النبي عيسى وآدم (ع) من منظار القرآن الكريم

: السيد مهدي الجابري الموسوي

قال تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (1)، فإن مثل عيسى عند الله كمثل آدم أي شأنه الغريب كشأن آدم خلقه من تراب، جملة مفسرة للتمثيل مبينة لما له الشبه وهو انه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا أب وأم، فشبه حاله بما هو أقرب افحاما للخصم وقطعا لموارد الشبه، والمعنى خلق قالبه من التراب ثم قال له كن أي أنشأ بشرا كقوله ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ (2)، وقدر تكوينه من التراب ثم كونه فيكون، أي فكان في الحال (3).

   أفادت هذه الآية الشريفة أن الإنسان لم يكن إلا جسما طبيعيا تتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم ان الله سبحانه قد أنشأه خلقا آخر ذا شعور و إرادة، يفعل أفعالا من الشعور و الإرادة و الفكر و التصرف في الأكوان، و التدبير في أمور العالم بالنقل و التبديل و التحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام و الجسمانيات، فلا هي جسمانية، ولا موضوعها الفاعل لها (4).

وفي مراحل بدء خلق آدم عليه السلام يؤكد الباري عزّ وجل في محكم كتابه المجيد أن ذلك قد تم بمعجزة، وبالأمر الإلهي كن فيكون‏،‏ فتم هذا الأمر على عدد من المراحل المتتالية كما يلي‏:‏

 ‏أولاً:‏ من تراب، وهي أول مراحل خلق آدم عليه السلام وبهذا الخصوص وردت عدة آيات تشير الى ان أول مراحل خلق آدم عليه السلام كان من التراب، ومن تلك الآيات قوله عزّ ذكره: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ (5)،‏ وقوله سبحانه: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ﴾ (6)،‏ وقوله جلت قدرته:﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ (7)،‏ وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ (8)،‏ وقوله عزّ من قائل: ﴿ وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ (9) ، وقوله سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ (10).

 ثانياً: صيرورة ذلك التراب طيناً، والطين هو التراب المعجون بالماء‏، وقد وردت عدة آيات تشير الى ذلك، منها قوله سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾ (11)، وقوله تعالى:﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ (12)،‏ وقوله عزّ ذكره: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ (13).

 ‏ثالثاً:‏ سلالة من طين أي من خلاصة منتزعة من الطين برفق، وذلك في قوله عزّ وجل: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ (14).

 ‏رابعاً:‏ ثم من طين لازب أي لاصق بعضه ببعض، كما في قوله سبحانه:‏ ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾ (15).

 ‏خامساً:‏ ثم من صلصال (16) من حمأ مسنون أي متغير الى السواد رطباً مصبوباً ، كما جاء ذلك في قول الحق تعالى:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ (17)، وقوله عزّ ذكره:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ (18)، وقوله جلّ وعلا: ﴿ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ (19).

 ‏سادساً:‏ ثم من صلصال كالفخار، كما في قوله سبحانه:﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ (20).

 ‏سابعاً: ثم مرحلة نفخ الروح فيه، وقد بينت ذلك عدة آيات جاء فيها أن الله سبحانه وتعالى بعد أن اكتمل خلق آدم نفخ فيه من روحه، ومن تلك الآيات الشريفة قوله تعالى:﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾ (21).‏

  وقد أجمل القرآن الكريم هذه المراحل كلها عند اشارته الى خلق الإنسان من الأرض، وقد وردت تلك الاشارة في عدة آيات مباركة، منها قوله سبحانه:‏ ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ (22)،‏ وقوله عزّ ذكره: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ (23)، وقوله عزّ من قائل:‏ ﴿ وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ (24).

 ‏ وأجملها أيضا عند اشارته الى خلق الانسان من الماء، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا ﴾ (25).

 وتحدث القرآن الكريم عن تسلسل النسل بالتكاثر‏،‏ ومادة الخلق الاساسية هي تراب الأرض ونفخة الروح‏،‏ وأجمل ذلك في تعبير «من ذكر وأنثى» في قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ (26)، كما أجمله بلفظ الماء، في قوله سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا ﴾ (27)،‏ وفي الماء الدافق بقوله عزّ ذكره: ‏﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ (28)،‏ وفي الماء المهين‏ بقوله عز شأنه: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ (29)،‏ وفي سلالة من ماء مهين‏، بقوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ (30)،‏ ومن نطفة بقوله عزّ وجلّ: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ (31)،‏ وفي قوله سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ (32)،‏ ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾ (33)،‏ ومن نطفة إذا تمنى في قوله سبحانه: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴾ (34)،‏ ومن نطفة أمشاج‏، في قوله سبحانه: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ (35)،‏ ومن علقة‏، في قوله عزّ شأنه: ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً ﴾ (36)،‏وقوله سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ (37)،‏ ومن مضغة مخلقة وغير مخلقة‏ كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ (38)،‏ ويجمع المراحل كلها حتى انشاء الجنين خلقا آخر‏ في قوله عزّ وجلّ: ﴿ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ (39)،‏ وفي قوله سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (40)، ويجملها في تعبير خلقا من بعد خلق‏ في قوله سبحانه: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ (41)،‏ وفي تعبير أطوارا‏ بقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ (42)،‏ وفي أحسن تقويم‏، في قوله عزّ ذكره: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ (43).

 وبعد هذا الذي تقدم يتضح:

 ان الله سبحانه خلق عيسى ابن مريم عليه السلام من أم بلا أب بنفس الأمر الإلهي «كن فيكون» الذي خلق به آدم عليه السلام من تراب‏.‏

 والخلق من تراب ينطبق في الحالين‏:‏ حال آدم عليه السلام الذي بدأ الله سبحانه خلقه من تراب وكان جميع نسله في صلبه لحظة خلقه ومنهم عيسى ابن مريم عليهما السلام‏.‏ كما ينطبق الخلق من تراب على عيسي عليه السلام نفسه؛ لأنه نشأ من بيضة أمه الموروثة عن آدم وحواء عليهما السلام، وتغذى وهو جنين على دمائها المستمدة من غذائها وهو مستمد من عناصر الأرض‏،‏ وتغذى وهو رضيع على لبنها‏،‏ وهو مستمد من نفس المصدر‏،‏ وتغذى بعد ذلك على نباتات الأرض‏،‏ وعلى المستباح من حيواناتها‏،‏ وكل ذلك – لا يخفى عليك - مستمد أصلا من عناصر تراب الأرض ومائها وهوائها ولذلك قال الحق تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (44)، حيث ان كل مخلوق خلق بكلمة الله (كن)، فآدم عليه السلام خلق بها، وعيسى عليه السلام كذلك، حيث ان أمره تعالى: ﴿ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (45). 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1- سورة آل عمران: آية 59.

2- سورة المؤمنون: آية 14.

3- تفسير الصافي، للفيض الكاشاني، 1: 343.

4- ينظر: تفسير الميزان للسيد الطباطبائي، 1: 352 ، بتصرف.

5- سورة آل عمران: 59.

6- سورة الكهف: آية 37.

7- سورة الحج: آية 5.

8- سورة الروم: آية 20.

9- سورة فاطر: آية 11.

10- سورة غافر: آية 67.

11- سورة الانعام: آية 2.

12- سورة السجدة: آية 7.

13- سورة ص: آية 71.

14- سورة المؤمنون: آية 12.

15- سورة الصافات: آية 11.

16- الصلصال: الطين اليابس الذي يسمع له عند النقر صلصلة. (التبيان في تفسير القرآن، ج6، ص325).

17- سورة الحجر: آية 56.

18- سورة الحجر: آية 28.

19- سورة الحجر: آية 33.

20- سورة الرحمن: آية 13.

21- سورة السجدة: آية 9.

22- سورة هود: آية 61.

23- سورة النجم: آية 32.

24- سورة نوح: آية 17 – 18.

25- سورة الفرقان: آية 54.

26- سورة الحجرات: آية 13.

27- سورة الفرقان: 54.

28- سورة الطارق: آية 5 -6.

29- سورة المرسلات: آية 20.

30- سورة السجدة: آية 8.

31- سورة النحل: 4.

32- سورة يس: آية 77.

33- سورة عبس: آية 17 – 19.

34- سورة النجم: آية 46.

35- سورة الانسان: آية 2.

36- سورة القيامة: 37 – 38.

37- سورة العلق: آية 1 – 2.

38- سورة الحج: آية 5.

39- سورة الحج: آية 5.

40- سورة المؤمنون: 12 – 14.

41- سورة الزمر: آية 6.

42- سورة نوح: آية 14.

43- سورة التين: آية 4.

44- سورة آل عمران: آية 59.

45- سورة يس: آية 82.