هل الاقدار حتم على الإنسان؟
يقول البعض بما أن الإنسان ماضي لما قدره الله له ولا يمكنه الاتيان بعمل لم يكن مقدر له سلفاً فلماذا يجهد نفسه في مالا خيار له فيه؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تنطلق هذه الشبهة من سوء فهم للقضاء والقدر، حيث يعتقد السائل ان القدر حتم لا مفر منه، وإن إرادة الإنسان محكومة بما قدر سلفاً، ولمعالجة هذه الشبهة لابد من الإشارة لعقيدة البَداء التي أختص بها شيعة أهل البيت دون غيرهم من المذاهب الإسلامية، وسوف اعمل على اختصار الكلام حول البَداء بما يناسب المقام.
المقصود من البَداء في المعتقد الشيعي هو (الإنشاء) وليس الظهور بعد الخفاء كما يصور البعض، فهو إنشاء بعد إنشاء وإرادة بعد إرادة، بمعنى أن لله مشيئة ماضية وإرادة مستمرة: ﴿للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾( )، من قبل الخلق وبعد الخلق، ومن قبل التقدير وبعد التقدير، ومن قبل الأمر ومن بعد الأمر، ومن قبل الإرادة ومن بعد الإرادة...، فمشيئته لا تُحدُّ وإرادته لا تُقهر، هذا هو معنى البَداء لا غير.
والناظر إلى طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق، يجد أن الله يجرى الأمور بالأسباب، أي أن الله سبحانه وتعالى يعلِّق وقوع حدث معين على شروط معينة وظروف خاصة، وقال: ﴿ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾( )، وقال: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ﴾( )، وقال: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاتَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ﴾( ) ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾( ).
وغيرُها كثير من آيات الذكر الحكيم، التي تكشف أن الله يغيِّر ويبدِّل، ويعلِّقُ ذلك بفعل العبد، فالله لا يغير واقع قوم من حال إلى حال أحسن، إلا إذا هم غيَّروا ما بأنفسهم، وأيّوب لم يكن الله ليكشف عنه السوء لو لم يدعُ الله، والدعاء هو فعل العبد وهو سبب في كشف السوء، وكذلك زكريا ما رُزق الولدَ إلا بدعائه وطلبه وإلحاحه على الله، وقد فسر الإمام الصادق (ع) قوله تعالى ﴿يَمحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ بقوله: (وهل يمحو الله إلاّ ما كان؟ وهل يثبت إلاّ ما لم يكن؟).
وقد جاء في الروايات أن صلة الرحم مثلاً تزيد في العمر، (صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال وترفع البلوى وتيسر الحساب وتنسي في الأجال) بمعنى أن الله يقدر للإنسان من العمر أربعين عاماً مثلاً، ولكنه يصل رحمه فيكتب الله له مرة أخرى مدة جديدة أطول..، حسب حكمته البالغة، وقد جاء الحديث: (ما بعث الله- عزّ وجلّ- نبياً حتى أخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء) .
وبذلك كله يتضح أنّ البَداء مرادف للمحو، والنسخ، والتغيير، الذي نطق به القرآن وجاءت به السنة، وهو أن الله فاعل مختار، يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر، وليس معناه تغيُّر علم الله سبحانه، أو نسبة الجهل إليه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، يقول الإمام الصادق عليه السلام: (إنّ الله لم يَبْدُ له من جهل) .
وقصة النبي يونس عليه السلام مع قومه تأكيد لحقيقة البَداء، وهي قدرة الله على الفعل والإرادة متى يشاء وكيف يشاء، إذ أمره الله تعالى بمغادرة المدينة لأن العذاب سينزل على قومه، فامتثل لهذا الأمر وخرج، ولما عاد بعد مدة، وجدهم على ما تركهم عليه، لم يصبهم شيء، فسأل ربه متعجباً عن سر ذلك، فأنبأه الله بأن قومه قد آمنوا قبيل وقوع العذاب، فانتفت حكمة العقاب، قال سبحانه: ﴿ فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ﴾( )، فإيمان قوم يونس نفعهم وصرف عنهم العذاب الحتمي ودفع عنهم القدر، حتى سيدنا يونس (ع)، لولا تسبيحُه واستغفاره، للبس في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.
فلو قدّر الله على إنسان أن يكون شقياً، بسبب شقاء والديه، أو بسبب جريمة ارتكبها، أو بسبب الظروف المحيطة به، فرغم ذلك القدر، يبقى أمامه الأمل مشرقاً، إذ يمكن أن يغير الله ذلك الشقاء، ويستبدل تلك الحياة بحياة سعيدة، بقدرته اللامتناهية، ولكن بشرط أن يقبل إليه متضرعاً تائباً، مقدِّماً بين يديه العمل الصالح.
مثل هذا النوع من التفكير، يرتكز على حقيقة وجدانية وحالة فطرية، تعايش الناس معها وتفاعلوا بها في شتى ضروب الحياة، فلو لم يكن هناك بَداء، وكان الله عاجزاً عن محو ما كان ثابتاً، وتثبيت ما لم يكن، فكيف إذن والحال هذا أن يكلِّف الله العباد؟، فمن خطل الرأي القول، أن الله أوجب على الناس أن يعبدوه وأن يعملوا صالحاً، في حين أنه قد قدّر لهم مقاديرهم ومصائرهم بشكل حتمي ونهائي، وهذا عين التناقض، فلو كان قد قدّر لنا أن نكون سعداء أو أشقياء ونحن في بطون أمهاتنا - ولا محيص عن تغيير ذلك-، فما معنى أن يأمرنا- جميعاً- بالسعي نحو السعادة والخير، وينهانا عن الوقوع في مهاوي الشقاء ؟!.
إنه لا يستقيم للعبادة والدعاء معنىً إلا بالبَداء، فكيف يعبد الإنسان أو يرجو الله بالدعاء، وكل شيء قد رُسم سلفاً، وانتهى تقديره، وما معنى أن يأمرنا بأن ندعوه، وأنه قريب مجيب؟ فإذا نفينا الاعتقاد بمبدأ البَداء وتملصنا عنه، يكون لزاما علينا أن نترك العبادة، والعمل الصالح، وأن نقف مكتوفي الأيدي، بانتظار مصيرنا المحتوم وقدرنا المكتوب، وكأنما هذه الحياة مسرحية قد اكتملت فصولها ويتم عرضها، أو لوحة تم رسمها وجفت ألوانها.
ومن هنا كان تأكيد أهل البيت عليهم السلام على عقيدة البَداء؛ إذ لا تستقيم للبشر عقيدة ولا حياة من دونها، فلا يستغرب الإنسان عندما يقف أمام حديث الإمام الصادق(ع) وهو يقول: (ما عُبد اللهُ بمثل البَداء) ، فمن يعبد إلها ميتاً، وعاجزاً، ومحدوداً، ومغلول اليدين، فإنه لم يعرفه ولم يعبده حتماً، أما من اعتقد بأن الله فعّالٌ لما يشاء، له الأمر من قبل ومن بعد، - من قبل أن يقدِّر ومن بعد ما قدَّر-، فإنه يمارس دوره في إطار هذه الصفة، بالدعاء والحيوية والنشاط والإقبال إلى الله، فهو قد عبد الله أحسن العبادة.
ومن هنا يصبح البَداء أساس دعوة الأنبياء، لأنه مفتاح معرفته تعالى، والسبيل إلى الاعتراف بتوحيده، وجوهر عبادته، يقول الإمام الصادق (ع): (ما بعث الله نبياً قط، حتى يأخذ عليه ثلاثاً: الإقرار لله بالعبودية وخلع الأنداد وأن الله يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء) .
وفي رواية أخرى يقول (ع): (لو علم الناس ما في القول بالبَداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه) ، ويقول: (ادعُ ولا تقل إن الأمر قد فُرغ منه، إن عند الله عز وجل منزلةً لاتُنال إلاّ بمسألة) .
وعن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: (عليكم بالدعاء، فإن الدعاء لله، والطلب إلى الله يرد القضاء وقد قُدِّر وقُضي ولم يبق إلاّ إمضاؤه، فإذا دُعي اللهُ عزّ وجلّ وسئل، صرف البلاء صِرفةً) .
فالقول بالبَداء يفتح للإنسان أفاق الدنيا والآخرة، فهو سبيلٌ إلى نيل فضل الله وكرمه، والاستزادة من نعمه وآلائه، وإن مشكلة الإنسان وعقدته الكبرى في الحياة، تكمن في أنه قليلاً ما يؤمن بأن الله يفعل ما يشاء، وأنه قادر على تغيير حاله إلى أحسن حال، فلا سبيل للإحباط ولا استسلام للظروف، فالذي يمكن أن يعيق حركة الإنسان وتكامله هو القنوط الذي يحجبه عن قدرة الله، وهو العامل المسبب في جمود حركة البشرية نحو الله تعالى، ولكي تعيد البشرية حيويتها من جديد، وتنطلق في رحاب كرم الله، لا بد أن ترجع إلى أهل البيت (ع) لكي تتعلم منهم البَداء.
ويمكننا تلخيص ما يمكن أن تحققه عقيدة البَداء، في واقع الإنسان المؤمن بالبَداء، وما يمكن أن يكون عليه الإنسان المنكر للبَداء، ليتضح للقاري أن المسلمين عندما تركوا أهل البيت، ابتعدوا بخطوات مسرعة في الاتجاه المعاكس تماماً لما أراده الله.
فالذي لا يعتقد بالبَداء يصوِّر الحياة بمنظار جامد غير متحرك، فطالما الأقدارُ ثابتة وجازمة، وكلُّ شيء يتحرك وفقاً لما رُسم له سلفاً، وليس لله بعد أن قدَّر أن يغيِّر أو يبدِّل، فقلم التقدير الإلهي قد جف نهائياً، فلا يرى الإنسان الحياة حينئذ إلا لوحة جامدة، وإن كانت في ظاهرها متحركة.
وهذا النوع من الاعتقاد مخالف لوجدان الإنسان، فالذي يعتقد أن تطور الحياة قد توقف، وانتهى تقديرها، فعليه حينئذ الاستسلام والخضوع للحوادث الطارئة والظروف القاهرة، شاء ذلك أم أبى، لأنه ليس له حول في تغيير ما يجري حوله، وليس لفعله تأثير فيه بأي شكل من الأشكال.
ولا شك أن هذا الفكر إذا خيم على عقول البعض، تتحول حياتهم إلى جحيم، فلا يعدون أن يكونوا مجرد موجودات جامدة وجثث متحركة، تعصف بهم الظروف والأقدار يمنة ويسرة، فكيف يسعى الفقير إلى الغنى، والمريض إلى الشفاء، والجاهل إلى التعلم، إذا كان قد شملهم ذلك بقدر محتوم، لا هم قادرون على تغييره ولا الله بقادر على تبديله.
ولا شك أيضاً أن الطواغيت وجبابرة البشر، هم الذين أكّدوا على مثل هذه المقولة الباطلة، لأن بها دوام ملكهم وفرض سلطانهم، فلا يحق لمؤمن أن يعترض سبيلهم، خشية الاعتراض على أمر الله وإرادته، طالما أن الله قد قدر ملكهم ورسمه في الأزل، إذ لم يكن بتقديره كيف يجري في الكون ما لم يقدّره؟!.
وقد نجد في هذا تفسيراً لما جرى في تاريخ المسلمين وحاضرهم، بحيث لم تمر عليهم برهة من الزمن، استراحوا فيها من حكم الجبابرة والطواغيت.
ومضافاً إلى ذلك أن حقيقة الإنسان تكمن في كونه كائناً مسؤولاً، اختاره الله لحمل رسالته، وميزه بها عن بقية خلقه، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ﴾( )، فكيف يمكن أن يكون الإنسان مسؤولاً وهو عاجز عن التغيير والتبديل؟ وكيف يأمل في الله، وهو يعتقد أن الله نفسه ليس بقادر على تجاوز ما وضعه من قوانين؟، ألا يكون ذلك تهميشاً واضحاً لفكرة مسؤولية الإنسان؟ وبالتالي عدم فهم عقيدة البَداء يعني تأسيس خيار يبتعد عن فلسفة خلق الإنسان، وحِكمة إرسال الأنبياء.
إن المناهضين لعقيدة البَداء يؤكدون - بكل جهل - أن الله قد أكمل الأمور على مستوى الدنيا، فالفقير فقير، والحاكم حاكم، والمحكوم محكوم لا محال..، أما في الآخرة فإن أصحاب الجنة معيّنون ومنتخبون، وأصحاب النار معيّنون ومنتخبون كذلك.
أما عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) في البَداء تؤكد على مسؤولية الإنسان، وحريته في كل تصرفاته، فهو الذي يصنع مصيره بمسيره، فإن كان شرّاً أو خيراً فبما كسبت يداه، وهو بما كسب رهين: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾( )، وأنه مهما تكاثرت على الإنسان الذنوب، فإن له أملاً في التخلص منها عبر التوجه إلى الله سبحانه وتعالى والإنابة إليه.
اترك تعليق