ما السبب الرئيسي للقول بنظرية الصرفة ؟ وما هو جوابكم عن هذا السبب بالذات ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا يشكُّ أحدٌ أنَّ القُرآنَ في أعلى مصافِّ الفصاحةِ والبلاغةِ والنّظمِ، فلهُ طريقتُه الخاصّةُ المُميّزةُ التي تجمعُ بينَ سموِّ المعنى وجزالةِ الأسلوبِ وروعةِ العبارةِ ورشاقةِ النّظمِ، وهذهِ النّظرةُ العامّةُ التي تنظرُ إلى القرآنِ بكلِّ معانيهِ بما فيها الفصاحةُ يمكنُ أن تُمثّلَ سبباً قويّاً لإعجازِ القُرآنِ، إلّا أنَّ حصرَ الإعجازِ في الفصاحةِ دونَ النّظرِ للإعتباراتِ الأخرى كانَ سبباً للقولِ بالصّرفةِ، لأنَّ النّصَّ الفصيحَ المُجرّدَ مِن أيّ إعتباراتٍ أخرى يمكنُ الإتيانُ بمثلِه في نظرِ القائلينَ بالصّرفةِ، فأساسُ التّحدّي الذي أطلقَهُ القرآنُ على أن يأتوا بمثلِه لا يمكنُ حملُه على النّصِّ الفصيحِ فحسب، إلّا إذا فسّرنا آياتِ التّحدّي على النّحوِ التّالي (بأنيِّ كتابٌ فصيحٌ فعليكُم الإتيانُ بنصٍّ فصيحٍ مثلِه) وهذا ليسَ أمراً مُعجِزاً فالنّصوصُ الفصيحةُ كثيرةٌ عندَ العربِ ولا يمكنُ رفضُها بمُجرّدِ الإدّعاءِ أنّها ليسَت بفصيحةٍ طالَما هيَ كذلكَ بإجماعِ العربِ، أمّا القولُ أنّها أقلُّ فصاحةً منَ القُرآنِ لا يمكنُ حسمُه وبخاصّةٍ إذا غابَت المعاييرُ التي تُحقّقُ ذلكَ، فيمكنُ لمُشركي قُريشٍ أن يدّعوا أنَّ نصَّهم أفصحُ منَ القرآنِ، فلو كانَت مقاييسُ الفصاحةِ بشريّةً وهيَ كذلكَ تصبحُ النّصوصُ المُتماثلةُ في الفصاحةِ مُتساويةً؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منَ النّصّينِ يخضعُ لنفسِ المقاييسِ التي توفّرَت في كليهما، ولا يجوزُ حينَها القولُ أنَّ هذا النّصَّ ليسَ مثلَ النّصِّ الآخرِ في الفصاحةِ، فخُطبُ الأئمّةِ وكلماتُهم كخُطبةِ السّيّدةِ الزّهراءِ عليها السّلام وكثيرٌ مِن خُطبِ أميرِ المؤمنينَ هيَ بالطّبعِ دونَ القرآنِ ولكن ليسَ في الفصاحةِ بما هيَ فصاحةٌ وإنّما دونَ القرآنِ بما للقرآنِ مِن إعتباراتٍ أخرى مِن ضمنِها القولُ بالفصاحةِ. 

 

فلو كانَ الأمرُ كذلكَ فمنَ الطّبيعيّ أن يقولَ النّظّامُ وغيرُه بالصّرفةِ طالما الجميعُ أهملَ الجوانبَ الأخرى في القرآنِ، وقد تبنّى هذا القولَ بعضُ أهلِ البلاغةِ والفصاحةِ مثلَ الشّريفِ الرّضي فلا يمكنُ إتّهامُهم بعدمِ إدراكِ فصاحةِ القُرآنِ.    

 

الأمرُ الذي يقودُنا للبحثِ مِن جديدٍ عَن سرِّ إعجازِ القُرآنِ، فعندَما قالَ تعالى (فليأتوا بسورةٍ مِن مثلِه) تقودُنا هذهِ الكلمةُ (مِن مثلِه) إلى معرفةِ القُرآنِ حتّى نعرفَ كيفَ يكونُ مثله؟ ولا يجوزُ لنا أن نفترضَ تعريفاً للقرآنِ مثلَ القولِ: (أنَّ القرآنَ هو الكتابُ الفصيحُ) ومن ثمَّ نبحثُ عنِ المثلِ في الفصيحِ مِن كلامِ العربِ، وإنّما يجبُ الرّجوعُ إلى القرآنِ نفسِه لنرى كيفَ عرّفَ نفسَه وحينَها يمكنُ معرفةُ المثلِ الذي أرادَ اللهُ الإتيانَ بهِ.    

 

كيفَ عرّفَ القُرآنُ نفسَه:  

 

آياتٌ كثيرةٌ تكفّلَت بتعريفِ القرآنِ الكريمِ، نستعرضُ أوّلاً الآياتِ التي تشيرُ إلى أنّهُ قرآنٌ عربيٌّ لأنّها قَد تكونُ دليلاً للقائلينَ بإعجازِه لمُجرّدِ الفصاحةِ، مثلَ قولِه تعالى: (إنّا أنزلناهُ قُرآناً عربيّاً لعلّكُم تعقلونَ) يوسف 2. وقالَ: (وكذلكَ أنزلناهُ حُكماً عربيّاً ولئِن إتّبعتَ أهواءَهُم بعدَما جاءكَ منَ العلمِ مالكَ منَ اللهِ وليٌّ ولا واق) الرّعد 37. وقالَ: (وكذلكَ أنزلناهُ قُرآناً عربيّاً وصرفنا فيهِ منَ الوعيدِ لعلّهُم يتّقون..) طه 113. وقالَ: (بلسانٍ عربيٍّ مُبين) الزّمر195. وغيرُها منَ الآياتِ.  

 

أكّدَت هذهِ الآياتُ على أنَّ القُرآنَ جاءَ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، وقَد تستبطنُ هذهِ العبارةُ القولَ بفصاحةِ القرآنِ لِما فيهِ مِن إبانةٍ، إلّا أنَّ الآياتِ لم تكُن في معرضِ تحدّي العربِ بهذهِ الفصاحةِ وإنّما في معرضِ الإشارةِ إلى كونِه كتاباً مفهوماً لهُم وقَد جاءَ على طريقتِهم في الكلامِ والتّخاطبِ ولِذا كانَ يختمُ الآيةَ بقولِه (أفلا تعقلونَ) أي أفلا تعقلونَ معاني القرآنِ ومضامينَه العاليةَ وقد كانتَ بلسانِكم الذي تفهمونَه جيّداً. وقد يعملُ القائلُ بالصّرفةِ على توجيهِ هذهِ الآياتِ بالشّكلِ الذي يخدمُ مذهبَه إرتكازاً على قولِه تعالى (لسانٌ عربيّ) فإنَّ هذهِ الكلمةَ تؤكّدُ على أنَّ القرآنَ جاءَ بما هوَ معروفٌ لدى القومِ مِن إستخداماتٍ لغويّةٍ، وبالتّالي لم يكُن هناكَ إستخدامٌ خارجٌ عنِ المألوفِ وإلّا لما صحَّ أن يقولَ لهُم (أفلا تعقلونَ) فكيفَ يعقلونَ ما لم يألفونَه ولا يعرفونَه ولا يدركونَ لهُ فهمَاً ولا يضبطونَ لهُ مقياساً، وإن جاءَ بما يعرفونَ من إستخداماتٍ للّغةِ فإنَّ إستخداماتِهم التي خبِروها جيّداً ليسَ فيها ما هوَ مُعجِزٌ. وإذا قيلَ أنَّ القرآنَ قد استخدمَ لغةً مُفارقةً خارجةً عَن حدودِ البشريّةِ لا يكونُ حينَها كتاباً مُعجِزاً أو على أقلِّ تقديرٍ يكونُ القولُ بهِ كالقولِ بالصّرفةِ لتعلّقِ الإعجازِ في كِلا الأمرينِ بإرادةِ اللهِ سُبحانه.

ولا يصحُّ القولُ أنَّ القرآنَ إستخدمَ نفسَ ما هوَ موجودٌ ومُتعارفٌ عندَهم ولكِن بالشّكلِ الذي يعجزونَ عَن مثلِه؛ لأنّهُ يحقُّ للمُعترضِ القولُ أنَّ هذا المُعجزَ إمّا أن يكونَ ضمنَ حدودِ فهمِهم وإدراكِهم؟ وإمّا خارجاً عَن ذلكَ؟ فإن كانَ ضمنَ حدودِ فهمِهم فهوَ معروفٌ مألوفٌ لديهم وما يكونُ معروفاً ومألوفاً لا يكونُ مُعجِزاً، وكذلكَ لا يكونُ مُعجِزاً إذا كانَ القرآنُ خارجاً عَن حدودِ فهمِهم وإدراكِهم إذ كيفَ ميّزوهُ حتّى يكونَ مُعجِزاً في حقِّهم؟

 

وقدَ يؤكّدُ هذا الأمرَ قولُه تعالى (قُرآناً عربيّاً غيرَ ذي عوجٍ لعلّهُم يتّقونَ) الزّمر28.

فقَد نفَت هذهِ الآيةُ العوجَ عنِ القرآنِ، والعوجُ قَد يكونُ في المعنى، وقد يكونُ في اللّفظِ، وبما أنَّ الآيةَ قد أشارَت إلى كونِه عربيّاً، فيتعيّنُ العوجُ في اللّغةِ وليسَ في المعنى؛ لأنَّ المعنى قد يكونُ من دونِ عوجٍ حتّى لو كُتبَ بلغةٍ غيرِ عربيّةٍ، وبالتّالي لا يمكنُ أن نتصوّرَ أنَّ هُناكَ عوجاً في مُفرداتِ القرآنِ ونظمِه وفصاحتِه وبلاغتِه وغيرِها مِن ضوابطِ اللّغةِ وشروطِها، ومنَ الواضحِ أنَّ نفيَ العوجِ يتحقّقُ بالمرتبةِ الدّونيّةِ منَ النّظمِ والفصاحةِ والبلاغةِ ولا يستدعي ذلكَ أن يكونَ في أعلى مراتبِها، فكما يصدقُ نفيُ العوجِ على أعلى مراتبِ الفصاحةِ يصدقُ أيضاً على أدنى مراتبِها، فلا يكونُ في القرآنِ أيُّ إشارةٍ إلى أنّهُ إستخدمَ فصاحةً مُعجزةً لا يمكنُ الإتيانُ بمثلِها طالما إرتضَى القرآنُ مُجرّدَ نفي العوجِ لا أكثر وهوَ مُتحقّقٌ في أيّ نصٍّ فصيحٍ.   

قالَ تعالى: (لو جعلناهُ قُرآنا أعجميّاً لقالوا لولا فُصّلَت آياتُه، أأعجميٌّ وعربيّ. قُل هوَ للذينَ آمنوا هُدىً وشفاءً، والذينَ لا يؤمنونَ في آذانِهم وقرٌ وهوَ عليهم عمىً أولئكَ ينادونَ مِن مكانٍ بعيد) أشارَت هذهِ الآيةُ إلى مسألةٍ مُهمّةٍ وهيَ أنَّ حقيقةَ القرآنِ لا تنكشفُ إلّا للمؤمنِ باللهِ فيكونُ القرآنُ هُدىً وشفاءً حتّى لو كانَ أعجميّاً. أمّا الذينَ كفروا في آذانِهم وقرٌ وهوَ عليهم عمىً أولئكَ ينادونَ مِن مكانٍ بعيدٍ، الأمرُ الذي يقودُنا إلى القولِ أنَّ الكافرَ محجوبٌ عَن إدراكِ عظمةِ القُرآنِ لأنّهُ حينَما يسمعُ القُرآنَ كالذي يسمعُ مُنادياً مِن بعيدٍ لا يُميّزُ ما يقولُ فصرفوا عنِ القُرآنِ بإنكارِهم وجحودِهم وختمَ اللهُ على قلوبِهم فكيفَ بعدَ ذلكَ يمكنُهم أن يأتوا بمثلِه وقد حُجبوا عنهُ قالَ تعالى: (وإذا قرأتَ القُرآنَ جعلنا بينَك وبينَ الذينَ لا يؤمنونَ بالآخرةِ حجاباً مَستوراً)         45 الإسراء. وقد يكونُ هذا الأمرُ تأسيساً لمعنىً جديدٍ للصّرفةِ وهيَ أنَّ إرادةَ اللهِ قد حكمَت على كلِّ القلوبِ المُظلمةِ ألّا تُدركَ نورَ القرآنِ وعظمتَه وبالتّالي لا يمكنُها مُجاراتُه لأنّها مصروفةٌ عنهُ، والصّرفةُ هنا تقتربُ مِن معنى الخذلانِ أي أنَّ اللهَ أوكلَهُم إلى أنفسِهم ولم يكُن هوَ نورَهم الذي يستضيؤنَ بهِ.   

قوله تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيبَ فِيهِ هُدًى لِّلمُتَّقِينَ) البقرةُ2  

تستبطنُ هذهِ الآيةُ معانٍ كثيرةً يمكنُ الإشارةُ لها بشكلٍ إجمالي وهوَ أنَّ كلّما يمكنُ أن يكونَ موجِباً للرّيبِ ليسَ في كتابِ الله، وبالتّالي مُقتضى الإطلاقِ يشملُ الرّيبَ الذي يمكنُ أن يطرأ على الأسلوبِ أو العباراتِ والفصاحةِ وغيرِها. ومعَ وضوحِ هذا الأمر ِ لا يمكنُ الإختصارُ عليه؛ لأنَّ الرّيبَ المنفيّ أوسع ُ بكثيرٍ مِن ذلكَ، وبالتّالي إنَّ القولَ أنَّ مثلَ القرآنِ المرادُ الإتيانُ بهِ هو فقَط مِن حيثُ الفصاحةُ لا يمكنُ قبولُه طالما هناكَ جوانبُ أخرى أكّدَ عليها القرآنُ، وقد جاءَت بعضُ العناوينِ الأُخرى في نفسِ الآيةِ وهوَ كونُ القرآنِ هُدىً، ولا ريبَ أنَّ الهُدى عنوانٌ حقيقيٌّ ووصفٌ موضوعيٌّ للقرآنِ، ومِن هُنا يجوزُ لنا القولُ أنَّ كلَّ آيةٍ مِن آياتِ القرآنِ لا ريبَ فيها بالمُطلقِ كما أنّها هُدىً، والمُلاحَظُ أيضاً في هذهِ الآيةِ أنّها ربطَت بينَ إدراكِ الهُدى منَ القُرآنِ وبينَ المُتّقينَ الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ، الأمرُ الذي يُؤكّدُ النّقطةَ التي أشرنا إليها سابِقاً وهيَ أنَّ المؤمنينَ وحدَهم مَن يكتشفونَ سرَّ القرآنِ وعظمتَه وما دونَهم محجوبونَ مصروفونَ عنه، وبناءً على ما تقدّمَ تكونُ آياتُ التّحدّي لها معنيانِ أحدُهما خاصٌّ بالمؤمنِ والثّاني خاصٌّ بالكافرِ أمّا بخصوصِ المؤمنِ فهوَ عارفٌ بالقرآنِ وما فيهِ مِن كمالاتٍ ومعانٍ ساميةٍ تشهدُ بكونِه منَ الله تجعلُه يقفُ عاجِزاً مُسلِّماً أمامَ القرآنِ، أمّا الكافرُ فقَد ضُربَ بينهُ وبينَ القرآنِ حجابٌ بسببِ ما عليهِ مِن ظُلمةٍ وضلالٍ فلا يمكنُه الإتيانُ بمثلِه لأنّهُ مصروفٌ عَن ذلكَ، بالشّكلِ الذي لا يمكنُ القولُ معهُ أنّهُ إذا خُلّيَ ونفسه هَل يمكنُ أن يأتي بمثلِه؟ لأنَّ الصّرفَ هُنا ليسَ إلّا الخذلانَ أي أن يُخلى الإنسانُ ونفسه وليسَ أمراً عارِضاً عليهِ منعهُ منَ الإتيانِ بمثلِ القرآنِ، أمّا إذا لم يخذلهُ اللهُ وكانَ عونَه وهداهُ لإبصارِ حقيقةِ القرآنِ كما يُبصرُها أهل ُ الإيمانِ وحينَها يعرفُ كونَ القرآنِ هوَ مُعجزةَ الإسلامِ.  

وهكذا لو تتبّعنا كلَّ الآياتِ نخلصُ إلى نفسِ ما خلَصنا لهُ سابقاً وهوَ أنَّ القرآنَ كتابٌ مُعجزٌ ليسَ فقَط لفصاحتِه وإنّما لمجموعةِ إعتباراتٍ خاصّةٍ فيهِ يُدركُها أهلُ الإيمانِ واليقينِ.