أصالةُ الدين في العقل والتأريخ والعلم
مدخلٌ
يهدفُ هذا البحثُ للإجابة على سؤالٍ مركزي واحد: هل الدينُ مكوّن أصيلٌ في الإنسان أم مكتسب؟!، ويرادُ من الأصيلِ هنا ما يترادفُ أو يلتقي مع الفطري، والفطري في الإنسان ما يكونُ عليه أولَ خلقه، وما إن يوجد الإنسانُ إلا ويوجدُ معه معرفةٌ بالله تعالى، كما المعرفةُ بالسببية التي تولدُ بولادته، والمقصودُ أنّ الدينَ مكوّنٌ أصيل، غير مكتسبٍ بوراثةٍ أو طارئ بتعليم، وجد مع الإنسانِ مغروساً في أعماقِ نفسه، لو خُليت وطبيعتها من حيث هي وبلا مؤثراتٍ وعواملَ خارجة.
كتبَ أبو الفلسفةِ الحديثة، ديكارت (ت: 1650م): إنّ فكرةَ الله طبيعيةٌ فينا لم أستمدها من الحواس.. ولا هي اختراعٌ ذهني، أو مجرد وهم.. هذه الفكرة ولدت ووجدت معي منذ خلقت كما ولدت الفكرة التي لديّ عن نفسي.. الله حين خلقني قد غرس فيّ هذه الفكرة لكي تغدو علامةً للصانع مطبوعة على صنعه. رينيه ديكارت – تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى ، التأمل الثالث: الفقرتين (37ـ 38) ، ترجمة: كمال الحاج ، منشورات عويدان ، الطبعة الرابعة: 1988م ، بيروت.
ومن أبرزِ مخرجاتِ الأصيل، وأماراتِ الفطري في الإنسان:
1. عموميته: أي ثبوتهُ في بني البشر عامة، على اختلاف أجناسهم، وأعراقهم، ولغاتهم، وثقافتهم، وأعمارهم، ولا يخدشه من شذّ، مثلما لا ينقضُ الشذوذُ الجنسي من الزواج، ونظام الأسرة.
2. ديمومته: فالمكوّنُ الأصيل دائم دوامَ جود الإنسان، ومهما استطالَ الزمان، واختلفت رقعة المكان يأبى الفطريّ عن الزوال، ومن ثمّ فالتخلي ينقضُ الفطريّة، ودونك إجماع بني البشر اليوم عن ظاهرة الإستعباد.
3. توافره في الكائن العاقل بوضعه الأولي، ويتمّ التحققُ من ذلك عبر دراسة: الأطفال والأقوام البدائية، والمشترك بين هذين الأنموذجين هو أنّهما يمثّلان الوضع الطبيعي للكائن البشري قبل أن يتعرض لمؤثراتٍ خارجية، اجتماعيّة أو تربويّة، مما يمكن أن يحرفهُ عن حالته الأولى.
ولقد جاءَ البحثُ الماثل بين يديكَ ليدلّل على ثبوتِ الثلاثة بشأن الدينِ عبر أربع وسائلَ للإثبات: العقل، التأريخ، العلم والقيم الأخلاقية.
(1) دلالة العقل:
ثمّةَ مبدآن يقرّهما العقل بداهة: مبدأ العلة الفاعلية، ومبدأ العلة الغائية:
أولاً: السببية، أو العلة الفاعلية، ويفيد هذا القانون العقلي أنْ لا شيء يحدثُ بلا سبب فاعل، ولا فعل بلا فاعل، وبموجبه يتساءل الإنسان دوماً عن علل الحوادث وأسباب الظواهر، عظيمها وصغيرها، وانطلاقاً منه وتطبيقاً له يدرك الإنسانُ أنّ هذا العالم لا يتضمن السبب الكافي لوجوده بل له فاعل وخالق وراءه وهذا هو معنى " الله " بكل بساطة حتى بنظر أشهر ملحد في العالم ريتشارد دوكنز: " الله كلمة تدل على خالق من عالم ما وراء الطبيعة " دوكنز - وهم الإله ص15 ، ترجمة: بسّام البغدادي.
أندرو لانج (توفي :1921م ) : أحد أكبر علماء الأنثربولوجيا والتأريخ ، رأى أنّ أقدم ديانةٍ في الوجود هي ديانة " إله السماء " على أثر أبحاثه في تأريخ الأديان واكتشافاته عن الموجود الأسمى في قبائل استراليا وأفريقيا وغيرهما ، جاء ذلك منه بعد أن كان مؤمناً بالمذهب التطوري في الأديان ، بيدَ أنّه بعد اكتشافاته هذه قضى على الفرضيات المضادة كالحيوية والطبيعية، وما نريد قوله هنا هو أن لانج خلص إلى أنّ كل إنسان يحمل في نفسه " فكرة العلّية " وأنّ هذه الفكرة كافية لتكوين العقيدة ، ...إنّ كل إنسان لديه فكرة عن صنع الأشياء ، فهو يعتقد بوجود صانع يفعلها ولا يستطيع هو أن يفعلها ، وإنّ هذا الصانع هو " رجل عظيم غير طبيعي " يباين الإنسان في قدرته الناقصة وعدم قدرته على الخلق ، وقد نسب لهذا الرجل القادر ـ بجانب قدرته ـ الخيرية والطيبة ومحبة الأطفال ، هذا هو منشأ " الإعتقاد النظري في قوة أسمى من الإنسان والإعتقاد الشعوري بأنه يحب أطفاله ". علي سامي النشّار - نشأة الدين ص 186 ، دار السلام ، الطبعة الأولى: 2008م ، مصر – القاهرة.
وتأسيساً عليه: فما قرّه العقل البرهاني بالبداهة، صدّقتُه تجارب واكتشافات لانج .
ثانياً : العلة الغائية ، ويكشف عنه العقل من خلال وجود قانون ونظام يحكم الكون فكل موجود يكتنفه نظام متناسق فإنّه وبلا شك يحكي فكرةً وقصداً لفاعله يسبق هذا القصد فعل الفاعل من حيث التصورُ ويتأخر عنه من حيث التحقق ، خذ شركة (أبل) بوصفها الفاعل المصنّع لجهاز (الآيفون) فلها خطة وتصميم وفكرة سابقة على تصنيعه ولها غاية لا يكتب لها التحقق إلا بعد وجود الجهاز تتمثل في الوظائف الأدائية لجهاز الآيفون كالإتصال وارسال الرسائل ونحو ذلك ، إنكار هذا الأصل يضفي بالضرورة إلى العدمية والعبثية واللا معنى ، والعكس صحيح ، فالإيمان بهذا المبدأ البديهي والأخذ بمخرجاته سيؤول وبلا أدنى شك إلى الإيمان بالمبدأ والغاية والطريق الموصل لها وهذا هو جوهر الدين والزائد عليه لوازم ونتائج .
الغائية تعني أنّ كلّ شيء في عالم الطبيعة والوجود مقصود به تحقيق غاية معينة ، تدرك في حالات وقد لا تدرك بيد أنّ عدم معرفتها لا يستدعي نفيها ، كما أنّ الأنظار أحياناً تختلف في تشخيص الغاية لهذا الموجود أو ذاك وقد كان فولتير يقول : قد لا أومن بأنّ الأنوف قد صنعت لتكون جسراً مريحاً للنظارات، ولكني مقتنع بأنها صنعت لنشمّ بها ، أليس من أبشع السخف والحماقات أن نؤكد أن العين لم تصنع لتبصر والإذن لتسمع والمعدة لتهضم. ول ديورانت - قصة الحضارة ج 38 ص164 ، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين ، دار الجيل، بيروت – لبنان ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس - 1988 م.
ويلي المال والنساء في شهوات الإنسان؛ رغبته في النجاة من العذاب في الدار الآخرة فإذا امتلأت المعدة بالطعام، وأشبع الإنسانُ غريزتهُ الجنسية وجد متسعاً من الوقت ينصرف فيه إلى الله .قصة الحضارة 13/166.
إلى هذا يعود جوهرُ ما ينكره الفكر المادي، أعني نفي العلتين: العلة الفاعلية والغائية وقصـر العلة على المادية والصورية، ورفض أسبقية الفكر على المادة والركون إلى أنّ المادةَ سابقة على الفكر، وللتفصيل والتوضيح مجال آخر.
(2) دلالة التأريخ - شهادات:
تختلفُ تعريفات الإنسان وتتعدّد حسب تعددِ الفلسفات والعلوم، والجدير ذكره الآن أنّ للعلماء المختصين بدراسة تاريخ الأديان تعريفاً ينصّ على أنّ " الإنسان هو كائن متدين ". السواح – دين الإنسان ، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني ، ص 19 ، دار علاء الدين ، الطبعة الرابعة: 2002م ، سوريا – دمشق.
وهو تعريفٌ له تضمينات منها: التصاق الدين بالإنسان وبالعكس، أضف إلى التأكيد على ثبوته في النوع الإنساني ككل، وهذا التضمينُ قد شهد به صريحاً كبارُ المؤرخين الذين درسوا تأريخ البشـر، وأثبتوا للدين كلتا الصفتين، فقالوا: كانت كل الشعوب منذ الخليقة تسعى إلى تأكيد الحقيقة الأزلية وهي " أنّ الله موجود " وهو الواحد الأحد ..الفرد الصمد" سليمان مظهر – قصة الديانات ص17 ، مكتبة مدبولي ، 1995م.
كتبَ عالم النفس الألماني إريك فروم (توفي :1980م): " لا توجد بكل تأكيد حضارة في الماضي ويبدو أنّه لا يمكن أن توجد حضارة في المستقبل دون أن يكون لها دين كمذهب للفكر والعمل تشترك فيه جماعة ما، ويعطي للفرد إطاراً للتوجيه وموضوعاً للعبادة ". إريك فروم – الدين والتحليل النفسي ص25، ترجمة: فؤاد كامل.
وعن تديّنِ جميع البشـر يقول ول ديورانت (توفي:1981م) في قصة الحضارة “ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعمّ البشـر جميعاً اعتقاداً سليما؛ وهذه، في رأي الفيلسوف، حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية، فهو لا يكفيه أن يعلم عن الديانات كلها أنها مليئة باللغو الباطل، لأنه معنيّ قبل ذلك بالمشكلة في ذاتها، أعني مشكلة العقيدة الدينية من حيث قِدمَ ظهورها ودوام وجودها “. ويليام جيمس ديورَانت: قصة الحضارة ج 1 ص99 ، تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر ، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين ، الناشر: دار الجيل، بيروت – لبنان عام النشر: 1408 هـ - 1988 م.
وعن دوامه وحيويته واستمراره يضيف: “ثمة درس من دروس التأريخ يتمثل في أنّ الدين متعدد الأرواح دائب النشور والبعث فما أكثر المرات التي تصور فيها الناس موت الإله والدين في الماضي ثم بعثا وتجددا، وها هو اخناتون استخدم كل سلطات الفرعون للقضاء على دين آمون، ولكن لم يمرّ عام على وفاة اخناتون إلا وأعيد دين آمون “. ول ديورانت - دروس التأريخ: ص100 ، الطبعة الأولى: 1993م ، دار سعاد الصباح – الكويت.
ذات المعنى بحبكة أكثر يتكرّر على لسان هنري برجسون(ت:1941م):" لقد وُجِدت وتوجد جماعاتٌ إنسانية من غير علومٍ وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قطّ جماعة بغير دِيانة " .
ثمّ سؤالان أجدرُ بالإجابة ولو موجزاً:
السؤال الأول: لماذا اعتبرَ بقاء الدين في الناس وتدينهم دليلاً على فطرية الدين؟
بكل وضوح : في المجتمعات ظواهر إما حاجات أو عادات ، يكشفُ دوام الظاهرة في الإنسان عن أنّها حاجة طبيعية يحتاجها الانسان من حيث هو انسان ، والدين يدخل هنا وحاله في ذلك حال : حبّ المعرفة والشهرة والجمال ، وليس مجرد عادة قد يقضي عليها التطور كما هو حال التعليم سابقاً عبر نظام (الملا) التي قضى عليها تطوّر نظام التعليم وكثرة المدارس ، أو تبادل الزيارات في شهر رمضان أو المسحّراتي أو غيرها من عادات قضت عليها وسائل التواصل تقريباً ، واذن : من الطبيعي أن يكشف دوامه واستمرارهُ عن أنّه طبيعي أصيل في بني البشـر فإنّ ( القسر لا يدوم ) كما يقول الفلاسفة .
والسؤال الثاني: لماذا كان الدين حاجةً بشرية طبيعية فطرية؟
وكما تساءل اينشتاين وهو يشيرُ إلى وجود فراغات لا يملؤها إلا الدين، وظمأ لا يرويه إلا الإيمان بالله، وحاجات وفجوات لا يسدها إلا ما وجد لسدها، تساءل آينشتاين وبدهشة “هل بمقدور أحد تقديم وسائل عظيمة للبشرية تلبي حاجاتهم الميتافيزيقية " ؟!. أنتوني فلو - هناك إله ص136 ، ترجمة: صلاح الفضلي.
إنّه حاجةٌ وجودية من دونها يتهاوى الإنسان ويفقد المعنى وتنعدم الغاية من وجوده ، فقدانه يجعلك تعيشُ وتفكر وترى وتكتب " طلاسماً "، الحاجة إليه هي حاجة الحرف إلى الاسم الذي لولاه لم يكن للحرف معنى بل ولا وجود أصلاً ، حاجة الفقير إلى الغني .
وهو وحاجة نفسية تكشفُ عن واقع موضوعي حقيقي ، خذ الشعور بالخلود والرغبة بحياة باقية وانظر كيف تبدّى هذا الهمّ منذ زمن بعيد مع كلكامش وبحثهِ المضني عن الخلود بعد أنْ صرع أنكيدو ، لا شيء يمكنه أن يلبّي هذه الحاجة الوجدانية ويرفع رهبة الشعور بالموت سوى الدين بإيمانه بالحياة الأبدية ، ليس هذا مجرّدَ حلم يشبع تمنيناً بل شعور وجداني كاشفٌ عن حقيقة موضوعية كالعطش الكاشف عن وجود الماء .
وهو حاجةٌ اجتماعية معه تتحول كلّ قيم التراحم والتواصل إلى فروض يجازى عليها الإنسان إن عاجلاً أو آجلاً، يمكنك أن ترصد ذلك بكل وضوح في البرامج الاجتماعية التي تقدم في وسائل الإعلام (برنامجي الصدمة والمسامح كريم مثلاً).
ما الذي يدفع إبناً أساء لأبيه أن يُقدم على اعتذار وأمام كل الناس؟! ما الذي يجعل ذلك الشاب يُقدم على سد ديْنٍ نيابة عن امرأة يراها ولا يعرفها تستعطف صاحب الأسواق؟! ومن أين جاء هذا التعاطف الوجداني إن كان من المشاركين او من المتابعين لتلك المشاهد؟ كل تلك الحالات تغيب ولا يغدو لها أي معنى مع اللادين والإلحاد!
وهو حاجة سياسية ، مهما بلغ القانون حدّةً وصرامة ، تشـريعاً أو تنفيذاً، تبقى الحاجة للدين ، يعلق فولتير على زعم بيل أن قيام دولة لا دينية أمر عملي تماما فيقول : إذا عين بيل حاكما على ستمئة فلاح لبشّـر بينهم في الحال بالعقاب الديني.ول ديورانت - مباهج الفلسفة ، الكتاب الثاني: ص277 ، المركز القومي للترجمة – القاهرة.
وفي أمريكا، صرّح بوش الأب ذات مرّة: " الملحدون ليسوا وطنيين أو حتى مواطنين "، ويفسّره، تصريحٌ آخر قبله بكثير للفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي جون لوك (توفي : 1074م) وهو يتحدّث عن الدولة المدنيّة: " لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين ينكرون وجود الله ، فالوعد والعهد والقسم من حيث هي روابط المجتمع البشـري ليس لها قيمة بالنسبة إلى الملحد ، فإنكار الله حتى لو كان بالفكر فقط ، يفكك جميع الأشياء " جون لوك – التسامح ص57 ، ترجمة: منى أبو سنه ، ، المجلس الأعلى للثقافة ، الطبعة الأولى: 1997م.
(3) دلالة العلم:
أـ في كتابه (فطرية الإيمان – كيف أثبتت التجارب أنّ الأطفال يولدون مؤمنين بالله؟) الذي جمع فيه أشهر الأبحاث العلمية التجريبية منذ عشـرين سنة وإلى اليوم على أطفال من عمر 9 أشهر إلى بضع سنوات، يقول بروفيسور علم النفس جستون باريت:
وبغضّ النظر عن الثقافة ، ودونَ الحاجة إلى التلقين ، أو الإملاء القسري ، فإنّ الأطفال يكبرون مع نزعة للبحث عن معنى ومغزى وفهم محيطهم ، وبمنحهم المجال لذلك فإن عقولهم تتطور وتنمو بشكل طبيعي ويوصلهم هذا البحث في النهاية إلى الإيمان بعالَم مصمّم بدقة وبشكل هادف ، وأنّ صانعاً ذكياً يقف وراء هذا التصميم ويقودهم إلى افتراض أنّ هذا الصانع المقصود مطلق القدرة ، واسع العلم والمعرفة ، واسع الإدراك سرمدي الخلود ...ويربط الأطفال بسهولة هذا الصانع بمبادئ الخير وبكونه واضعُ القيم الأخلاقية ، إنّ هذه الملاحظات والاستنتاجات تفيد في فهم سبب كون الإيمان بالآلهة بهذا المفهوم العام منتشـرٌ بشكل واسع عبر الثقافات وعبر التاريخ " .جستون باريت – فطرية الإيمان ص20 و21 ترجمة: مركز دلائل ، الطبعة الأولى: 1438 هـ
وقبل الإنتقال لدراسة أخرى، تحسن الإشارة لما جاء عن أهل البيت: " فطرهم على المعرفة به " تفسيرا لقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30].
ب ـ أكسفورد: الإيمان جزء من الطبيعة البشرية!
وفقا لدراسةٍ دولية كبرى استغرقت ثلاثَ سنوات أفادت أنّ البشـر يميلون بطبيعتهم للإيمان وبالحياة بعد الموت، وجدت هذه الدراسة التي قادها إثنان من الأكاديميين في جامعة أكسفورد والتي بلغت كلفتها 1.9 مليون جنيه إسترليني: أنّ عمليات التفكير البشـري "متجذرة" في المفاهيم الدينية.
إشتمل مشـروع الدراسة على 57 أكاديميًا في 20 دولة حول العالم، وامتدّ الى تخصصات شملت الأنثروبولوجيا وعلم النفس والفلسفة.
لقد شرعَ البحث في تحديد ما إذا كان الإيمان بالكائنات القدسية والآخرة هو مجرّدَ أفكار مستقاةٍ من المجتمع أو أنها مكملة للطبيعة البشرية.
وخلصت إحدى دراسات جامعة أكسفورد، إلى أنّ الأطفال دون سنّ الخامسة يميلون الى الإعتقاد في بعض الخصائص "فوق الطاقة البشـرية" أكثر من ميلهم الى فهم القيود البشرية.
وسئل الأطفال عمّا إذا كانت والدتهم ستعرفُ محتويات صندوق مغلق. يعتقد الأطفال في سنّ الثالثة أن والدتهم والله سيعرفون محتوياته دائمًا، ولكن بحلول سنّ الرابعة، يبدأ الأطفال في فهم أنّ أمهاتهم ليست عالمات بكل شيء.
اقترحَ بحث منفصل من الصين أنّ الناس عبر الثقافاتِ المختلفة يعتقدون غريزيًا أن بعضًا من عقلهم أو روحهم سيعيش بعد الموت.
وقال المدير المشارك للمشـروع، البروفيسور روجر تريج، من جامعة أكسفورد:
"هذا المشـروع يشير إلى أنّ الدين ليس مجرد شيء يمارسه عدد قليل من غريبي الأطوار في أيام الأحد بدلا من لعب الغولف. لقد جمعنا مجموعة من الأدلة التي تشير إلى أنّ الدين هو حقيقة مشتركة من الطبيعة البشـرية في مختلف المجتمعات. وهذا يشير إلى أنّ محاولات قمع الدين من المرجح أن تكون قصيرة الأجل حيث يبدو أن الفكر الإنساني متأصّل في المفاهيم الدينية، مثل وجود عوامل خارقة للطبيعة أو الآلهة، وإمكانية وجود حياة ما بعد الحياة أو ما قبل الحياة".
وقال الدكتور جوستين باريت، من مركز الأنثروبولوجيا والعقل بجامعة أكسفورد، الذي أخرج المشـروع، إن الإيمان يمكن أن يستمرّ في الثقافات المتنوعة من جميع أنحاء العالم لأنّ الأشخاص الذين تجمعهم الروابط الدينية "قد يكونون أكثر اقبالاً على التعاون كمجتمعات. ومن المثير للاهتمام، وجدنا أنّ الدين أقل احتمالاً للنمو في السكان الذين يعيشون في مدن الدول المتقدمة حيث توجد بالفعل شبكة دعم اجتماعي قوية “. (تقرير مجلة " التليغراف " عن للدراسة: https://www.telegraph.co.uk/news/politics/8510711/Belief-in-God-is-part-of-human-nature-Oxford-study.html
تعليقاً على فكرة: الجين الإلهي!
نقل العديد من الكتاب والباحثين فكرة : (الجين الإلهي لعالم الوراثة الأمريكي : دين هامر) رأيت من المناسب نقل تعليق المفكر الأمريكي المعاصر ذي الأصول اليهودية ديفيد بيرلنسكي متضمناً تعليق عالم الوراثة ريتشارد ليونتن ، ودون تحفظ إلا على قوله الذي قد يثير استفزازاً كان في غنىً عنه أعني به تعليق بيرلنسكي على ربط هامر الإيمان بالله بالدماغ : (لِمَ لم يرتبط ببوله) !.
" بعد مقارنة أكثر من ألفي عينة من الدنا DNA ، وبنتائج متهافتة كما كان متوقعاً استنتج عالم الوراثة الجزيئية الأمريكي : دين هامر أنّ استعداد المرئ للإيمان بالله متصل بكيمياء الدماغ من بين جميع الأشياء ! لِمَ لم يرتبط ببوله؟
قد لا نجانبُ الصوابَ حين نعلم أن هامر زعمَ الشـيء نفسه عن الشذوذ الجنسـي، ولئن تراجع هامر عن الإحتجاج بأن استعداد المرء للإيمان بالوراثة الجزيئية متصل بكيمياء الدماغ فمردّ هذا بلا شك إلى كياسة ترى أنه لو فتح هذا الباب فالله وحده يعلم متى وكيف سيتمكن أحد من إغلاقه مرة أخرى.
لا المصداقية العلمية ولا الحسّ الراشدُ المتينُ موضوع نقاش في أي من هذه المزاعم، إنها منافية للعقل وكذلك مفهومة على أنها منافية للعقل، وفوق ذلك يُطلب التصديق بها فقط لأنها منافية للعقل.
وكما ألمحَ عالم الوراثة ريتشارد ليونتن في ملحق صحيفة نيويورك تايمز الخاص بمراجعة الكتب:
إننا نأخذ بالعلم بالرغم من السخافة الصريحة لبعض تراكيبه ...بالرغم من فشله في الوفاء بكثير من وعوده المتعلقة بالصحة والحياة، وبالرغم من تسامح المجتمع العلمي مع قصص مجردة لا أساس لها من الصحة". ديفيد بيرل نسكي – وهم الشيطان ، الإلحاد ومزاعمه العلمية ص36 ، ترجمة: مركز دلائل ، الطبعة الثانية: 1437هـ.
(4) فطرية القيم الأخلاقيّة.
إنّ حالَ منكري المصدر الإلهي للأخلاق، كحال من يستظلّ بشجرة دون أن يعلم زارعها؛ ولأنّه يجهله ينكره!، والحال أنّ العلمَ وعدمه هنا لا يؤثر على الوجود الموضوعي للأشياء، فليس الحديث إذن عن رهن السلوك الأخلاقي بالإيمان فثمّ مؤمنون ليس لهم أخلاق ، فيما يوجد ملاحدة خلوقون طيبون وبلا شك، لا يجادل في ذلك إلا مكابر معاند لا يخضع للواقع وإملاءاته، لكن هذا لا علاقة له بما نعنيه هنا: كل دين اخلاقي، وكل الحاد هو لا اخلاقي!
والبدء بهذه النقطة هو أنّ معظم الملاحدة إن لم أقل كلهم لا يفهموها أو لا يريدون أن يورّطوا أنفسهم بالدخول فيها ، ليس أدلّ من ذلك إجابة دوكين عظيم الملاحدة على سؤال قريب من هذا السياق تقدمت به سيدة من الجمهور في مناظرته مع الأسقف جورج بيل: "من المؤسف حقاً أنّ الفرد قد يحتاج إلى الدين من أجل أن يكون إنساناً مستقيماً ، لقد وضعت المعرفة البشـرية أسس الفلسفة الأخلاقية قبل أي ديانة واسعة الانتشار حالياً" حوارات سدني ص18 ، دار سطور ، الطبعة الأولى: 2017.
ربما لم تحسن السيدة عرض السؤال، لكن كلام دوكنز في هذا الموضع وفي كتاباته أيضاً يؤكد : الأخلاق سبقت الدين. دوكنز – وهم الإله ص209 ، مصدر سابق.
ولا يدرك أنّ الحديث ليس عن إمكانية وجود انسان طيب ومجتمعات صالحة ومتحلية بالفضيلة من دون إيمان ديني وإنما عن أنّ قوام القيم كلها: (الجمال، الحق، والخير) مصدرها ووجودها وأساسها الموضوعي غير مادي ولا يخضع لمعايير المادة، وهذا ما يتعارض تمام المعارضة مع الرؤية المادية للكون والحياة والإنسان وبالدخول في موضوعنا الأساس سيتبين الحال أكثر، و الإنحراف ذاته عن جوهر الموضوع يمارسه الكاتب الأمريكي دانيال دينيت (ولد:1942م ): يجب أن تأتي الأخلاق من أنفسنا ..في الواقع لا يوجد دليل على أن غير المؤمنين هم أسوأ أخلاقياً من المؤمنين! آندرو بيسن – (مسألة الإله ، ما الذي قاله المفكرون المشهورون من أفلاطون وحتى دوكنز عن الإله) ص253 ، دار الرافدين ، الطبعة الأولى :2018 ، بيروت – لبنان ، ترجمة: محمد الفشتكي.
وبغية اثبات فطرية الدين بحسب هذه الحجة يتوجب بيان قضيتين:
القضية الأولى: فطرية أصل الأخلاق.
"كلما وجدت إنساناً يقول إنه لا يؤمنُ بصواب وخطأ حقيقيين فستجد ذلك الإنسان نفسه يتراجع عن هذا بعد هنيهة ... إذا حاولت نقض وعد وعدته به فإنّه سيشتكي قائلاً : ليس هذا من العدل والإنصاف، إنّنا مرغمون على الإيمان بوجود معيار حقيقي للصواب والخطأ ، أحياناً قد يخطئ الناس بشأنهما تماما كما يغلط بعضهم في حساب الجمع غير أنّ هذا لا يعني أنّ الصوابَ والخطأ مجرد مسألة ذوق" يقول لويس الآتي ذكره لاحقاً.
القضية الثانية: لا أخلاق بلا دين.
فقد أشار العلماء والفلاسفة لتلازم الدين والإله والأخلاق ، حتى مثل دوكنز الذي لم يرغب التصريح بالاستحالة بيد أنّه قال: "من الصعب أن ندافع عن الأخلاقيات المطلقة على أسس غير دينية" ريتشارد دوكنز – وهم الإله ص 234.
وهو هنا مضطرٌّ لهذا الإعتراف لأنّه يدرك ما أقرّه المفكرون والعلماء كافة من أنّ العلم (بوصفه بديلاً مفترضاً عن الدين) عاجز تماماً عن الدخول في ميدان الأخلاق، وإنّ كلّ محاولة لوضع الأخلاق على أساس علمي ستبوء بالفشل كما كان يقول اينشتاين.
لكن لماذا هذا التأكيد على حقيقة أنّ "العلم لا يعلم مباشرةً الشـر والخير" كما يقول فاينمان وإذا كانت "القيم الأخلاقية تقع خارج مجال العلم"( آندرو بيسن – مسألة الإله ، ص 252 ، مصدر سابق.
فهي خارج مجال العلماء وبلا شك، فما هو مجالها وأين تقع؟! والسؤال بصيغة أخرى أكثر وضوحاً: لماذا تتوقف الأخلاق على الدين بحيث يمكننا القول: لا أخلاق بلا دين؟!
هناك أكثر من إسهام في تقرير علاقةِ الدين والإله بالأخلاق أو ما عرف لاحقاً بـ "الحجة الأخلاقية" على وجود الله ومن ثمّ توقف البناء الأخلاقي على الدين ، على عجالة، وبإيجاز شديد نشير لها:
1ـ ذهب الفيلسوف الألماني الشهير: إيمانويل كانت (توفي سنة : 1804م ) إلى أنّ الهدف الأسمى للإنسان عبارة عن: (السعادة والفضيلة)، والقضية التي لاحظها غيره لكن ركّز عليها كانت هي، أنّ التصـرف الأخلاقي لا يتوافق مع المصلحة الذاتية فحتّى يكون تحقيق السعادة والفضيلة الكاملتين مُمكناً لا بُدّ من وجود الحياة الآخرة، ولتوفير ذلك يجبُ أن يكون الله موجوداً علاوة على ثبوت الحرية للإنسان طبعاَ، ومن ثمّ فإنّ أدراكنا للخير الأسمى ينطوي على ثلاث قضايا: الإيمان بعالم آخر تخلد النفس فيه والإيمان بوجود الله وأخيراً: الإيمان بحرية الكائن الأخلاقي وذلك كله يؤدي لنتيجة حتمية: لا قيام للأخلاق دون دين، وللتفصيل أكثر يمكن مراجعة كتاب: نقد العقل العملي لكانت. نقد العقل العملي لـ إيمانويل كانت ، ترجمة: غانم هنا ، المنظمة العربية للترجمة.
2ـ الفيلسوف الأمريكي جورج مافروديس (ولد سنة : 1926م ):
إذا لم يكن هناك إلهٌ عندها يكون كلّ شيء مسموحاً، ولكن إذا لم يكن كلّ شيء مسموحاً عندها لابدّ أنّ هناك إلها ، إنّ استدعاء نظرية التطور لشـرح الأخلاقيات قد يفسـر شعورنا بالإلتزامِ بها لكنه لن يفسـر لماذا توجد هذه الإلتزامات في الواقع الموضوعي الحقيقي؟! مصدر سابق ، آندرو بيسن – (مسألة الإله ، ما الذي قاله المفكرون المشهورون من أفلاطون وحتى دوكنز عن الإله) ص253.
هذا يعني أنّ (الخير والشـر) بوصفهما محور القيم الأخلاقية لهما ولها وجود حقيقي موضوعي وليست إعتبارات ذاتية ، متعمداً سأغضّ النظر عن الجدل القديم المتجدد في هذه النقطة وفيما إذا كان الحسن والقبح عقلي أو شرعي، وإذا كان عقلياً هل هما اعتباريان ومن التأديبات الصلاحية التي تطابقت آراء العقلاء عليها أم لهما وجودان حقيقيان؟! فإنّ ذلك سيخرجنا عن المقصود علاوة على أنّ ميدان التحقيق مجال واسع وحالنا الإختصار ما وسعنا.
وخلاصة فكرة هذا المفكّر أنّ وجود الإله ضروريٌّ من حيثُ أنّه أساسُ معياري للقيم والأفعال التي ينبغي ولا ينبغي فعلها، وإفتراض عدم وجوده يفضـي لانعدام الأخلاق المطلقة وتعود القيم آراءَ شخصية ووجهة نظر فردية تقوم على النفعية الذاتية!
3ـ لكن قبل مافروديس وبعد كانت هناك من أحسن عرض العلاقة وبسطها بشكل مفهوم للجميع: كلايف ستيبلز لويس (توفي سنة: 1963م) في كتابه: المسيحية المجرّدة ، ومن مطالعة مجموع الباب الأول الذي جاء بعنوان: [مفهوم الصواب والخطأ مفتاح لفهم معنى الكون] يمكننا أن نلخّصَ جوهر فكرته في أنّ ضميرنا يوجهنا صوبَ قانون أخلاقيّ لا منشأ له في العالم الطبيعي ، ممّا يُشير إلى وجود موجدٍ مُتعالٍ عن الطبيعة لذلك القانون، هذه هي فكرته بإيجاز، من المؤكد هذا لا يغني من مطالعة كتاب لويس وبالخصوص الباب الأول بفصوله الخمسة. لويس – المسيحية المجردة من ص21 ، الطبعة العربية الأولى: 2006م ، أوفير للطباعة والنشر ، الأردن.
أهميّة ذلكم الباب من كتاب لويس أيضاً من حيثُ أنّه يمثّل تجربة عائد من الإلحاد، كما وأعاد جملة من الملاحدة للإيمان، كان أبرزهم رئيس مشـروع الجينوم البشري فرانسيس كولنز (ولد سنة :1950م).
كتب كولنز في الفصل الأول من كتابه: لغة الإله: قضيتُ أياماً لتصفح الكتاب في محاولة لإستيعاب عمق وشمولية الحجج الفكرية لأشهر مفكري أكسفورد، وأخيراً أدركتُ أنّ موقفي ضد عقلانية الإيمان بالله لا يعدو عن كونه أفكار طفل في المدرسة. فرانيسي كولنز - لغة الإله ص27 ، ترجمة: صلاح الفضلي ، الطبعة الأولى: 2016 م – الكويت.
وفي الختام:
من المؤكّد، لا ترغمُ تلك البيانات أحداً على الأخذ بمخرجاتها ونتائجها، فالدليلُ وحده ليس علةً تامة وسبباً كافياً لتغيير القناعات، وهي قاعدة عامة ليس المقام استثناءً منها ، حتى اليوم هناك من يرفض الإعتقاد بحقيقة أنّ الأرض كروية أو تدور مثلاً ، وفي قضيتنا أيضاً أعني : الدين والإيمان بالله ينطبق هذا على الكثير ممن تدينوا بالدين الآخر(الملحدين ) ، خذ عالم الفلك الأمريكي كارل ساغان (توفي : 1997م) الذي أخرجت هوليود روايته فيلمٍ بعنوان "اتصال" contact، حكى قصة عالِمة فلك "إيلي" تدرس إشارات فضائية معقدة تردها يقول عنها فريقها "إنها ليست تشويشا كونيا، إنها تحمل نظاما" وفعلاً بعدها يكتشفوا صحة ما استنتجوه بعقولهم (لا نظام من غير منظّم) وأنّ مصدرها عالم آخر ، لكن ساغان لا يستخدم نفس هذا المنطق في الكون وثوابته ، ولا على تعقيد الحمض النووي!
اترك تعليق