العقل والوحي أيهما تابع وإيهما المتبوع؟

زكي/: ايهما تابع وايهما متبوع.. هل الدين يتبع احكام العقل البشري ام العقل يتبع احكام الدين؟ بينوا لنا ما يرد من اشكالات على كلا الجوابين

: اللجنة العلمية

العقلُ والوحيُ أيُّهما تابعٌ وأيُّهما المتبوعُ؟

جاءَ في الخبرِ عنِ الإمامِ الكاظمِ (عليه السّلام) أنّه قالَ: (إنَّ للهِ على النّاسِ حُجّتين حُجّةٌ ظاهرةٌ وحُجّةٌ باطنةٌ فأمّا الظّاهرةُ فالرّسلُ والأنبياءُ والأئمّةُ وأمّا الباطنةُ فالعقول)([1])، وقالَ )عليه السّلام): (العقلُ رسولٌ باطِن، والرّسولُ عقلٌ ظاهِر)، وهذا الوصفُ الدّقيقُ لعلاقةِ الوحي والعقلِ في حقلِ المعرفةِ الإسلاميّةِ يفتحُ البابَ أمامَ تحقيقٍ منهجيٍّ يسعى إلى رفعِ الحدودِ الغامضةِ بينَ العقلِ والوحي، ومنَ الضّروريّ لفتُ النّظرِ هُنا إلى أنَّ العلاقةَ بينَ العقلِ والوحي لا تتحقّقُ إذا نظرنا لكُلِّ واحدٍ منهُما نظرةً تمنحُه الإستقلاليّةَ عنِ الآخرِ؛ بمعنى أنَّ الوحيَ لوحدِه لا يصلحُ أن يكونَ مصدراً للمعرفةِ الإسلاميّةِ كما أنَّ العقلَ كذلكَ، وإنّما يجبُ النّظرُ لهُما بوصفِهما يُشكّلانِ منهجاً واحِداً لتّحقيقِ معارفِ الإسلام، وبالتّالي نرفضُ كُلَّ محاولةٍ عقليّةٍ في المعرفةِ الإسلاميّةِ خارجةٍ عَن إطارِ الوحي، كما نرفضُ كلَّ محاولةٍ ترتكزُ على الوحي معَ إهمالِ العقلِ، وهكذا يُمكِنُنا القولَ بأنَّ هُناكَ علاقةً تكامليّةً بينَ العقلِ والوحي حيثُ لا يستقيمُ لأيّ واحدٍ منهُما معنىً من دونِ الآخر.

وعليهِ لابُدَّ منَ التّعرّفِ على العقلِ منَ الوحي نفسِه؛ لأنَّ ذلكَ يقودُنا إلى معرفةِ حقيقةِ الوحي أيضاً، فتارةً نفهمُ الوحيَ على أساسِ أنّهُ بديلٌ عنِ العقلِ الإنسانيّ، وحينَها تكونُ أيُّ محاولةٍ لاستخدامِ العقلِ هيَ خروجٌ عَن دائرةِ الوحي. وتارةً نفهمُ الوحيَ بوصفِه تعزيزاً للعقلِ ودفعِه إلى مزيدٍ منَ التّفكّرِ والتّعقّلِ، وحينَها تكونُ أيُّ محاولةٍ للتّمسّكِ بالوحي من دونِ عقلٍ هيَ خروجٌ عَن دائرةِ الوحي نفسِه، وبالتّالي لابُدَّ أن نُعيدَ فهمَنا للنّصوصِ الدّينيّةِ بالشّكلِ الذي يكونُ العقلُ دوماً حاضِراً فيها.

وإذا نظرنا للنّصِّ القُرآنيّ نجدُ أنَّ آياتِه تدورُ على نُقطةٍ مركزيّةٍ تُشكّلُ محوراً للقُرآنِ، وهيَ الأمرُ الدّائمُ بالعقلِ، والتّعقّلِ، والتّدبّرِ، والتّفكّرِ، في مئاتٍ منَ الآياتِ؛ ممّا يكشفُ عَن دورِ العقلِ وأهمّيّتِه كمحورٍ لا تكتملُ المعرفةُ القُرآنيّةُ إلّا به، قالَ تعالى: (إنَّا أَنزَلنَاهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُم تَعْقِلُونَ(([2]). وقالَ تعالى: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ)([3]). وقالَ تعالى: )كِتَابٌ فُصِّلَت آيَاتُهُ قرآنًا عَرَبِيًّا لِّقَومٍ يَعلَمُونَ(([4]). وقالَ تعالى: )...قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ)([5]). وقالَ تعالى: (لَقَد أَنزَلنَا إليكُم كِتَابًا فِيهِ ذِكرُكُم أَفَلَا تَعقِلُونَ(([6])، وقالَ: )أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقفَالُهَا(([7]). وقال: )أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلَافًا كَثِيرًا)([8]). وقال: )...كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ)([9]). وقال: (كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعقِلُونَ(([10]).

وغيرُها منَ الآياتِ الدّالّةِ على كونِ القُرآنِ يرتكزُ على العقلِ بوصفِه مِحوراً أساسيّاً لا تكتملُ المعرفةُ القُرآنيّةُ إلّا بهِ.

والعقلُ في وصفِ الآياتِ والرّواياتِ نورٌ إلهيٌّ أفاضَهُ اللهُ على قلبِ الإنسانِ لكَي يكشفَ بهِ الحقائقَ، وفي المُقابلِ وصفَ القُرآنُ نفسَه ومعارفَهُ بكونِها نوراً أيضاً، وعليهِ يصبحُ القرآنُ والعقلُ نورانِ مِن مصدرٍ واحد، وبتكاملِهما تتكاملُ المعرفةُ وتنكشفُ الحقائقُ.

 وإلى هُنا نتوصّلُ إلى المعالمِ الأساسيّةِ لعلاقةِ العقلِ بالنّصوصِ، وهيَ لحظةُ إلتقاءِ النّورين عندَما ينفتحُ العقلُ على النّصِّ فيزكو، وينمو، ويتكاملُ، ويستبصرُ، بنورِ الوحي. ولكَي يسترشدَ العقلُ بالوحي لابُدَّ منَ الإيمانِ، والتّقوى، والتّسليمِ، والتّواضعِ، وغيرِها منَ القيمِ الأخلاقيّةِ، لأنَّ القُرآنَ ليسَ هُدىً لكُلِّ النّاسِ؛ وإنّما هُدىً للمُتّقينَ منهُم، قالَ تعالى: )ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ)([11]). كما أنَّ معارفَ القُرآنِ لا تأتي إلّا بعدَ التّزكيةِ، قالَ تعالى: (يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(([12]).

فالخطابُ القُرآنيُّ لَم يكُن ناظِراً إلى تأسيسِ معارفَ غيرِ موجودةٍ في واقعِ الفطرةِ وإنّما جاءَ بلسانِ التّذكيرِ للعلمِ والمعرفةِ التي حُجِبَت بالغفلةِ، فكانَ لسانُ خطابِه (فَذَكِّر بِالقُرآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ(([13])، والتّذكيرُ هُنا هوَ التّذكيرُ بأحكامِ العقولِ الفطريّةِ، فيكونُ القُرآنُ إثارةً للعقولِ وتنبيهاً لواقعِ تلكَ الأحكامِ التي احتجبَت بدواعي الهوى والغفلةِ.

 

[1] - دراساتٌ في الحديثِ المحدثين، هاشم معروف الحسيني، ص 287
[2] يوسف 2.
[3] البقرةُ 242.
[4] فصّلت 3.
[5] آلُ عمران 118.
[6] الأنبياء 10.
[7] محمّد 24.
[8] النّساء 82.
[9] يونس 24.
[10] الرّوم 28.
[11] البقرة2.
[12] آلُ عمران164.
[13] ق45.