هَلْ يَحْتَرِمُ الدِّيْنُ حُرِّيَّةَ التَّعْبِيْرِ؟
يَقُوْلُ المُلْحِدُوْنَ: هُنَالِكَ مُغَالَاةٌ مِنْ قِبَلِ المُجْتَمَعِ فِي إحْتِرَامِ الدِّيْنِ، بَل إِنَّهُ يَجْعَلُهُ فَوْقَ كُلِّ مُسْتَوَيَاتِ الاِحْتِرَامِ لِلْإِنْسَانِ، وَلِنَضْرِبَ مِثَالَاً عَلَى ذَلِكَ فِي أَيْلُوْلَ 2005 نَشَرَتْ صَحِيْفَةُ (جيللاندز بوستن) إِثْنَي عَشَرَ رَسْمَاً كَارِيْكَاتُوْرِيَّاً يُصَوِّرُوْنَ بِهِ النَّبِيَّ مُحَمَّدً (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ) الأَمْرُ الَّذِي أَدَّى إِلَى إِشْعَالِ نَارِ الغَضَبِ وَالنِّقْمَةِ فِي العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ مِنْ قِبَلِ مَجْمُوْعَةٍ صَغِيْرَةٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ الَّذِيْنَ يَعِيْشُوْنَ فِي الدّنمارك، وَبِقِيَادَةِ إِمَامَيْنِ إثْنَيْنِ كَانَا قَدْ مُنِحَا حَقَّ اللُّجُوْءِ فِيْهَا!! وَالسُّؤَالُ هُوَ: لِمَاذَا لَا يَحْتَرِمُ المُؤْمِنُوْنَ حُرِّيَّةَ التَّعْبِيْرِ فِي إنْتِقَادِ الدِّيْنِ وَرُمُوْزِهِ؟
حَتَّى نُجِيْبَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ لَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيْلِ فِي مَعْنَى الحُرِّيَّةِ لِأَنَّهَا تُسْتَغَلُّ كَثِيْرَاً لِتَمْرِيْرِ بَعْضِ الأَفْكَارِ المَغْلُوْطَةِ، فَإِذَا لَمْ تَتَّضِحْ حَقِيْقَةُ الحُرِّيَّةِ وَالإِطَارُ الَّذِي تَتَحَرَّكُ فِيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَ التَّحَفُّظَاتِ الَّتِي يُبْدِيْهَا الإِسْلَامُ عَلَى الحُرِّيَّاتِ الغَرْبِيَّةِ، وَالمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَاتِ الأَمْثِلَةِ الَّتِي تُذْكَرُ لِلْبَرْهَنَةِ عَلَى عَدَمِ اِحْتِرَامِ الإِسْلَامِ لِلْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ بِالإِمْكَانِ الإِجَابَةُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِشَكْلٍ نَقْدِيٍّ كَأَنْ نَقُوْلَ أَنَّ الحُرِّيَّةَ الَّتِي سَمَحَتْ لَهُمْ تَشْوِيْهَ صُوْرَةِ النَّبِيِّ الأَكْرَمِ هِيَ ذَاتُهَا تَسْمَحُ لِلْمُسْلِمِيْنَ الاِعْتِرَاضَ عَلَيْهَا بِالشَّكْلِ الَّذِي يَرَوْنَهُ مُنَاسِبَاً، إِلَّا أَنَّ مِثَلَ هَذِهِ الأَجْوِبَةِ لَا تُقَدِّمُ مُعَالَجَةً جَذْرِيَّةً لِمَفْهُوْمِ الحُرِّيَّةِ بَيْنَ الإِسْلَامِ وَالإِلْحَادِ.
مَفْهُوْمُ الحُرِّيَّةِ:
لَا خِلَافَ عَلَى كَوْنِ الحُرِّيَّةِ قِيْمَةً أَسَاسِيَّةً وَمِحْوَرِيَّةً، وَمَعْ ذَلِكَ مَا زَالَ هُنَاكَ مَسَاحَاتٌ مِنَ الغُمُوْضِ تَحْتَاجُ إِلَى مَزِيْدٍ مِنَ التَّوْضِيْحِ، الأَمْرُ الَّذِي يَقُوْدُنَا إِلَى التَّسَاؤُلِ عَنْ مَاهِيَّةِ الحُرِّيَّةِ وَطَبِيْعَتِهَا الوُجُوْدِيَّةِ.
الحُرِّيَّةُ كَمَفْهُوْمٍ ذِهْنِيٍّ مُجَرَّدٍ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ مَفْهُوْمَاً طَارِدَاً لِلْقُيُوْدِ وَالمَوَانِعِ وَالحُدُوْدِ وَأَيِّ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ الحَظْرِ، فَهِيَ حَالَةٌ مِنَ الحَرَكَةِ المُتَّسِعَةِ بِاتِّسَاعِ الوُجُوْدِ، وَالحُرِّيَّةُ بِهَذَا المَعْنَى هِيَ مُطْلَقُ التَّرْجِيْحِ بَيْنَ الخِيَارَاتِ المُتَعَدِّدَةِ مِنْ دُوْنِ أَنْ يَحْمِلَ أَيُّ خِيَارٍ مِنَ الخِيَارَاتِ سُلْطَةً إِلْزَامِيَّةً.
وَالحُرِّيَّةُ بِهَذَا المَفْهُوْمِ لَا تَعْتَرِفُ بِالمُرَجِّحَاتِ المَوْضُوْعِيَّةِ لِأَنَّهَا تُمَارِسُ تَأْثِيرَاً خَارِجَ حُدُوْدِ الذَّاتِ، وَبِالتَّالِي هِيَ حُرِّيَّةُ لَا مِعْيَارِيَّةٌ لِأَنَّ المَفْهُوْمَ المُجَرَّدَ لِلْحُرِّيَّةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَقِيْمَ مَعْ وُجُوْدِ مِعْيَارِيَّةٍ تَرْجِيْحِيَّةٍ.
إِلَّا أَنَّ الإِشْكَالِيَّةَ الكُبْرَى وَالَّتِي يَغْفُلُ عَنْهَا الكَثِيْرُ هِيَ أَنَّ الحُرِّيَّةَ المُجَرَّدَةَ لَا وُجُوْدَ لَهَا البَتَّةَ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُتَاحٌ وَمَوْجُوْدٌ هُوَ الإِنْسَانُ الحُرُّ، وَالفَرْقُ كَبِيْرٌ جِدَّاً بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ؛ فَالحُرِّيَّةُ المُجَرَّدَةُ الَّتِي تَسْبَحُ فِي الفَرَاغِ وَالَّتِي لَا تُوَاجِهُهَا مَوَانِعٌ وَلَا حُدُوْدٌ قَدْ لَا تَكُوْنُ مَوْجُوْدَةً حَتَّى فِي عَالَمِ المُجَرَّدَاتِ، وَمَا يَقَعُ فِيْهِ بَعْضُ المُنْدَفِعِيْنَ نَحْوَ الحُرِّيَّةِ هُوَ الإنْطِلَاقُ مِنَ المَفْهُوْمِ المُجَرَّدِ لِيُسْقِطَهُ عَلَى الوَاقِعِ دُوْنَ أَنْ يَكْتَرِثَ لِوُجُوْدِ مَسَاحَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ الحُرِّيَّةِ كَمَفْهُوْمٍ وَبَيْنَ الحُرِّيَّةِ كَوَاقِعِيَّةٍ إِنْسَانِيَّةٍ.
وَمِنْ هُنَا نَحْنُ نَحْتَاجُ قَبْلَ التَّطَرُّقِ لِحُدُوْدِ الحُرِّيَّةِ وَالمَسَاحَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَحَرَّكَ فِيْهَا، إِلَى التَّعَرُّفِ أَوَّلَاً عَلَى الإِنْسَانِ كَفَرْدٍ وَالإِنْسَانِ كَمُجْتَمَعٍ ثُمَّ نَرْسِمُ حُدُوْدَ الحُرِّيَّةِ بِحَسَبِ الوَاقِعِيَّةِ المُمْكِنَةِ، وَالمَقْصُوْدُ مِنْ هَذِهِ الوَاقِعِيَّةِ هُوَ المَوْقِفُ الجَمْعِيُّ لِلْعُقَلَاءِ. وَبِهَذَا الشَّكْلِ تُصْبِحُ الحُرِّيَّةُ ذَاتَ قِيْمَةٍ لِأَنَّهَا تُوْجَدُ ضِمْنَ سِيَاقَاتٍ قِيَمِيَّةٍ تُرَاعِي قِيْمَةَ الإِنْسَانِ الوُجُوْدِيَّةَ، كَمَا تُرَاعِي طُمُوْحَاتِهِ ضِمْنَ التَّصَوُّرِ العَقْلَانِيِّ الَّذِي يَرْصُدُ غَايَاتِ تِلْكَ الطُّمُوْحَاتِ، كَمَا تُرَاعِي أَيْضَاً قِيْمَةَ الفِعْلِ ضِمْنَ الرُّؤْيَةِ الكَوْنِيَّةِ.
بِهَذَا الشَّكْلِ مِنَ التَّفْكِيْرِ سَيُضْطَرُّ الإِلْحَادُ إِلَى الخُرُوْجِ مِنْ حِوَارِ الحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِزُ عَلَى رُؤْيَةٍ عَبَثِيَّةٍ لِلْإِنْسَانِ لَا تَرَى فِيْهِ غَيْرَ الأَنَانِيَّةِ، وَهِيَ نَظْرَةٌ لَيْسَتْ مُجْحِفَةً فَقَطْ فِي حَقِّ الإِنْسَانِ بِوَصْفِهِ قِيْمَةً، وَإِنَّمَا هِيَ نَظْرَةٌ مُدَمِّرَةٌ حَتَّى لِوُجُوْدِهِ الأَنَانِيِّ، فَالإِلْحَادُ الَّذِي يُنَادِي بِالحُرِّيَّةِ اللّامِعْيَارِيَّةِ، وَاللّامَوْضُوْعِيَّةِ، وَاللّاعُقْلَائِيَّةِ، شَبِيْهٌ بِحَالِ الأَبِ المُهْمِلِ الَّذِي يُوَفِّرُ لِإبْنِهِ الحُرِّيَّةَ المُطْلَقَةَ فِي تَنَاوُلِ كُلِّ أَنْوَاعِ الحَلَوِيَّاتِ وَالمَأْكُوْلَاتِ وَالمَشْرُوْبَاتِ وَكُلِّ مَا يُحِبُّ وَيَرْغَبُ فِيْهِ، فَكَمَا أَنَّ الأَبَ بِذَلِكَ التَّصَرُّفِ قَدْ حَكَمَ عَلَى إبْنِهِ بِالاِنْتِحَارِ، كَذَلِكَ المُلْحِدُ حَكَمَ عَلَى كُلِّ الإِنْسَانِيَّةِ بِالاِنْتِحَارِ.
صَحِيْحٌ أَنَّ الطِّفْلَ لَهُ الحَقُّ فِي مَا يَرْغَبُ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنَ الصَّحِيْحِ أَنْ يَنْظُرَ الأَبُ لِطِفْلِهِ وَكَأَنَّهُ مُجَرَّدُ مَوْجُوْدٍ لَهُ رَغْبَةٌ، وَإِنَّمَا هُنَاكَ جَوَانِبُ أُخْرَى يَجِبُ رُؤْيَتُهَا فِي الطِّفْلِ غَيْرَ الرَّغْبَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا يَكُونُ مِنَ الضَّرُوْرِيِّ وَضْعُ كَوَابِحَ لِهَذِهِ الرَّغْبَةِ مِنْ غَيْرِ كَبْتِهَا وَمُصَادَرَتِهَا، فَعِنْدَمَا يُمَارِسُ الأَبُ سَيْطَرَتَهُ عَلَى الطِّفْلِ وَيُقَيِّدُ حُرِّيَّتَهُ بِمَجْمُوْعَةٍ مِنَ الضَّوَابِطِ لَا يَعْنِي أَنَّ الحُرِّيَّةَ أَصْبَحَتْ مَحْدُوْدَةً، بَلْ مَا زَالَتْ مُطْلَقَةً لَكِنْ ضِمْنَ شُرُوْطِهَا العُقَلَائِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الفَرْقُ بَيْنَ النَّظَرِ لِلْحُرِّيَّةِ كَمَفْهُوْمٍ لَا وَاقِعِيَّةَ لَهُ، وَبَيْنَ النَّظَرِ لِلْحُرِّيَّةِ ضِمْنَ الإِمْكَانِيَّةِ الوَاقِعِيَّةِ، وَهَكَذَا الحَالُ فِي الإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ لَابُدَّ مِنْ دِرَاسَةِ الحُرِّيَّةِ ضِمْنَ الوَاقِعِيَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ وَالمُجْتَمَعِيَّةِ، وَهَذِهِ الوَاقِعِيَّةُ تُسْتَمَدُّ مِنَ النَّظْرَةِ الشَّامِلَةِ لِلْإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ وَلَيْسَتِ النَّظْرَةَ الجُزْئِيَّةَ الَّتِي تَرْصُدُ بَعْضَ الحَقَائِقِ وَتُهْمِلُ الحَقَائِقَ الأُخْرَى.
وَالمُهِمُّ هُنَا كَفِكْرَةٍ أَوَّلِيَّةٍ أَنَّ الضَّوَابِطَ العُقَلَائِيَّةَ لَيْسَتْ شَيْئَاً خَارِجَاً عَنْ طَبِيْعَةِ الحُرِّيَّةِ وَمَاهِيَّتِهَا، فَعِنْدَمَا أَقُوْلُ مَثَلَاً الإِنْسَانُ لَهُ قُدْرَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي المَشْيّ وَالحَرَكَةِ لَا أَكُوْنُ قَاصِدَاً القُدْرَةَ وَالحَرَكَةَ كَمَفْهُوْمٍ مُجَرَّدٍ ثُمَّ أُسْقِطُهُ عَلَى الإِنْسَانِ، لِأَنَّ القُدْرَةَ المُطْلَقَةَ هِيَ القُدْرَةُ عَلَى كُلِّ الشَّيْءِ وَهَذَا لَا وَاقِعِيَّةَ إِنْسَانِيَّةَ لَهُ، فَالإِنْسَانُ لَهُ قُدْرَةٌ مُطْلَقَةٌ عَلَى المَشْيّ وَالحَرَكَةِ وَلَكِنْ ضِمْنَ الإِمْكَانِيَّةِ الوَاقِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَهُ حُرِّيَّةٌ مُطْلَقَةٌ ضِمْنَ الإِمْكَانِيَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ.
وَاللَّحْظَةُ الَّتِي يُوَافِقُ فِيْهَا الإِلْحَادُ عَلَى إِدْخَالِ ضَوَابِطَ عَلَى الحُرِّيَّةِ، هِيَ ذَاتُ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَنْفَتِحُ فِيْهَا النِّقَاشُ وَاسِعَاً أَمَامَ كُلِّ المُرَجِّحَاتِ وَالضَّوَابِطِ بِمَا فِيْهَا الدِّيْنِيَّةِ، وَلَا يَحِقُّ لَهُ حِيْنَهَا الاِعْتِرَاضُ طَالَمَا الدِّيْنُ أَيْضَاً يَشْتَرِطُ القُبُوْلَ العُقَلَائِيَّ لِخِيَارَاتِهِ السُّلُوْكِيَّةِ.
وَالحُرِّيَّةُ بِالتَّصَوُّرِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ تُفْهَمُ فِي إِطَارِ المَسْؤُوْلِيَّةِ، أَيْ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ التَّرْجِيْحِ بَيْنَ الخِيَارَاتِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسْؤُوْلِيَّةُ تَرْجِيْحِ الأَصْلَحِ وَالأَوْلَى بِالتَّرْجِيْحِ، وَهَذِهِ المَسْؤُوْلِيَّةُ تَمْتَدُّ إِلَى كُلِّ جَوَانِبِ الحَيَاةِ وَالوُجُوْدِ، أَيْ أَنَّ الإِنْسَانَ مَسْؤُوْلٌ أَمَامَ نَفْسِهِ، وَمَسْؤُوْلٌ تِجَاهَ الآَخَرِيْنَ، كَمَا أَنَّهُ مَسْؤُوْلٌ عَنِ الكَوْنِ، وَهَذِهِ المَسْؤُوْلِيَّةُ تُفْهَمُ ضِمْنَ الإِطَارِ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ كُلَّ السُّلُوْكِ الإِنْسَانِيِّ صَغِيْرَاً كَانَ أَو كَبِيْرَاً، لِأَنَّ الإِنْسَانَ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَائِنٍ حُرٍّ وَحَسْبُ وَإِنَّمَا هُوَ عَاقِلٌ أَيْضَاً، وَدَوْرُ العَقْلِ فِي الحُرِّيَّةِ هُوَ تَحْدِيْدُ الخِيَارَاتِ الجَيِّدَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَخْتَارَهَا، وَبِالتَّالِي فَتْحُ الطَّرِيْقِ أَمَامَ الإِنْسَانِ لِيُمَارِسَ اِخْتِيَارَاتِهِ العُقَلَائِيَّةِ فِي الحَيَاةِ ضِمْنَ الخُطَّةِ الَّتِي تَخْدِمُ غَايَتَهُ العُلْيَا، وَهَذِهِ الخِيَارَاتُ العُقَلَائِيَّةُ مُرْتَكِزَةٌ عَلَى مَجْمُوْعَةِ حَقَائِقَ فِطْرِيَّةٍ، وَعَقْلِيَّةٍ، وَأَخْلَاقِيَّةٍ، وَعِلْمِيَّةٍ، وَدِيْنِيَّةٍ، وَبِهَذَا الشَّكْلِ يَنْتَقِلُ الإِنْسَانُ مِنْ كَوْنِهِ كَائِنَاً أَنَانِيَّاً وَشَهْوَانِيَّاً مِنْ دُوْنِ بَصِيْرَةٍ حَيَاتِيَّةٍ، إِلَى مَخْلُوْقٍ عَاقِلٍ وَمُنْضَبِطٍ بِمَنْظُوْمَةٍ مِنَ القِيَمِ الأَخْلَاقِيَّةِ وَيَتَسَامَى عَنْ رَغْبَاتِهِ الدَّنِيَّةِ.
وَالنَّظْرَةُ الشَّامِلَةُ لِلْإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ تَقُوْدُنَا إِلَى وُجُوْدِ قِيَمٍ أُخْرَى يَهْتَمُّ بِهَا الإِنْسَانُ وَالمُجْتَمَعُ غَيْرَ قِيْمَةِ الحُرِّيَّةِ، مِثْلِ قِيْمَةِ، العَدْلِ، وَالعِلْمِ، وَالقُدْرَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّسَامُحِ، وَالكَرَامَةِ، وَالطَّهَارَةِ، وَالعِزَّةِ، وَالشَّرَفِ وَسِلْسِلَةٍ طَوِيْلَةٍ مِنَ القِيَمِ المُقَدَّرَةِ عِنْدَ البَشَرِ جَمِيْعَاً، وَبِالتَّالِي عِنْدَمَا نُقَارِبُ الحُرِّيَّةَ كَقِيْمَةٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ لَابُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ بَقِيَّةِ المَنْظُوْمَةِ القِيَمِيَّةٍ، وَمُرَاعَاةِ التَّدَاخُلِ الَّذِي قَدْ يَحْدُثُ بَيْنَ هَذِهِ القِيَمِ، الأَمْرُ الَّذِي يُضْطَرُّنَا إِلَى دِرَاسَةِ القِيَمِ الإِنْسَانِيَّةِ وَتَرْتِيْبِهَا ضِمْنَ قَانُوْنِ المُهِمِّ وَالأَهَمِّ، وَمِنَ الأَخْطَاءِ الَّتِي وَقَعْتْ فِيْهَا اللّيبراليةُ أَنَّهَا إنْطَلَقَتْ مِنْ ظَرْفٍ تَارِيْخِيٍّ كَانَتْ فِيْهِ الحُرِّيَّةُ قِيْمَةً ذَاتَ أَوْلَوِيَّةٍ مُلِحَّةٍ، وَلَكِنَّهَا تَوَقَّفَتْ عِنْدَ هَذِهِ القِيْمَةِ ثُمَّ تَضَخَّمَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرَاعِيَ القِيَمَ الأُخْرَى الَّتِي يَحْتَاجُهَا أَيْضَاً الإِنْسَانُ وَالمُجْتَمَعُ، أَوْ عَلَى الأَقَلِّ جَعَلَتْهَا القِيْمَةَ المِحْوَرِيَّةَ الَّتِي تَدُوْرُ حَوْلَهَا بَقِيَّةُ القِيَمِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ بِهِ، لِوُجُوْدِ حَالَاتٍ يَجِبُ أَنْ تَتَأَخَّرَ فِيْهَا قِيْمَةُ الحُرِّيَّةِ لِقِيْمَةٍ أُخْرَى، وَخَاصَّةً عِنْدَ تَعَارُضِ القِيَمِ فِي بَعْضِ الظُّرُوْفِ الخَاصَّةِ، فَلَوْ تَعَارَضَتِ الحُرِّيَّةُ مَعَ الأَمْنِ مَثَلَاً أَيُّهُمَا نُقَدِّمُ؟ قَدْ يَكُوْنُ الأَمْنُ لَدَى الإِنْسَانِ أَكْثَرَ أَوْلَوِيَّةٍ مِنَ الحُرِّيَّةِ، أَوْ لَوْ تَعَارَضَتْ حُرِّيَّةُ مُجْتَمَعٍ مُعَيَّنٍ مَعْ فَرْضِ التَّعْلِيْمِ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّهُمَا أَوْلَى قِيْمَةُ الحُرِّيَّةِ أَمْ قِيْمَةُ العِلْمِ؟
وَهَكَذَا لَابُدَّ مِنْ رَصْدٍ شَامِلٍ لِلْقِيَمِ وَمُرَاعَاتِهَا كَحَقَائِقَ مَوْضُوْعِيَّةٍ بَعِيْدَاً عَنْ تَأْثِيْرَاتِ الظَّرْفِ الزَّمَانِيِّ وَالمُجْتَمَعِيِّ، وَهَذَا هُوَ البَابُ الَّذِي يُمَثِّلُ فِيْهِ الدِّيْنُ ضَرُوْرَةً لِلْإِنْسَانِ، لِكَوْنِهِ نَظْرَةً شَامِلَةً وَمَوْضُوْعِيَّةً لِلْإِنْسَانِ أَكْثَرَ مِنْ نَظْرَةِ الإِنْسَانِ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ نَظْرَةَ الإِنْسَانِ مُتَأَثِّرَةٌ بِالظَّرْفِ الَّذِي يَعِيْشُ فِيْهِ، وَمِنْ هُنَا نَجِدُ أَنَّ كُلَّ الفَلْسَفَاتِ البَشَرِيَّةِ قَدْ أَثَّرَ فِيْهَا الظَّرْفُ التَّارِيْخِيُّ وَالمُجْتَمَعِيُّ وَالاِقْتِصَادِيُّ وَالسِّيَاسِيُّ وَالشَّخْصِيُّ وَبِشَكْلٍ وَاضِحٍ وَكَبِيْرٍ.
وَفِي المُحَصِّلَةِ: الحُرِّيَّةُ قِيْمَةٌ ضِمْنَ مَجْمُوْعَةٍ مِنَ القِيَمِ تَتَدَاخَلُ فِيْمَا بَيْنَهَا لِتُحْدِثَ نِظَامَاً مُجْتَمَعِيَّاً مُتَكَامِلَاً، وَالحُرِّيَّاتُ الغَرْبِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ تَخْدِمُ بَعْضَ الحَاجَاتِ الضَّرُوْرِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا أَنَّهَا تُهْمِلُ بَعْضَ القِيَمِ الأُخْرَى الَّتِي تُمَثِّلُ ضَرُوْرَاتٍ وُجُوْدِيَّةً لِلْإِنْسَانِ، فَمَا يُسَمَّى بِإحْتِرَامِ الحُرِّيَّةِ التَّعْبِيْرِيَّةِ لَا خِلَافَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الخِلَافُ فِي حُدُوْدِ هَذِهِ الحُرِّيَّةِ، فَحُرِّيَّةُ التَّعْبِيْرِ مَسْؤُوْلَةٌ عَنْ إِحْدَاثِ تَفَاعُلٍ وَحِرَاكٍ إجْتِمَاعِيٍّ مِمَّا يَجْعَلُ المُجْتَمَعَ فِي حَرَكَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ بِشَكْلٍ دَائِمٍ، أَمَّا إِذَا تَحَوَّلَتْ هَذِهِ الحُرِّيَّةُ التَّعْبِيْرِيَّةُ إِلَى مِعْوَلِ هَدْمٍ لِأُسُسِ العَيْشِ المُشْتَرَكِ وَإحْتِرَامِ الإخْتِلَافِ وَالتَّعَدُّدِيَّاتِ حِيْنَهَا تَفْقِدُ قِيْمَتَهَا المُجْتَمَعِيَّةَ، وَمِنْ هُنَا لَا يَجُوْزُ أَنْ تُوَظَّفَ قِيْمَةُ الحُرِّيَّةِ لِتَصْفِيَةِ الخُصُوْمِ بِشَكْلٍ لَا أَخْلَاقِيٍّ، فَهَذِهِ الرُّسُوْمُ المُسِيْئَةُ لِلرَّسُوْلِ الأَكْرَمِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ) أَوّلَاً لَا تَخْدِمُ حُرِّيَّةَ التَعْبِيْرِ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ التَّعْبِيْرِ لَا تَعْنِي الاِفْتِرَاءَ عَلَى الآَخَرِيْنَ وَتَشْوِيْهَ الصُّوْرَةِ وَقَلْبَ الحَقَائِقِ. وَثَانِيَاً: حُرِّيَّةُ التَّعْبِيْرِ لَا تَعْنِي عَدَمَ إحْتِرَامِ الآَخَرِ المُخَالِفِ، فَالقَنَاعَاتُ الَّتِي تُشَكِّلُ حَيِّزَاً مُجْتَمَعِيَّاً يَجِبُ أَنْ تُحْتَرَمَ حَتَّى لَوْ إخْتَلَفْنَا مَعَهَا لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لَهَا يَعْنِي تَهْدِيْدَ بُنْيَةِ المُجْتَمَعِ.
اترك تعليق