كيف يقولُ الامام أمير المؤمنين " أنا لكم وزيرٌ خير من أن أكون لكم أمير " وهو منصوصٌ عليه في القرآن الكريم ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : لمعرفةِ المغزى مِن هذهِ العبارةِ لابدَّ مِن معرفةِ الظرفِ التاريخي الذي قيلَت فيه، ولذلكَ سوفَ نجيبُ أوّلاً بشكلٍ مُختصرٍ ثمّ نفصّلُ قليلاً في الإجابة. الإجابةُ المُختصرة: جاءَت هذهِ العبارةُ ضمنَ خطابٍ لأميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) عندَما اجتمعَ عليه القومُ لمُبايعتِه بعدَ مقتلِ عُثمانَ بنِ عفان، وعليهِ فسياقُ الخطبةِ يؤكّدُ على تعقيدِ الظروفِ القائمةِ آنذاك، حيثُ لم يكُن المجتمعُ جاهزاً بما يكفي لإقامةِ حكومةِ الحقِّ والعدل، حيثُ قالَ لهم: (دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مُستقبلونَ أمراً له وجوهٌ وألوان، لا تقومُ له القلوبُ، ولا تثبتُ عليهِ العقول، وإنَّ الآفاقَ قد أغامَت، والمَحجّةَ قد تنكّرت) وبما أنَّ أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السلام) يستحيلُ في حقِّه مداهنةُ القومِ وممارسةُ الخُدعِ لتثبيتِ حُكمه، كانَ منَ الضروريّ أن يكشفَ لهم عمّا ينوي القيامَ به في حالِ تولّي الأمر، ولذا حذّرَهم بقوله: (واعلموا أنّي إن أجبتُكم ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قولِ القائلِ وعتبِ العاتب)، وبذلكَ يكونُ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) أقامَ عليهم الحُجّةَ بجعلِ الخيارِ بينَ أيديهم، فكونُه إماماً منصوصاً عليه لا يعني مصادرةَ خيارِ الأمّةِ وإكراهَهم على طاعتِه، ولذا قالَ لهم: (وإن تركتموني فأنا كأحدِكم، ولعلّي أسمَعَكم وأطوَعَكم لمَن ولّيتموه أمرَكم، وأنا لكُم وزيراً، خيرٌ لكُم منّي أميراً) ويبدو أنَّ الذي أشكلَ على السّائلِ هو تصوّرُه بأنَّ هناكَ تعارضاً بينَ النصِّ على إمامةِ أميرِ المؤمنينَ وبينَ تخييرِه للناسِ في مبايعتِه، وهذا التعارضُ غيرُ متصوّرٍ؛ لأنَّ النصَّ على الإمامةِ نصٌّ تشريعيّ، والنصوصُ الشرعيّةُ بطبعِها قائمةٌ على حريّةِ الفعلِ والترك، (فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر)، فلا يجبُ على أميرِ المؤمنينَ إكراهُ الناسِ على مُبايعتِه وإنّما على الناسِ مُبايعتُه بكاملِ حريّتِهم وإرادتِهم، وعليهِ فالخيارُ بالمُبايعةِ وعدمِها خيارٌ يقتضيهُ طبيعةُ التكليفِ التشريعي، وما قالَه أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) ليسَ إلّا كشفاً لهذهِ الحقيقة. التفصيلُ في الإجابة: عندَما بويعَ الإمامُ عليّ (عليهِ السلام) للخلافةِ بويعَ بقرارٍ ثوريٍّ مِن عامّةِ الناسِ الذينَ خرجوا على عُثمان، ولو لم يكُن القرارُ ثوريّاً يتناسبُ معَ الظرفِ الثوري الذي أطاحَ بالحكومةِ السابقةِ لما آلَت الأمورُ للإمامِ عليٍّ البتّة، فالنخبةُ السياسيّةُ وقياداتُ الصفِّ الأوّلِ هيَ في العادةِ مَن تتحكّمُ في الخياراتِ السياسيّةِ الكُبرى، ولو سنحَت لها الفرصةُ واتّسعَ لها الوقتُ لوجّهَتِ الجماهيرَ التي تدافعَت على الإمامِ عليّ (عليهِ السلام) إلى وجهةٍ أخرى، وعندَما وُضعَت هذه القياداتُ أمامَ الأمرِ الواقعِ بايعوا ولكن سريعاً ما نكثوا بيعتَهم ثمَّ ألّبوا الجموعَ البعيدةَ وساروا بها إلى حربِ الإمامِ (عليهِ السلام) في الجملِ وصفّين، فأميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) أصبحَ خليفةً عندَما كانَت المبادرةُ في يدِ عامّةِ الناسِ، وعندَما كانَت المبادرةُ في يدِ قياداتِ قريش نجدُ أنَّهم حرموهُ منَ الخلافةِ ثلاثَ مرّات، ولو استمرَّ لهم الأمرُ لمنعوهُ منها إلى الأبد. كما أنَّ القرارَ الذي لجأ إليهِ الثوّارُ بمُبايعةِ الإمامِ عليّ (عليهِ السلام) لم يكُن قراراً بدافعٍ دينيّ بحت، أي أنَّهم لم يبايعوا عليّاً بوصفِه إماماً مُفترضَ الطاعة، وإنَّما بوصفِه الرجلَ الذي لا يمكنُ أن يتعرّضوا للظلمِ تحتَ ظلِّه، فقد هربوا منَ المظالمِ التي كانَت في عهدِ عُثمان إلى مَن يوفّرُ لهم العدلَ والمساواة، أمّا الإمامُ عليّ (عليهِ السلام) الذي وصّى الرسولُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) باتّباعِه واجتمعَ الناسُ لمُبايعتِه في غديرِ خمٍّ هُم كانوا أوَّل مَن خذلوهُ إلاّ القلّةَ القليلةَ وعندَما دارَت بهم الدوائرُ جاؤوا إليهِ يهرعون.وقد وصفَ أميرُ المؤمنينَ اجتماعَ الناسِ لبيعتِه بقولِه: فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرفِ الضَّبُعِ اليَّ يَنثَالُونَ عَلَيَّ مِن كُلِّ جانب حَتَّى لَقَد وُطِئَ الحَسَنَان وَشُقَّ عِطفَايَ مُجتَمِعِينَ حَولِي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضتُ بِالأمر نَكَثَت طَائِفَةٌ وَمَرَقَت أُخرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كأنهُم لَم يَسمَعُوا الله سبحانه يَقُولُ تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ بَلَى وَالله لَقَد سَمِعُوهَا وَوَعَوهَا وَلَكِنَّهُم حَلِيَتِ الدُّنيَا فِي أَعيُنِهِم وَرَاقَهُم زِبرِجُهَا أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَو لَا حُضُورُ الحَاضِرِ وَقِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ الله عَلَى العُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظلُومٍ لَأَلقَيتُ حَبلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيتُ آخِرَهَا بِكَأسِ أولهَا وَلَأَلفَيتُم دُنيَاكُم هَذِهِ أَزهَدَ عِندِي مِن عَفطَةِ عَنز.ومِن هذهِ الزاويةِ نفهمُ رفضَ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السلام) لبيعتِهم أوّلَ الأمرِ، عندَما قالَ دعوني والتمسوا غيري، حتّى لا تكونَ بيعتُه مُجرّدَ عاطفةٍ عابرة، فأعطاهُم بذلكَ فرصةً كافيةً للتفكّر والتأمّلِ فإذا عزموا أمرَهم وعقدوا لهُ البيعةَ لا يكونُ لهُم مُبرّرٌ للتراجعِ، وبذلكَ يكشفُ عن مدى استعدادِهم لتحمّلِ وعورةِ الحقِّ المُتمثّلِ في المنهجِ الإسلاميّ الصّحيحِ في الحُكم، حيثُ قالَ لهم: دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مُستقبلونَ أمراً له وجوهٌ وألوان، لا تقومُ له القلوبُ، ولا تثبتُ عليه العقولُ، وإنَّ الآفاقَ قد أغامَت، والمحجّةَ قد تنكّرَت، واعلموا أنّي إن أجبتُكم ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قولِ القائلِ وعتبِ العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدِكم ولعلّي أسمعُكم وأطوعُكم لمَن ولّيتموه أمرَكم. وبرفضِه البيعةَ ودعوتِه لهم بأن يلتمسوا غيرَه يكونُ قد كشفَ عن النوايا التي لم تطلب عليّاً لوجهِ الله وإنَّما طلبَته لرفعِ الحيفِ عنهم، والبعضُ منهم رغبوا في عليّ وكانَ يحدوهم الطمعُ أن يكونَ لهُم معَ عليٍّ ما كانَ لبني أميّة معَ عثمان، فما إن نهضَ بالأمرِ حتّى نكثَت طائفةٌ ومرقَت أخرى، فهربوا مرّةً أخرى مِن عليٍّ إلى معاوية، فعليٌّ عندَه الآخرة معَ شظفِ العيش، ومعاويةُ كانَت عندَه الدنيا معَ دينٍ دُجِّنَ لصالحِ الدنيا. يقولُ ابنُ أبي الحديد: أرسلَ طلحةُ والزبير إلى عليٍّ (عليهِ السلام) قبلَ خروجِهما إلى مكّةَ معَ محمّدٍ بنِ طلحة وقالا: لا تقُل له يا أميرَ المؤمنين وقُل له: يا أبا الحسنِ لقد فالَ فيكَ رأيُنا وخابَ ظنُّنا أصلحنا لكَ الأمرَ ووطّدنا لكَ الإمرةَ وأجلبنا على عثمانَ حتّى قُتلَ فلمّا طلبكَ الناسُ لأمرِهم جئناكَ وأسرعنا إليكَ وبايعناكَ وقُدنا إليك أعناقَ العربِ ووطئَ المهاجرونَ والأنصارُ أعقابَنا في بيعتِك حتّى إذا ملكتَ عنانَك استبددتَ برأيك عنّا ورفضتَنا رفضَ التريكة ِوملّكتَ أمرَك الأشترَ وحكيماً بنَ جبلة وغيرَهما منَ الأعرابِ ونُزّاعِ الأمصار. وحتّى لا يتصوّرَ أمثالُ طلحةَ والزبير أنّ أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السلام) يفكّرُ كما يفكّرونَ حيثُ لا همَّ له غيرَ السلطةِ قالَ لهم دعوني والتمسوا غيري، ففي تلكَ الأجواءِ المسمومةِ التي لا ترى غيرَ المكاسبِ ولا تسعى إلّا للسّلطةِ لابدَّ أن يبيّنَ لهُم أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) أنَّ خلافتَه ليسَت طمعاً في سلطانٍ وإنّما هيَ إقامةٌ للحق، فإن كنتُم تبحثونَ عن السلطةِ والمكاسبِ فالتمسوا غيري وإن كنتُم تبحثونَ عن الحقِّ والعدلِ فيجبُ عليكم تحمّلُ ما أقومُ به، ويبدو أنّهم كانوا يتصوّرونَ أنّه غيرُ جادٍّ فيما يقول، إلّا أنّهم صُدموا بمدى عزمِه فتسارعوا إلى نقضِ بيعتِه والخروجِ عليه. فالإمامُ عليّ (عليهِ السلام) لم يكُن رجلَ سياسةٍ بالمعنى المُتعارف، وإنَّما كانَ إمامَ حقٍّ يهدي الناسَ إلى سُبلِ السلام، فلم يكُن في قاموسِه المُداهنةُ على حسابِ الحقِّ أو المُجاملةُ في الدين، ولم يكُن في أدبيّاتِه السياسيّة تقديمُ المُغرياتِ لمَن يشكّلُ خطراً على خلافتِه، وهو الذي كانَ يقولُ واللهِ ما معاويةُ بأدهى منّي لكنّه يمكرُ ويقدرُ ولولا مخافةُ اللهِ لكنتُ أدهى العرب.
اترك تعليق