ما المقصودُ منَ ( الرّوح ) الواردِ ذكرُهَا في القُرآنِ الكريمِ ؟!!
أحمد القصير/: السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ .. ما المقصودُ بالرّوحِ الذي وردَ ذِكرُهُ كثيراً في القُرآنِ الكريمِ؟
الأخُ أحمدُ المُحترمُ، السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ
جاءَ في تفسيرِ " الأمثلِ " للشّيخِ ناصِر مكارِم الشّيرازيّ في تفسيرِ قولهِ تعالى ( ويسئلونكَ عنِ الرّوحِ )، قالَ : (( ويسئلونكَ عنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أمرِ ربّي ومَا أوتيتُم مِنَ العلمِ إلّا قليلاً )) ... ما هيَ الرّوحُ؟
تبدأُ هذهِ الآيةُ في الإجابةِ على بعضِ الأسئلةِ المُهمّةِ للمُشركينَ ولأهلِ الكتابِ، إذ تقولُ: ويسألونكَ عنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أمرِ ربّي ومَا أوتيتُم مِنَ العلمِ إلّا قليلاً.
مفسّرو الإسلامِ الكبارُ - السّابقونَ مِنهُم واللّاحقونَ - لهُم كلامٌ كثيرٌ عنِ الرّوحِ ومعناها ، ونحنُ في البدايةِ سَنشيرُ إلى معنى كلمةِ ( روحٍ ) في اللّغةِ ، ثُمَّ مواردِ إستعمالِهَا في القُرآنِ ، وأخيراً تفسيرِ الآيةِ والرّواياتِ الواردةِ في هذا المجالِ.
وفي هذا الصّددِ يُمكنُ ملاحظةُ النّقاطِ الآتيةِ:
1 - ( الرّوحُ ) في الأصلِ اللّغويّ تعنِي ( النّفسَ ) والبعضُ يرى بأنَّ ( الرّوحَ ) و ( الرّيحَ ) مُشتقّتانِ مِن معنىً واحدٍ ، وإذا تمَّ تسميةُ روحِ الإنسانِ - التي هيَ جوهرةٌ مُستقلّةٌ - بهذا الإسمِ فذلكَ لأنّها تشبهُ النّفسَ والرّيحَ مِن حيثُ الحركةُ والحياةُ، وكونِهَا غيرَ مرئيّةٍ مثلَ النّفسِ والرّيحِ.
2 - اِستُخدِمَت كلمةُ ( الرّوحِ ) في القُرآنِ الكريمِ في مواردَ ومعاني مُتعدّدةٍ، فهيَ في بعض الأحيانِ تعني الرّوحَ القدس التي تُساعدُ الأنبياءَ على أداءِ رسالتِهِم كما في الآيةِ ( 253 ) مِن سورةِ البقرةِ والتي تقولُ: وآتينا عيسى بنَ مريمٍ البيّناتِ وأيّدناهُ بروحِ القُدسِ.
وفي بعضِ الأحيانِ تُطلَقُ على القوّةِ الإلهيّةِ المَعنويّةِ التي تُقوّي المؤمنينَ وتدفعُهُم ، كمَا في قولهِ تعالى في الآيةِ ( 22 ) من سورةِ المُجادلةِ: أولئكَ كتبَ في قلوبِهِم الإيمانَ وأيّدَهُم بروحٍ منهُ.
وفي مواردَ أُخرى تأتي للدّلالةِ على ( الملكِ الخاصِّ بالوحي ) ويوصَفُ ب ( الأمينِ ) ، كما في الآيةِ ( 193 ) مِن سورةِ الشّعراءِ: نزلَ بهِ الرّوحُ الأمينُ على قلبكَ لتكونَ منَ المُنذرينَ.
وفي مكانٍ آخرَ وردَتْ بمعنى ( الملكِ الكبيرِ ) مِن ملائكةِ اللهِ الخاصّينَ، أو مخلوقٍ أفضلَ مِنَ الملائكةِ كما في الآيةِ ( 4 ) من سورةِ القدرِ: تنزّلُ الملائكةُ والرّوحُ فيهَا بإذنِ ربّهِم مِن كُلِّ أمرٍ. وفي الآيةِ ( 38 ) من سورةِ النبأ: يومَ يقومُ الرّوحُ والملائكةُ صفّاً.
ووردَت - أيضاً - بمعنَى القُرآنِ أو الوحي السّماويّ ، كما في الآيةِ ( 52 ) مِن سورةِ الشّورى في قولهِ تعالى : وكذلكَ أوحينَا إليكَ روحاً مِن أمرِنَا.
وأخيراً وردَتِ الرّوحُ في القرآنِ الكريمِ بمعنى الرّوحِ الإنسانيّةِ ، كما في آياتِ خلقِ آدمَ: ثُمَّ سوّاهُ ونفخَ فيهِ مِن روحهِ. وكذلكَ قولهُ تعالى في الآيةِ ( 29 ) من سورةِ الحجرِ: فإذا سوّيتُهُ ونفختُ فيهِ مِن روحي فقعُوا لهُ ساجدينَ.
3 - والآنَ لنرَ مِن خلالِ هذهِ النّقطةِ ما هوَ المقصودُ بالرّوحِ في الآيةِ التي نبحثُهَا؟ ما هيَ الرّوحُ التي سألَ عَنهَا جماعةُ رسولِ اللهِ ( صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ ) فأجابَهُم بقولهِ تعالى: {ويسئلونكَ عنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أمرِ ربّي ومَا أوتيتُم مِنَ العلمِ إلّا قليلاً}, يُمكِنُ أن نَستفيدَ مِن مجموعِ القرائنِ الموجودةِ في الآيةِ أنَّ المُستفسرينَ سألوا عَن حقيقةِ الرّوحِ الإنسانيّةِ، هذهِ الرّوحُ العظيمةُ التي تُميّزُ الإنسانَ عنِ الحيوانِ، وقَد شرّفتنَا بأفضلِ الشّرفِ ، حيثُ تنبعُ كُلُّ نشاطاتِنَا وفعالياتِنَا مِنهَا، وبمساعدتِهَا نجولُ في الأرضِ ونتأمّلُ السّماءَ، نكتشفُ أسرارَ العلومِ، ونتوغّلُ في أعماقِ الموجوداتِ . . . إنّهُم أرادُوا معرفةَ حقيقةِ أعجوبةِ عالمِ الخلقِ!! ولأنَّ الرّوحَ لهَا بناءٌ يختلفُ عَن بناءِ المادّةِ، ولهَا أصولٌ تحكمُهَا تختلفُ عنِ الأصولِ التي تحكمُ المادّةَ في خواصّهَا الفيزيائيّةِ والكيميائيّةِ ، لذا فقَد صدرَ الأمرُ إلى الرّسولِ ( صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ ) أن يقولَ لهؤلاءِ في جملةٍ قصيرةٍ قاطعةٍ: قُلِ الرّوحُ مِن أمرِ ربّي. ولكَي لا يتعجّبَ هؤلاءِ أو يندهِشُوا مِن هذا الجوابِ فقَد أضافتِ الآيةُ: ومَا أوتيتُم منَ العلمِ إلّا قليلاً حيثُ لا مجالَ للعجبِ بسببِ عدمِ معرفتِكُم بأسرارِ الرّوحِ بالرّغمِ مِن أنّهَا أقربُ شئٍ إليكُم.
وفي تفسيرِ العيّاشيّ نُقِلَ عنِ الإمامِ الباقرِ والصّادقِ ( عليهمَا السّلامُ ) أنّهُما قالا في تفسيرِ آيةِ يسألونكَ عنِ الرّوحُ مَا نصّهُ : " إنّمَا الرّوحُ خلقٌ مِن خلقهِ ، لهُ بصرٌ وقوّةٌ وتأييدٌ ، يجعلهُ في قلوبِ الرّسلِ والمُؤمنينَ".
وفي حديثٍ آخرَ عنِ الإمامينِ الباقرِ والصّادقِ أنّهُمَا ( عليهِمَا السّلامُ ) قالا: "هيَ منَ الملكوتِ، منَ القُدرةِ".
وفي الرّواياتِ المُتعددةِ التي بينَ أيدينا مِن طُرقِ الشّيعةِ وأهلِ السّنّةِ نقرأُ أنَّ هذا السّؤالَ عنِ الرّوحِ أخذَهُ المُشركونَ مِن علماءِ أهلِ الكتابِ الذينَ يعيشونَ معَ قُريشٍ ، كي يختبِرُوا بهِ رسولَ اللهِ ( صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ )، إذ قالُوا لهُم: إذا أعطاكمُ الرّسولُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ)
معلوماتٍ كثيرةً عنِ الرّوحِ فهذا دليلٌ على عدمِ صِدقهِ ، لذلكَ نراهُم قَد تعجّبُوا مِن إجابةِ الرّسولِ ( صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ ) المليئةِ بالمعاني رُغمَ قِصرِهَا وقِلّةِ كلماتِهَا.
ولكِن نقرأُ في بعضِ الرّواياتِ الواردةِ عَن أهلِ البيتِ ( عليهمُ السّلامُ ) ، في تفسيرِ هذهِ الآيةِ ، أنَّ الرّوحَ مخلوقٌ أفضلُ مِن جبرائيلَ وميكائيلَ ، وكانَ هذا المخلوقُ برفقةِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسّلمَ) وبرفقةِ الأئمّةِ الصّادقينَ (عليهمُ السّلامُ) مِن أهلِ بيتهِ مِن بعدِهِ، حيثُ كانَ يعصمُهُم
مِن أيّ إنحرافٍ أو زللٍ خلالَ مسيرتِهِم.
إن هذهِ الرّواياتِ لا تُعارضُ التّفسيرَ الذي قُلناهُ، بَل هيَ مُتناسقةٌ معهُ وداعمةٌ لهُ، لأنَّ الرّوحَ الإنسانيّةَ لهَا مراتبُ ودرجاتٌ، فتلكَ المرتبةُ منَ الرّوحِ الموجودةِ عندَ الأنبياءِ والأئمّةِ (عليهمُ السّلامُ)، هيَ في مرتبةٍ ودرجةٍ عاليةٍ جدّاً، ومِن آثارِهَا العِصمةُ مِنَ الخطأِ والذّنبُ وكذلكَ يترتّبُ عليهَا العلمُ الخارقُ. وبالطّبعِ فإنَّ روحاً مثلَ هذهِ هيَ أفضلُ منَ الملائكةِ بمَا في ذلكَ جبرئيلُ وميكائيلُ، فتدبّر )) [ الأمثلُ في تفسيرِ كتابِ اللهِ المُنزلِ 9: 113]
ودُمتُم سالِمينَ.
اترك تعليق