيْرَنَا....
وَفِي البُخَارِيِّ (7 / 177) وَمُسْلِمٍ (3 / 75): قَالَ أَبُو ذَرٍ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي حُرَّةِ المَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أَحَدٌ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ....
وَفِي البُخَارِيِّ (7/179): ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو القَاسِمِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ: أَبَا هِرٍّ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: الحَقْ وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ... قَالَ: أَبَا هِرٍّ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: الحَقْ إِلَى أَهْلِ الصِّفَةِ فَادْعُهُمْ لِي... قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: خُذْ فَأَعْطِهِمْ... فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ. قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (5 / 67): قَال رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ عَبَّاسٌ نَادِ أَصْحَابَ السَّمْرَةِ. فَقَالَ عَبَّاسٌ: فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمْرَةِ. قَالَ: فَوَ اللهِ لَكَانَ عَطَفَتْهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةَ البَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ...
فَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نِدَاءِ الحَيِّ وَإِجَابَتِهِ بِلَبَّيْكَ.
وَأَمَّا إِجَابَةُ الغَائِبِ بِقَوْلِنَا: لَبَّيْكَ. فَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَبُو قُرْفَاصَةَ كَمَا فِي الآحَادِ وَالمَثَانِيِّ (2 / 82): أَنَّ أَبَا قُرْفَاصَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَان لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ عياضٌ، فَكَانَ أَبُو قُرْفَاصَةَ إِذَا انْتَبَهَ لِصَلَاةِ الغَدَاةِ نَادَى: يَا عياضُ، الصَّلَاةُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ يَا أَبَة... وَأَنَّ أَبَا قُرْفَاصَةَ كَانَ إِذَا انْتَبَهَ وَهُوَ بِالشَّامِ نَادَى كَمَا كَانَ يَصْنَعُ: يَا عياضُ، الصَّلَاةُ الصَّلَاةُ. وَهُوَ بِأَرْضِ الرُّومِ فَإِذَا انْتَبَهَ يَقُولُ: يَا عياضُ. فَيَقُولُ عياضٌ: يَا أَبَة لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ.
وَعِنْدَ ابْنِ حَبَّانَ أَبِي الشَّيْخِ الأَصْفَهَانيِّ فِي طَبَقَاتِ المُحَدِّثِينَ (3 / 435): كَانَتْ لِأَبِي قُرْفَاصَةَ صُحْبَةٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ كَسَاهُ برنسًا، وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَيَدْعُو لَهُمْ وَيُبَارِكُ فِيهِمْ فَيَعْرِفُ البَرَكَةَ فِيهِمْ وَكَانَ لِأَبِي قُرْفَاصَةَ ابْنٌ فِي بِلَادِ الرُّومِ غَازِيًا، وَكَانَ أَبُو قُرْفَاصَةَ إِذَا أَصْبَحَ فِي السَّحَرِ بعَسْقَلَانَ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا قُرْفَاصَةُ، الصَّلَاةُ. فَيَقُولُ قُرْفَاصَةُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ: لَبَّيْكَ يَا أَبَتَاهُ. فَيَقُولُ أَصْحَابُهُ: وَيْحَكَ لِمَنْ تُنَادِي؟ فَيَقُولُ: لِأَبِي وَرَبِّ الكَعْبَةِ يُوقِظُنِي لِلصَّلَاةِ.
أَمَّا الكَلَامُ مَعَ المَيِّتِ وَإِجَابَتُهُمْ بِقَوْلِ "لَبَّيْكَ" كَمَا هُوَ الحَالُ مَعَ الغَائِبِ بِلَا فَرْقٍ فَهَذَا وَاضِحٌ أَنَّهُ مِنْ المَجَازِ - لِكَوْنِ "لَبَّيْكَ" تُسْتَعْمَلُ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَالنِّدَاءِ فِي الأَصْلِ - فَكَمَا نُجِيبُ دَعْوَةَ نَبِيِّ اللهِ إِبْرَاهِيمَ وَنِدَاءَهُ لَنَا بِالحَجِّ للهِ تَعَالَى بَعْدَ آلَافِ السِّنِينَ، وَكَذَلِكَ كَمَا فَعَلَ قُرْفَاصَةُ فَأَجَابَ دَعْوَةَ وَنِدَاءَ أَبِيهِ وَهُوَ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَنَحْنُ نُجِيبُ دَعْوَةَ رَسُولِ اللهِ وَالزَّهْرَاءِ وَأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ وَالمَهْدِيِّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مَجَازًا كَوْنُهُمْ فِي وَاقِعِ الحَالِ يَدْعُونَنَا إِلَى الإِلْتِزَامِ بِأَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَحُبِّهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ، فَنَحْنُ نَسْتَجِيبُ لِدَعْوَتِهِمْ بِهَذَا النِّدَاءِ المُفْتَرَضِ مِنْهُمْ فَلَا إِشْكَالَ قَطْعًا لُغَةً أَوْ شَرْعًا فِي إِجَابَتِهِمْ (ع) وَإِجَابَةِ دَعَوْتِهِمْ مَجَازًا، وَاللهُ العَالِمُ وَالهَادِي إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.
اترك تعليق