سؤال من وهابيٌّ عن حادثةِ الإفك ورواية قذف إحدى زوجات النبي لماريا القبطية
اليومَ صدمني وهابيٌّ عن حادثةِ الإفك ورواية قذف إحدى زوجات النبي لماريا القبطية ولزمني بإلزامين الأوّل: لماذا لم يطبق الحدّ على القاذفة؟ والثاني: والقاذفة وهي زوجة النبي مفرد والآية جاء فيها إن القاذفين عصبة أي جمع! ممكن توضيح حولَ هذينِ الأمرينِ بارك الله بكم.
السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته،
أمّا الشقُّ الأوّلُ ـ وهو لماذا لم يُطبّق الحدّ على قاذفي السيّدةِ الجليلةِ مارية..، فنقولُ:
لا يخفى أنّ للنبيّ الأكرمِ (صلّى اللهُ عليه وآله) الولايةُ العُظمى والسلطنةُ العامّة، ويتفرّعُ على ذلكَ أنّ لهُ إقامةَ الحدِّ والتعزيرِ فوراً، كذلكَ له الولايةُ لتعطيلِ الحدّ عمَّن شاءَ أو تأخيرَه وإرجاءَه لزمانٍ آخر، حسبما تقتضيه المصلحةُ الأهمُّ، فإنّه لو كانَت هناكَ مفسدةٌ كبرى تهدّدُ كيانَ الدولةِ الإسلاميّة أو أخطارٌ جسيمةٌ على مستقبلِ الدعوةِ مُترتّبةٌ على إقامةِ الحدِّ فوراً فسيكونُ الصّلاحُ في تعطيلِه أو تأخيره.
ومن الشواهدِ على ذلكَ: أنّ النبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله) لم يقتُل خالداً بنَ الوليدِ الذي إرتكبَ مجزرةً في بني جذيمة حيثُ قتلَهم وسلبَهم معَ أنّهم مسلمونَ موحّدونَ، ولمّا وصلَ الخبرُ للنبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله) صعدَ المِنبرَ وقالَ: « اللهمَّ إنّي أبرأُ إليكَ ممّا صنعَ خالدٌ بنُ الوليد »، ثمّ أرسلَ أميرَ المؤمنينَ (عليه السّلام) إليهم ليُرضيهم ويطيّبَ خواطرَهم. فالنبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله) لم يقتصَّ مِن خالدٍ ولم يُجرِ عليهِ الحدَّ لمصلحةٍ إرتآها.
ومنها أيضاً: أنّ النبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله) لم يقتُل أولئكَ المُنافقينَ الذينَ كمنوا له في العقبةِ ليقتلوه، وعندَما قالَ عمّارُ وحذيفةُ: « يا رسولَ اللهِ أفلا تأمرُ بقتلِهم؟ فقالَ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): أكرهُ أن يتحدّثَ النّاسُ أنّ محمّداً يقتلُ أصحابَه ». ينظر: البدايةُ والنّهاية ج5 ص25.
وفي المقامِ نقول: إنّ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) لم يُجرِ الحدّ على قاذفي السيّدةِ الطاهرةِ مارية القبطيّة (رضوانُ اللهِ عليها) لمصلحةٍ مهمّةٍ إرتآها (صلّى الله ُعليه وآله)، فإنّ له حقَّ تعطيلِ الحدّ أو تأجيلِه لوقتٍ آخر، وقد وردَ في روايةٍ: أنّ الحدَّ أُخِّر إلى زمانِ الحُجّةِ (عجّلَ اللهُ فرجه). ينظر: المحاسن ج2 ص339.
وهناكَ أجوبةٌ أخرى أعرضنا عنها لئلّا يطولَ بنا الكلام.
أمّا الشقّ الثاني ـ وهو تنافي كونِ القاذفةِ هيَ عائشةُ مع تعبيرِ الآيةِ بكونِهم (عُصبة) ـ، فنقولُ:
إنّ المُستفادَ مِن بعضِ رواياتِنا: أنّ أربعةً إجتمعوا على قذفِ السيّدةِ الطاهرةِ مارية (رضوانُ اللهِ عليها)، وهُم أبو بكرٍ وعُمر وعائشةُ وحفصة، وذلكَ بعدَما ملكَت مارية قلبَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) حسدَتها عائشةُ وحفصة، وأقبلتا إلى أبويهما تشكوانِ فعلَ النبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله) وميله إلى مارية، فسوّلَت لهما أنفسُهما أن يقولا: إنَّ مارية إنّما حملَت مِن جريحٍ، فأقبلَ أبواهما إلى رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وهوَ جالسٌ في مسجدِه فجلسا بين يديه وقالا: يا رسولَ الله، ما يحلّ لنا ولا يسعُنا أن نكتمَك ما ظهرنا عليهِ مِن خيانةٍ واقعةٍ بكَ، قالَ: وماذا تقولان؟ قالا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ جريحاً يأتي مِن مارية الفاحشةَ العُظمى، وإن حَملها من جريحٍ، وليسَ هوَ منك. ينظر: دلائلُ الإمامةِ ص385، نوادرُ المُعجزات ص176، الهدايةُ الكُبرى ص297.
هذا بالنّسبةِ إلى رواياتِنا، وأمّا رواياتُ المُخالفين.. فإنّ المُستفادَ مِن مجموعِها أنّ الذينَ جاؤوا بالإفكِ عُصبةٌ أيضاً ـ كما نصَّت الآيةُ الكريمةُ، ولم تكُن عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ هيَ المُنفردةَ بالقذفِ وإن كانَ لها الدورُ الفاعلُ الكبيرُ لإشاعةِ الفريةِ وترويجِها وإصرارها على ذلكَ وقولِها: « ما أرى شبهاً » ونحو ذلك، فإنّه يمكنُ أن يُستفادَ مِن بعضِ رواياتِ المخالفينَ أنّه كانَ لحفصةَ بنتِ عُمر شراكةٌ في ذلكَ أيضاً، كما يُستفادُ من بعضِها أيضاً أنّهُ كانَ لعُمرَ بنِ الخطّابِ شأنٌ في ذلك. [ينظر: دلائلُ الصّدق ج8 ص158].
نعم، مجموعُ الرّواياتِ قاصرةٌ عن شرحِ القصّةِ بتفاصيلِها معَ أنّها كانَت حادثة كبيرةً جدّاً تمسُّ شرفَ إحدى نساءِ النبيّ الأعظمِ (صلّى اللهُ عليه وآله)، فنجدُ مثلَ الحافظِ مُسلمٍ بنِ الحجّاجِ يروي هذهِ الحادثةَ الكبيرةَ في [الصّحيح ج8 ص119] باقتضابٍ شديدٍ لا يتجاوزُ الأربعةَ أسطرٍ! مع ترميزِ إسم السيّدةِ مارية وإسمِ المُتّهمِ وإغفالِ ذكرِ القاذفينَ مِن رأس!!
والسّببُ في ذلكَ: أنّ تناقلَ القضيّةِ بكافّةِ تفاصيلِها وحيثيّاتِها يضرُّ بالسّلطةِ الحاكمةِ وشرعيّتِها، كما تضرّ بمذهبِ المُخالفينَ مِن رأسٍ لتورّطِ جماعةٍ منَ الرّموز الكبيرِة.. وقد أسّسَ علماءُ المخالفينَ لمثلِ هذه الرّوايات ِقاعدةً عامّة وهيَ المنعُ عن التحديثِ بمثالبِ الصّحابةِ ونقلِها وكتابتِها وسماعِها صريحاً، بل يجبُ أن تُعدمَ منَ الوجودِ، ولو إضطّرَ لروايتهِا فتُروى بالتّرميزِ بـ(فلانٍ) و(كذا) و(كيت) ونحوِها مِن غيرِ تعريضٍ بهم، كما هوَ معلومٌ لمَن سبرَ تراثَهم ورواياتِهم..
ولعلماءِ المُخالفينَ كلماتٌ كثيرةٌ بهذا الشّأنِ لا نطيلُ المقامَ بذكرِها، ونكتفي بما قالَه الحافظُ الذهبيّ في [سيرِ أعلامِ النّبلاء ج10 ص92] عندَ الدّفاعِ عن الشافعيّ: « كلامُ الأقرانِ إذا تبرهنَ لنا أنّه بهوىً وعَصَبِيّةٍ لا يُلتَفتُ إليه، بل يُطوى ولا يُروى. كما تقرّر من الكفِّ عن كثير ممّا شَجَرَ بين الصحابةِ وقتالِهم (رضي اللّه عنهم أجمعين)، وما زال يَمُرُّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكنّ أكثر ذلك منقطعٌ وضعيفٌ، وبعضُه كَذِبٌ، وهذا فيما بأيدينا وبينَ عُلمائِنا، فينبغي طَيُّه وإخفاؤه، بل إعدامُهُ لتَصفُوَ القلوبُ، وتتوفّرَ على حُبِّ الصحابة، والترضّي عنهم، وكِتمانُ ذلك مُتَعيِّنٌ عن العامّة وآحاد العُلماء »، وكلامهُ واضحٌ وصريحٌ بإنبغاء طيّ روايات المثالب وإخفائها بل إعدامها وطمسها من الوجود، وقد نقلَ أحمد الخلال في [السنة ج3 ص501ـ516] نماذجَ من ذلك، منها: ما نقلهُ عن أحمد بن حنبل قال: « كان أبو عوانة وضعَ كتاباً فيه معايب أصحاب النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وفيه بلايا، فجاءَ إليه سلام بن أبي مطيع فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذلك الكتابَ فأعطاهُ، فأخذه سلام فأحرقه »، وصارَ هذا الفعلُ سنّةً يقتدونَ بها ويحرّضونَ عليها ويعتبرونَ أنفسهم مأجورينَ مثابين بطمس الحقائق وتزييفِ التاريخ والتعدّي على التراثِ وإتلافِ الكتبِ، ولا حولَ ولا قوة إلا باللهِ العليّ العظيم.
اترك تعليق