الخلطُ بينَ مواردِ جوازِ الكذبِ ومُباهتةِ أهلِ البدعِ
ما تذكرونهُ فيهِ خلطٌ كثيرٌ عندَ القائلِ بهذا الكلامِ ، فالشّرعُ جوّزَ الكذِبَ في مواردَ محدودةٍ لا يجوزُ تجاوزُهَا وفي حالِ الإضطّرارِ ( كإنقاذِ نفسٍ مُحترمةٍ منَ الضّررِ ، أو لإصلاحِ ذاتِ البَينِ ونحوِ ذلكَ ) ، وعلى المُؤمنِ أن يلتزمَ بهذا الحُكمِ الشّرعيّ ولا يحقُّ لهُ شرعاً إستعمالُ الكذبِ في غيرِ مواردِ الإضطرارِ المذكورةِ في كُتبِ الفقهِ، ومعهُ لا تستقيمُ دَعوى القائلِ بلزومِ التّشدّدِ معَ المُؤمنِ أو المُتديّنِ وعدمُ الأخذِ بشهادتهِ لإحتمالِ أنّهُ يكذبُ لمصلحةٍ يراها ، فهذا الكلامُ غيرُ مُستقيمٍ ، فالإنسانُ إذا كانَ مُؤمِناً حقّاً فلا يتجاوزُ الشّرعَ ، وما حدّدهُ الشّرعُ لهُ مِن مواردِ الجوازِ واضحٌ أيضاً، أمّا دَعوى جوازِ تسقيطِ المُخالفِ مِن خلالِ الكذبِ ولَو بنحوِ إتّهامهِ بالزّنا والسّرقةِ فهيَ ليسَت صحيحةً ولا يوجدُ مُستندٌ شرعيٌّ لهَا ، بَلِ الواردُ هوَ إظهارُ البراءةِ مِن أهلِ البدَعِ وإلقاءُ الوقيعةِ بينَهم ومباهتتُهم حتّى لا يطمَعُوا في الفسادِ في الإسلامِ ، وأهلُ البدعِ أعمُّ مِن أن يكونُوا مخالفينَ أو مؤالفينَ ، فكلُّ مَن أدخلَ في الدّينِ ما ليسَ منهُ ولا يوجدُ مُستندٌ شرعيٌّ لِمَا يذهبُ إليهِ فهوَ مُبتدعٍ ينبغِي إظهارُ البراءةِ منهُ حسبَ الحديثِ الصّحيحِ الذي رَواهُ الشّيخُ الكُلينيّ في " الكافي " : عَن أبي عبدِ اللهِ عليهِ السّلامُ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ : إذا رأيتُم أهلَ الرّيبِ والبدَعِ مِن بعدي فأظهِرُوا البراءةَ مِنهُم ، وأكثِرُوا مِن سبّهِم ، والقولِ فيهِم والوقيعةِ ، وباهتوهُم كَي لا يطمَعُوا في الفسادِ في الإسلامِ ، ويحذرَهُم النّاسُ ولا يتعلَّمونَ مِن بِدَعِهِم يكتبُ اللهُ لكُم بذلكَ الحسناتِ ، ويرفَع لكُم بهِ الدّرجاتِ في الآخرةِ . [ الكافِي 2: 375]جاءَ في " الوافي " في شرحِ الحديثِ المذكورِ : (( والقولُ فيهِم يعنِي بما يشينُهُم والوقيعةُ الغيبةُ ، « باهتوهُم » أي جادلوهُم وأسكتوهُم واقطعُوا الكلامَ عليهِم )) [ الوافي للفيض الكاشاني 1: 245] وجاءَ عنِ الشّيخِ مُحمّد المؤمن القمّي في " مباني تحريرِ الوسيلةِ " : (( أنَّ قولهُ : « باهتوهُم » ترغيبٌ في إيرادِ البُهتانِ والفِريةِ عليهِم ، وإطلاقهُ شاملٌ لقذفِهِم بمثلِ الزّنا واللّواطِ ، لكنّهُ مبنيٌّ على كونِ المُباهتةِ هُنا بمعنى إيرادِ البُهتانِ ، وهوَ غيرُ مسلَّمٍ إذ مِنَ المُحتملِ أن يُرادَ بهَا جعلُهُم مُتحيّرينَ بإلزامِهِم ببُطلانِ قولِهِم بالحُججِ القاطعةِ ، كما في قولهِ تعالى * ( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) * ، فحاصلُ الحديثِ : أنّهُ يجبُ هتكُ حيثيّاتِهِم بذكرِ مَا فيهِم ، كما يجبُ جعلُهُم مَبهوتينَ بإقامةِ الحُججِ القاطعةِ على بطلانِ مقالتِهِم ، ومعَ هذا الإحتمالِ فلا حجّةَ فيهَا على جوازِ قَذفِهِم ، بَل إنَّ عموماتِ حرمةِ القذفِ ولزومِ الحدِّ بهِ مُحكَّمةٌ.إنْ قلتَ : إنَّ إطلاقَ تجويزِ سَبّهِم بَلِ الأمرُ بهِ يقتضِي جوازَ سبِّهِم بمثلِ القذفِ .قلتُ : إنَّ ما يقتضيهِ السّبُّ بما هو سبٌّ إنّما هوَ إهانةُ المَسبوبِ ، وأمّا إرتكابُ الكذبِ أو أيّ حرامٍ آخرَ مثلًا فلا ، فغايةُ تجويزِ السبِّ إنّما هوَ تجويزُ إهانتِهِم لا مثلَ قذفِهِم المُشتملِ على حرامٍ آخرٍ )). [ مباني تحريرِ الوسيلةِ 2: 451]فكمَا نرى أنَّ الكذبَ - عندَ عُلمائِنا - محرّمٌ حتّى في حقِّ أهلِ البدَعِ فضلاً عنِ المُخالفِ ، فلا يجوزُ قذفُهُم بالزّنا ونحوهِ ، والأمرُ الواردُ بمُباهتتِهِم يُرادُ بهِ جعلُهُم مُتحيّرينَ مِن خلالِ إبطالِ قولِهِم بالحُحجِ القاطعةِ لا بالكذبِ والإفتراءِ عليهِم بالباطلِ ، فهذا محرّمٌ ولا يُجيزهُ الشّرعُ، فعموماتُ حُرمةِ القذفِ ولزومِ الحدِّ بهِ مُحكَمةٌ ولا يوجدُ مَا يعارضُهَا بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ حتّى يمكنَ القولُ بتخصيصِهَا بهِ.ودُمتُم سالِمينَ.
اترك تعليق