مَرحليّةُ الإستنباطِ عندَ الإماميّةِ
الأخوةُ الأكارمُ طرحَ بعضُ الأساتذةِ الأكاديميّنَ هذا السّؤالَ: هَل يُمكنُ للمُجتهدِ ( الفقيهِ الشّيعيّ الإماميّ ) أن يُفتيَ في مسألةٍ مُعيّنةٍ ليسَ فيهَا دليلٌ ولا روايةٌ منَ القُرآنِ ولا منَ السّنّةِ ولا في سيرةِ أهلِ البيتِ عليهمُ السّلامُ؟ بمعنىً آخرَ: هَل يُمكنُ للمُجتهدِ ( مُعتمِداً على رأيهِ العلميّ الشّخصيّ ) أن يُعطيَ رأياً في مسألةٍ مُستحدثةٍ رُغمَ عدمِ وجودِ مَصدرٍ لهَا في القُرآنِ وسُنّةِ رسولِ اللهِ وأهلِ بيتهِ عليهمُ السّلامُ ؟!
لا بأسَ أنْ نذكُرَ هُنا منهجَ الإماميّةِ في إستنباطِ الحُكمِ الشّرعيّ، وكيفَ أنّهُ يَخضعُ لضَوابطَ دقيقةٍ جِدّاً لا دَخلَ للآراءِ الشّخصيّةِ فيهَا غيرِ المُستندةِ إلى دليلٍ شرعيٍّ قطعيٍّ من حيثُ الحُجيّةُ، فالإستنباطُ عندَ الإماميّةِ يمرُّ بمرحلتينِ:
المرحلةُ الأَولى: الفحصُ عنِ الدّليلِ على الحُكمِ الشّرعيّ مِن خلالِ الكتابِ والسّنّةِ والإجماعِ والعقلِ.
وفي هذهِ المرحلةِ توجدُ سِلسلةٌ مِنَ الإجراءاتِ الطّويلةِ تمرُّ بهَا الأدلّةُ حتّى يَستنبطَ الفقيهُ مِنهَا الحُكمَ الشّرعيَّ، فعلى سبيلِ المثالِ حتّى تكونَ الرّوايةُ ( المُستفادةُ منَ السّنّةِ ) حُجّةٌ ويمكنُ الأخذُ بهَا يجبُ أن تكونَ مُعتبرةَ السّندِ، ولا تخالفُ القُرآنَ الكريمَ، ولا تُخالفُ العقلَ القطعيّ، ولا تُخالفُ الحقائقَ العِلميّةَ الثّابتةَ، ولا تُخالفُ المُسلّماتِ في الشّريعةِ، ولا تُخالفُ ثوابتَ المذهبِ، ولا تكونُ صادرةً للتّقيّةِ، ولا تكونُ مُعارضةً لروايةٍ أُخرى مِن مرويّاتِنا، وإذا كانَ لهَا مُعارضٌ هَل هوَ مِنَ النّوعِ المُستقرِّ أو غيرِ المُستقرِّ ، وإذا كانَ مِنْ نوعِ غيرِ المُستقرِّ هَل يُمكِنُ جمعُهَا جَمعاً عُرفيّاً أو لا ، والمُستقرُّ هَل توجدُ لهُ مُرجّحاتٌ في المقامِ أو لا .. فهذهِ المراحلُ كُلّهَا على الرّوايةِ إجتيازُهَا حتّى تكونَ حُجّةً ويُمكنُ الأخذُ بهَا.. وهكذا الحالُ في بقيّةِ الأدلّةِ مِن حيثُ الإجراءاتُ المُتعدّدة.
فإِذا واجهَ الفقيهُ دليلاً مشروعاً على الحُكمِ مِن هذهِ الأدلّةِ الأربعةِ أخذَ بهِ، وإلّا إنتقلَ إلى المرحلةِ الثّانيةِ ولا يتوسّلُ بالإستحساناتِ ولا القياسِ ولا المصالحِ المُرسلةِ لإستنباطِ الحُكمِ الشّرعيّ، فهذهِ كُلّهَا مِنَ الظّنونِ غيرِ المُعتبرةِ التي لا تُغني منَ الحقِّ شيئاً، كمَا هوَ مُفصّلٌ في مَحلِّهِ.
المرحلةُ الثّانيةُ: الأخذُ بمَا يُناسبُ حالةَ المُكلّفِ مِنَ الأصولِ العَمليّةِ وهيَ الأصولُ المُعدّةُ والمُقرّرةُ لتشخيصِ الوظيفةِ العمليّةِ للمُكلّفِ عندَ فقدِ الدّليلِ الشّرعيّ على التّكليفِ، وهيَ أربعةُ أصولٍ: الإستصحابُ ، والبراءةُ ، والإحتياطُ ، والتّخييرُ.
وكلُّ ما يُمكِنُ تصوّرهُ مِن أمورٍ مُستحدثةٍ فهوَ لا يَعدو أن يكونَ لهُ حكمٌ شرعيٌّ ضِمنَ هذهِ الأصولِ العَمليّةِ الأربعةِ عندَ فُقدانِ الحُكمِ الشّرعيّ في المرحلةِ الأولى منَ الإستنباطِ، لأنّهُ في حالةِ فقدانِ الدّليلِ على الحكمِ الشّرعيّ في المرحلةِ الأولى وشكِّ المُكلّفِ في التّكليفِ في الأمرِ المُستحدثِ أمامَهُ وما هيَ وظيفتُهُ العمليّةُ إزاءهُ فهوَ إمّا أن يكونَ لِما يُشكُّ بهِ حالةٌ سابقةٌ أو لا، الأَوّلُ مَجرى الإستصحابِ، والثّاني إمّا أن يكونَ شكٌّ في أصلِ التّكليفِ أو لا، الأَوّلُ مَجرى البراءةِ، والثّاني إمّا يمكنُ فيهِ الإحتياطُ أو لا، الأَوّلُ مَجرى الإحتياطِ، والثّاني مَجرى التّخييرِ.. فهذا حصرٌ عقليٌّ لحالاتِ الشّكِّ في التّكليفِ التي تواجهُ المُكلّفَ عندَ فقدِ الحُكمِ الشّرعيّ في المرحلةِ الأولى، وقَد تبيّنَ إزاءَ كلٍّ مِنهَا الحكمُ الشّرعيُّ المُناسبُ لهَا.
وبهذهِ المرحليّةِ الدّقيقةِ تجنّبَ الفقهُ الاِماميُّ التّورّطَ بالإستحساناتِ والآراءِ الشّخصيةِ التي لا تُغنِي عنِ الحقِّ شيئاً.
وقَد تسألُ: وهَل هذهِ الأصولُ العمليّةُ هيَ مَقطوعةُ الحُجّيّةِ بمَا يُخرِجُهَا عنِ الظّنِّ غيرِ المُعتبرِ الذي تُوسَمُ بهِ الإستحساناتُ والقياسُ والمصالحُ المُرسلةُ؟
الجوابُ: إنَّ الأصولَ العمليّةَ برُمّتِهَا هيَ أحكامٌ شرعيّةٌ ظاهريّةٌ بنحوٍ قطعيٍّ، بمعنَى أنَّ الوظيفةَ المُقرّرةَ بواسطةِ الأصلِ العمليّ هيَ وظيفةٌ قطعيّةٌ، قامَ الدّليلُ القطعيُّ على حُجّيتِهَا شرعاً، كمَا هوَ مُفصّلٌ في محلّهِ مِن كُتبِ الأصولِ، ومِن هُنا يصحُّ إسنادُ البراءةِ مثلاً إلى الشّارعِ فيُقالُ: البراءةُ حكمٌ ظاهريٌّ شرعيٌّ، فيكونُ إسنادُ هذا الحكمُ إسناداً عَن علمٍ لا عَن ظنٍّ.
ودُمتُم سالِمينَ.
اترك تعليق