مِن نفائسِ أهلِ البيتِ (عليهمُ السّلامُ): حديثُ جنودِ العقلِ والجهلِ.
ابو فلاح/: السّلامُ عليكُم، هَل يُمكنكُم توضيحُ حديثِ جنودِ العقلِ والجهلِ للإمامِ الصّادقِ (عليهِ السّلامُ) باختصارٍ؟
الأخُ ابو فلاحٍ المحترمُ، عليكمُ السّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ
حديثُ جنودِ العقلِ والجهلِ وَرَدَنا عَن إمامينِ عظيمينِ مِن أئمّةِ أهلِ البيتِ (عليهِمُ السّلامُ)، هُمَا الإمامُ الصّادقُ (عليهِ السّلامُ) فِي حديثهِ لسماعةَ بنِ مهران [الكافِي 1:21]، والإمامُ الكاظمُ (عليهِ السّلامُ) فيمَا أوصَى بهِ هشامَ بنِ الحكمِ [تحفُ العقولِ: 383- 402]، وهوَ مِن نفائسِ أقوالهِم (عليهِمُ السّلامُ) ودُررِ حِكَمِهِم ومعارِفهِم وجديرٌ بكلِّ مؤمنٍ أن يطّلعَ على هذهِ النّفائسِ ويتزوّدَ منهَا لدنياهُ وآخرتهِ، فمَا بعدَ كلامِ أهلِ البيتِ (عليهِم السّلامُ) كلامٌ.
وسنشيرُ هُنا إلى مَا ذكرهُ الإمامُ الصّادقُ (عليهِ السّلامُ) فِي هذا الحديثِ المُباركِ، كمَا ننصحُ أن لا يتركَ المؤمنُ الإطّلاعَ على ما أفادهُ الإمامُ الكاظمُ (عليهِ السّلامُ) مِن نصائحَ عظيمةٍ لهشامِ بنِ الحكمِ والتي تعدُّ مِن غُررِ الحِكمِ والأقوالِ فِي هذا الجانبِ.
جاءَ فِي "الكافي": عَن سماعةَ بنِ مهرانَ، قالَ: كُنتُ عِندَ أبي عَبدِاللهِ عليه السّلام وعِندَهُ جَماعَةٌ مِن مَواليهِ ، فَجَرى ذِكرُ العَقلِ وَالجَهلِ ، فَقالَ أبو عَبدِاللهِ عليه السّلام : اِعرِفُوا العَقلَ وجُندَهُ وَالجَهلَ وجُندَهُ تَهتَدوا .
فَقُلتُ : جُعِلتُ فِداكَ ، لا نَعرِفُ إلّا ما عَرَّفتَنا ، فَقالَ أبو عَبدِاللهِ عليهِ السّلام : إنَّ اللهَ جلّ جلالُهُ خَلَقَ العَقلَ وهُوَ أوَّلُ خَلقٍ مِنَ الرّوحانِيّينَ عَن يَمينِ العَرشِ مِن نورِهِ ، فَقالَ لَهُ : أدبِرْ فَأَدبَرَ ؛ ثُمَّ قالَ لَهُ : أقبِلْ فَأَقبَلَ[1] ؛ فَقالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى : خَلَقتُكَ خَلقًا عَظيمًا وكَرَّمتُكَ عَلى جَميعِ خَلقي .
ثُمَّ خَلَقَ الجَهلَ مِنَ البَحرِ الأُجاجِ ظُلمانِيًّا فَقالَ لَهُ : أدبِرْ فَأَدبَرَ ؛ ثُمَّ قالَ لَهُ : أقبِلْ فَلَم يُقبِل ، فَقالَ لَهُ : اِستَكبَرتَ ، فَلَعَنَهُ .
ثُمَّ جَعَلَ لِلعَقلِ خَمسَةً وسَبعينَ جُندًا ، فَلَمّا رَأَى الجَهلُ ما أكرَمَ اللهُ بِهِ العَقلَ وما أعطاهُ ، أضمَرَ لَهُ العَداوَةَ .
فَقالَ الجَهلُ : يا رَبِّ ، هذا خَلقٌ مِثلي خَلَقتَهُ وكَرَّمتَهُ وقَوَّيتَهُ وأنَا ضِدُّهُ ولا قُوَّةَ لي بِهِ فَأَعطِني مِنَ الجُندِ مِثلَ ما أعطَيتَهُ ، فَقالَ : نَعَم ، فَإِن عَصَيتَ بَعدَ ذلِكَ أخرَجتُكَ وجُندَكَ مِن رَحمَتي ، قالَ : قَد رَضيتُ ، فَأَعطاهُ خَمسَةً وسَبعينَ جُندًا . فَكانَ مِمّا أعطَى العَقلَ مِنَ الخَمسَةِ وَالسَّبعينَ الجُندَ :
الخَيرُ وهُوَ وَزيرُ العَقلِ وجَعَلَ ضِدَّهُ الشَّرَّ وهُوَ وَزيرُ الجَهلِ ، وَالإِيمانُ وضِدَّهُ الكُفرَ ، وَالتَّصديقُ وضِدَّهُ الجُحودَ ، وَالرَّجاءُ وضِدَّهُ القُنوطَ ، وَالعَدلُ وضِدَّهُ الجَورَ ، وَالرِّضا وضِدَّهُ السَّخَطَ ، وَالشُّكرُ وضِدَّهُ الكُفرانَ ، وَالطَّمَعُ وضِدَّهُ اليَأسَ ، وَالتَّوَكُّلُ وضِدَّهُ الحِرصَ ، وَالرَّأفَةُ وضِدَّهَا القَسوَةَ ، وَالرَّحمَةُ وضِدَّهَا الغَضَبَ ، وَالعِلمُ وضِدَّهُ الجَهلَ ، وَالفَهمُ وضِدَّهُ الحُمقَ ، وَالعِفَّةُ وضِدَّهَا التَّهَتُّكَ ، وَالزُّهدُ وضِدَّهُ الرَّغبَةَ ، وَالرِّفقُ وضِدَّهُ الخُرقَ ، وَالرَّهبَةُ وضِدَّهُ الجُرأَةَ ، وَالتَّواضُعُ وضِدَّهُ الكِبرَ ، وَالتُّؤَدَةُ وضِدَّهَا التَّسَرُّعَ ، وَالحِلمُ وضِدَّهَا السَّفَهَ ، وَالصَّمتُ وضِدَّهُ الهَذَرَ ، وَالاِستِسلامُ وضِدَّهُ الاِستِكبارَ ، وَالتَّسليمُ وضِدَّهُ الشَّكَّ ، وَالصَّبرُ وضِدَّهُ الجَزَعَ ، وَالصَّفحُ وضِدَّهُ الاِنتِقامَ ، وَالغِنى وضِدَّهُ الفَقرَ ، وَالتَّذَكُّرُ وضِدَّهُ السَّهوَ ، وَالحِفظُ وضِدَّهُ النِّسيانَ ، وَالتَّعَطُّفُ وضِدَّهُ القَطيعَةَ ، وَالقُنوعُ وضِدَّهُ الحِرصَ ، وَالمُؤاساةُ وضِدَّهَا المَنعَ ، وَالمَوَدَّةُ وضِدَّهَا العَداوَةَ ، وَالوَفاءُ وضِدَّهُ الغَدرَ ، وَالطّاعَةُ وضِدَّهَا المَعصِيَةَ ، وَالخُضوعُ وضِدَّهُ التَّطاوُلَ ، وَالسَّلامَةُ وضِدَّهَا البَلاءَ ، وَالحُبُّ وضِدَّهُ البُغضَ ، وَالصِّدقُ وضِدَّهُ الكَذِبَ ، وَالحَقُّ وضِدَّهُ الباطِلَ ، وَالأَمانَةُ وضِدَّهَا الخِيانَةَ ، وَالإِخلاصُ وضِدَّهُ الشَّوبَ ، وَالشَّهامَةُ وضِدَّهَا البَلادَةَ ، وَالفَهمُ وضِدَّهُ الغَباوَةَ ، وَالمَعرِفَةُ وضِدَّهَا الإِنكارَ ، وَالمُداراةُ وضِدَّهَا المُكاشَفَةَ ، وسَلامَةُ الغَيبِ وضِدَّهَا المُماكَرَةَ ، وَالكِتمانُ وضِدَّهُ الإِفشاءَ ، وَالصَّلاةُ وضِدَّهَا الإِضاعَةَ ، وَالصَّومُ وضِدَّهُ الإِفطارَ ، وَالجِهادُ وضِدَّهُ النُّكولَ ، وَالحَجُّ وضِدَّهُ نَبذَ الميثاقِ ، وصَونُ الحَديثِ وضِدَّهُ النَّميمَةَ ، وبِرُّ الوالِدَينِ وضِدَّهُ العُقوقَ ، وَالحَقيقَةُ وضِدَّهَا الرِّياءَ ، وَالمَعروفُ وضِدَّهُ المُنكَرَ ، وَالسَّترُ وضِدَّهُ التَّبَرُّجَ ، وَالتَّقِيَّةُ وضِدَّهَا الإِذاعَةَ ، وَالإِنصافُ وضِدَّهُ الحَمِيَّةَ ، وَالتَّهيِئَةُ وضِدَّهَا البَغيَ ، وَالنَّظافَةُ وضِدَّهَا القَذَرَ ، وَالحَياءُ وضِدَّهَا الجَلَعَ ، وَالقَصدُ وضِدَّهُ العُدوانَ ، وَالرّاحَةُ وضِدَّهَا التَّعَبَ ، وَالسُّهولَةُ وضِدَّهَا الصُّعوبَةَ ، وَالبَرَكَةُ وضِدَّهَا المَحقَ ، وَالعافِيَةُ وضِدَّهَا البَلاءَ ، وَالقَوامُ وضِدَّهُ المُكاثَرَةَ ، وَالحِكمَةُ وضِدَّهَا الهَوى ، وَالوَقارُ وضِدَّهُ الخِفَّةَ ، وَالسَّعادَةُ وضِدَّهَا الشَّقاوَةَ ، وَالتَّوبَةُ وضِدَّهَا الإِصرارَ ، وَالاِستِغفارُ وضِدَّهُ الاِغتِرارَ ، وَالمُحافَظَةُ وضِدَّهَا التَّهاوُنَ ، وَالدُّعاءُ وضِدَّهُ الاِستِنكافَ ، وَالنَّشاطُ وضِدَّهُ الكَسَلَ ، وَالفَرَحُ وضِدَّهُ الحُزنَ ، وَالاُلفَةُ وضِدَّهَا الفُرقَةَ ، وَالسَّخاءُ وضِدَّهُ البُخلَ .
فَلا تَجتَمِعُ هذِهِ الخِصالُ كُلُّها مِن أجنادِ العَقلِ إلّا في نَبِيٍّ أو وَصِيِّ نَبِيٍّ ، أو مُؤمِنٍ قَدِ امتَحَنَ اللهُ قَلبَهُ لِلإِيمانِ ، وأمّا سائِرُ ذلِكَ مِن مَوالينا فَإِنَّ أحَدَهُم لا يَخلو مِن أن يَكونَ فيهِ بَعضُ هذِهِ الجُنودِ حَتّى يَستَكمِلَ ويَنقى مِن جُنودِ الجَهلِ ، فَعِندَ ذلِكَ يَكونُ فِي الدَّرَجَةِ العُليا مَعَ الأَنبِياءِ وَالأَوصِياءِ ، وإنَّما يُدرَكُ ذلِكَ بِمَعرِفَةِ العَقلِ وجُنودِهِ ، وبِمُجانَبَةِ الجَهلِ وجُنودِهِ ، وَفَّقَنَا اللهُ وإيّاكُم لِطاعَتِهِ ومَرضاتِهِ. [الكافِي 1: 21، كتابُ العقلِ والجهلِ، الحديثُ 14].
وهذا الحديثُ العظيمُ (حديثُ جنودِ العقلِ والجهلِ) قَد تعرّضَ لشرحهِ نخبةٌ منَ العلماءِ الأعلامِ كآيةِ اللهِ السّيّدِ حسنِ الصّدرِ، والإمامِ الخمينيّ، وغيرهِمَا، وفِي طيّاتهِ بحوثٌ أخلاقيّةٌ وعرفانيّةٌ وفقهيّةٌ عظيمةٌ، فالحديثُ يُشيرُ في بدايتهِ إلى لزومِ معرفةِ العقلِ وجنودهِ والجهلِ وجنودهِ حتّى يهتدِيَ الإنسانُ، فالضّدُّ يُعرفُ حقيقتهُ وكمالهُ بضدّهِ، فمَن لا يعرفُ حقيقةَ الجهلِ لا يعرفُ حقيقةَ العقلِ والعلمِ، فربّمَا يكونُ مَا عندَ الإنسانِ جهلاً مركّباً وهوَ يحسبهُ علماً وهوَ لا يدرِي.
فقولهُ (عليهِ السّلامُ): (إعرفُوا العقلَ وجندَهُ والجهلَ وجندَهُ تهتدُوا)، يشيرُ إلى هذهِ الحقيقةِ، فلا يكتفِي الإنسانُ بمَا عندهُ مِن وسائلَ علميّةٍ وعقليّةٍ مِن دونِ الإطّلاعِ على وسائلِ خصمهِ وأدواتهِ (الجهلُ وأعوانهُ) حتّى يستطيعَ محاربتَهُ والتّخلّصَ مِن أحابيلهِ لو امتدَّتْ إليهِ، وبالتّالِي يضمنُ الهدايةَ الكاملةَ على الصّراطِ المُستقيمِ.
ثمَّ يُشيرُ الإمامُ (عليهِ السّلامُ) إلى ضرورةِ البعدِ العمليّ فِي هذهِ الهدايةِ، وهوَ معرفةُ مكارمِ الأخلاقِ والعملِ بها، فالهدايةُ لا تكونُ بالعلمِ فقَط، ما لم تضُمَّ إلى هذا العلمِ مكارمَ الأخلاقِ ومحاسنَهَا التي تَجعلكَ مصداقاً حقيقيّاً لِمَا أحرزتهُ مِن جواهرِ العلمِ ودُررِ العقلِ، وهكذا يلتقِي البُعدانِ: النّظريّ والعمليّ، فِي منظومةِ الهدايةِ الإلهيّةِ، وهوَ مَا شرحهُ (عليهِ السّلامُ) بالتّفصيلِ حينَ عرّفنَا بكلِّ صفةٍ مِن صفاتِ العقلِ بمَا يقابلهَا مِن صفاتِ الجهلِ، ومَا هوَ الجانبُ الذي ينبغِي التّحلّيُّ بهِ، والجانبُ الذي ينبغِي التّخلِيُّ عنهُ، وهكذا حتّى يصلَ الإنسانُ إلى مرحلةِ التّجلّي، وهيَ المرحلةُ القصوى للإيمانِ وعينِ اليقينِ.
هذا مَا يمكنُ بيانهُ باِختصارٍ عَن هذا الحديثِ العظيمِ، فالمجالُ لا يسعُ لبيانِ كلِّ مطالبهِ، ويمكنُ للأخوةِ الأعزّاءِ العودةُ إلى المَصدرينِ اللّذينِ أشرنَا إليهمَا فِي شرحِ هذا الحديثِ المُباركِ والاِستفادةِ مِن غُرَرهِ ودُرَرهِ.
ودمتُم سالِمينَ.
اترك تعليق