هل نزلَ القرآنُ العظيمُ في شهرِ رمضان أو شهرِ رجب؟

ليلة المبعث النبوي حصلت في السابع والعشرين من رجب وفيها نزل الوحي على رسوله وبلغه بأول سورة وهي اقرأ بأسم ربك الذي خلق . وهناك سورة القدر والتي أشار الله فيها بأنه انزل القرأن في ليلة القدر في شهر رمضان ؟ السؤال هو هل انُزل القرأن في شهر رجب ام رمضان

: السيد رعد المرسومي

السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،اِعلَم أخي السائل أنّ هذهِ المسألةَ قد كتبَ فيها كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ وتوصّلوا إلى نتائجَ مُهمّة، ويمكنُ تصويرُ حقيقةِ ما يعرضُ لهذهِ المسألة وبيانُ ما ينبغي مُناقشتُه فيها باختصار، وذلكَ مِن خلالِ أمورٍ ثلاثة: أحدُها: يظهرُ مِن بعضِ الآياتِ الكريمةِ أنّ القرآنَ العظيمَ نزلَ في ليلةِ القدر. أي ليلةِ الثالثِ والعشرينَ مِن شهرِ رمضانَ المُبارك. قالَ تعالى: ﴿ شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَىٰ وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ ﴾. وقالَ تعالى: ﴿ ... إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ ﴾. وقالَ تعالى: :﴿ ... حم * وَالكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾. والثاني: يظهرُ مِن آياتٍ كريمةٍ أخرى أنَّ القرآنَ العظيم نزلَ مُفرّقاً على شكلِ دفعات. قالَ تعالى: (وقرآناً فرقناهُ لتقرأهُ على الناسِ على مكثٍ ونزّلناهُ تنزيلاً). وقالَ تعالى: (وقالَ الذينَ كفروا لولا نُزّلَ عليهِ القرآن جُملةً واحدةً كذلكَ لنُثبّتَ به فؤادَك ورتّلناهُ ترتيلاً). والثالثُ: هناكَ أحاديثُ مِن طُرقِ الفريقينِ قد أشارَت إلى كيفيّةِ إنزالِ القرآنِ العظيم، مِنها ما أخرجَه الحاكمُ والبيهقيُّ أيضاً والنسائيّ مِن طريقِ داودَ بنِ أبي هند عن عكرمةَ عَن ابنِ عبّاس قالَ أنزلَ القرآنُ في ليلةٍ واحدةٍ إلى السماءِ الدّنيا ليلةِ القدر، ثمَّ أنزلَ بعدَ ذلكَ بعشرينَ سنة. [الإتقانُ في علومِ القرآنِ للسيوطيّ، (ج ١/ص ١١٧)]. وفي كتابِ الكافي : (2/ 628 ) بإسنادِه إلى حَفصٍ بنِ غِيَاثٍ عَن أَبِي عَبدِ اللَّهِ (عليه السَّلام) قَالَ : سَأَلتُهُ عَن قَولِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ :﴿ شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى ... ﴾، وَ إِنَّمَا أُنزِلَ فِي عِشرِينَ سَنَةً بَينَ أَوَّلِهِ وَ آخِرِهِ ؟ فَقَالَ : أَبُو عَبدِ اللَّهِ ( عليهِ السَّلام ) : " نَزَلَ القُرآنُ جُملَةً وَاحِدَةً فِي شَهرِ رَمَضَانَ إِلَى البَيتِ المَعمُورِ ، ثُمَّ نَزَلَ فِي طُولِ عِشرِينَ سَنَةً. فهذهِ صورةٌ مُختصرةٌ لحقيقةِ هذهِ المسألة، وأمّا كيفَ تعاملَ العلماءُ معَ هذهِ الأمورِ الثلاثة، فهناكَ ثلاثةُ آراء:الرأيُ الأوّل: هوَ ما يذهبُ إليهِ جمهورُ أهلِ السنّةِ وبعضُ علماءِ الإماميّة، وحاصلُه: أنَّ القرآنَ نزلَ في ليلةٍ واحدةٍ إلى السماءِ الدّنيا ليلةَ القدر، ثمَّ أنزلَ بعدَ ذلكَ بعشرينَ سنةٍ.  الرأيُ الثاني: هوَ ما يذهبُ إليه جمعٌ منَ العُلماءِ والمُحقّقين، وبهِ قالَ الشيخُ المُفيد (ره)، إذ يوجّهُ هذا الفريقُ الآياتِ والرواياتِ بهذا التوجيه: إنّ النزولَ بدأ في ليلةِ القدرِ مِن شهرِ رمضان المُبارك، كما نزلَت الكتبُ الإلهيّةُ التوراةُ والانجيلُ والزبور في هذا الشهرِ المُبارك، كما تفيدُ بذلكَ الروايات. وإنَّ القرآنَ نزلَ مُفرّقاً على شكلِ آياتٍ أو سورٍ أحياناً، ولم ينزِل بصورتِه الكاملةِ على النبيّ مُحمّد (صلّى اللهُ عليهِ وآله) دفعةً واحدة، ويتّضحُ ذلكَ مِن قولِه تعالى: (لتقرأهُ على الناسِ على مكث) و(ورتّلناهُ ترتيلاً) أي بيّنّاهُ وفرّقناهُ تفريقاً، كما يتّضحُ ذلكَ مِن ردِّه على الكافرينَ بالآيةِ 32 مِن سورةِ الفرقان، الذينَ طالبوا بإنزالِه جُملةً واحدةً على النبي مُحمّد (صلّى اللهُ عليهِ وآله).ولذا ردَّ الشيخُ المُفيد (قدس)، على القولِ الأوّلِ الذي ذهبَ إليهِ الشيخُ الصّدوق (ره) فعلّقَ على هذهِ المسألةِ بقولِه - رحمَه الله - : الذي ذهبَ إليه أبو جعفرٍ [يعني به الصّدوق] في هذا البابِ أصلُه حديثٌ واحدٌ لا يوجبُ عِلماً ولا عملاً . ونزولُ القرآنِ على الأسبابِ الحادثةِ حالاً بحال يدلُّ على خلافِ ما تضمّنَه الحديثُ ، وذلكَ أنّه قد تضمّنَ حُكمَ ما حدثَ وذكرَ ما جرى على وجهِه ، وذلكَ لا يكونُ على الحقيقةِ إلّا بحدوثِه عندَ السبب ، ألا ترى إلى قولِه تعالى : ( وقولُهم قلوبُنا غُلفٌ بل طبعَ اللهُ عليها بكُفرِهم )، وقوله : ( وقالوا لو شاءَ الرحمنُ ما عبدناهُم ما لهُم بذلكَ مِن علم). وهذا خبرٌ عن ماضٍ ، ولا يجوزُ أن يتقدّمَ مُخبِرُه ، فيكونُ حينئذٍ جزاءً عن ماضٍ وهوَ لم يقَع بل هوَ في المُستقبَل . وأمثالُ ذلكَ في القرآنِ كثيرةٌ . وقد جاءَ الخبرُ بذكرِ الظّهارِ وسببِه ، وأنّها لمّا جادلَت النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم في ذكرِ الظهارِ أنزلَ اللهُ تعالى : ( قد سمعَ اللهُ قولَ التي تُجادِلُك في زوجِها ). وهذهِ قصّةٌ كانَت بالمدينةِ فكيفَ يُنزّلُ اللهُ تعالى الوحيَ بها بمكّةَ قبلَ الهجرة ، فيخبرُ بها أنّها قد كانَت ولم تكُن ! ولو تتبّعنا قصصَ القرآنِ لجاءَ مِمّا ذكرناهُ كثيراً لا يتّسعُ به المقالُ ، وفيما ذكرناهُ منهُ كفايةٌ لذوي الألباب . وما أشبهَ ما جاءَ به الحديثُ بمذهبِ المُشبّهةِ الذينَ زعموا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لم يزَل مُتكلِّماً بالقرآنِ ومُخبِراً عمّا يكونُ بلفظِ كان ، وقد ردَّ عليهم أهلُ التوحيدِ بنحوِ ما ذكرناه .وقد يجوزُ في الخبرِ الواردِ في نزولِ القرآنِ جُملةً في ليلةِ القدر أنَّ المُرادَ أنّه نزلَ جُملةٌ منهُ في ليلةِ القدر ثمَّ تلاهُ ما نزلَ منهُ إلى وفاةِ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم فأمّا أن يكونَ نزلَ بأسرِه وجميعِه في ليلةِ القدرِ فهوَ بعيدٌ مِمّا يقتضيهِ ظاهرُ القرآنِ والمتواترُ منَ الأخبارِ وإجماعُ العلماءِ على اختلافِهم في الآراء. [تصحيحُ اعتقاداتِ الإماميّة، للشيخِ المُفيد، ص123]. والرأيُ الثالث: يتعلّقُ بالآياتِ القُرآنيّةِ في الأمرينِ الأوّلِ والثاني، إذ ذهبَ طائفةٌ مِن أهلِ العلمِ إلى توجيهِ ذلكَ مِن خلالِ التفريقِ بينَ مُصطلحي الإنزالِ والتنزيلِ الواردين في الآياتِ آنفاً، إذ في الطائفةِ الأولى منَ الآياتِ وردَت عبارةُ (أنزلنا إليكَ الكتاب)، وفي الثانيةِ عبارةُ (تنزيل الكتاب)، فما الفرقُ بينَ الإنزالِ والتنزيل؟ إذ كتبُ اللغةِ تُبيّنُ أنّ كلمةَ (تنزيل) تعني نزولَ الشيءِ على عدّةِ دفعات، في حينِ أنَّ كلمةَ (إنزال) لها معنىً عام يشملُ النّزولَ التدريجيَّ والنّزولَ دفعةً واحدة وفي مُفرداتِ الراغبِ مادّةُ (نزلَ) والفرقُ بينَ الإنزالِ والتنزيلِ في وصفِ القرآنِ والملائكة، أنَّ التنزيلَ يختصُّ بالموضعِ الذي يشيرُ إليهِ إنزالهُ مُفرّقاً ومرّةً بعدَ اُخرى والإنزالُ عام. وقالَ بعضُهم: إنّ لكلٍّ مِنهما معنىً خاصّاً بها وأنَّ (تنزيل) تعني ـ فقط ـ النّزولَ على عدّةِ دفعات، و(إنزال) تعني ـ فقط ـ النّزولَ دفعةً واحدة. فاختلافُ العبارتينِ المذكورتينِ إنّما يعودُ إلى أنَّ القرآنَ المجيدَ نزلَ بصورتين: الأُولى: نزلَ دفعةً واحدةً على قلبِ النّبيّ محمّدٍ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) في ليلةِ القدر في شهرِ رمضان المُبارك كما وردَ في الآياتِ المُباركة: (إنا أنزلناهُ في ليلةِ القدر)، و(إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ مُباركة)، و(شهرُ رمضانَ الذي أنزلَ فيهِ القرآن). وفي كلِّ هذهِ الآياتِ استخدمَت عبارةُ (الإنزال) التي تشيرُ إلى نزولِه دفعةً واحدة. والثانيةُ: يوجدُ نزولٌ آخر تمَّ بصورةٍ تدريجيّةِ استغرقَ (23) عاماً، أي طوالَ فترةِ نبوّةِ الرّسولِ الأكرم (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) إذ كانَت تنزلُ في كلِّ حادثةٍ وقضيّةٍ آيةٌ تناسبُها، وتنتقّلُ بالمُسلمينَ مِن مرحلةٍ إلى اُخرى ليرتقوا سلّمَ الكمالِ المعنويّ والأخلاقيّ والعقائديّ والاجتماعي، كما وردَ في الآيةِ (106) مِن سورةِ الإسراء: (وقرآناً فرقناهُ لتقرأهُ على الناسِ على مكثٍ ونزّلناهُ تنزيلاً). والذي يثيرُ الانتباهَ، هوَ أنَّ الكلمتين (تنزيل) و(إنزال) تأتيانِ أحياناً في آيةٍ واحدةٍ للتعبيرِ عن مقصودين، كما وردَ في الآيةِ (20) مِن سورةِ محمّد: (ويقولُ الذينَ آمنوا لولا نزّلَت سورةٌ فإذا أنزلَت سورةٌ محكمةٌ وذكرَ فيها القتالُ رأيتَ الذينَ في قلوبِهم مرضٌ ينظرونَ إليكَ نظرَ المغشيّ عليهِ منَ الموت). فكأنَّ المُسلمينَ يطلبونَ أحياناً نزولَ السورةِ القرآنيّةِ تدريجاً كي يهضموا محتوياتِها بصورةٍ جيّدة، لكنَّ الضرورةَ كانَت تستدعي في بعضِ الحالاتِ نزولَ السورةِ دفعةً واحدة، وخاصّةً السورَ التي تتناولُ مسائلَ الجهادِ في سبيلِ الله، لأنّ نزولَها التدريجيَّ كانَ قد يؤدّي إلى سوءِ استغلالِها مِن قِبلِ المُنافقينَ الذينَ كانوا يتحيّنونَ الفرصَ لبثِّ سمومِهم. ففي مثلِ هذهِ الحالات ـ كما ذكرنا ـ كانَت السورةُ تنزلُ دفعةً واحدة. وهذا آخرُ شيءٍ يمكنُ ذكرُه بشأنِ التباينِ الموجودِ بينَ العِبارتين، وطبقاً لهذا فإنّ آياتِ بحثِنا أشارَت إلى طريقتي النّزولِ بصورةٍ جامعةٍ كاملة. ومعَ هذا فإنّه توجدُ هناكَ بعضُ الأُمورِ الاستثنائيّةِ لتفسيرِ وبيانِ الاختلافِ المذكورِ أعلاه، كما وردَ في الآيةِ (32) مِن سورةِ الفُرقان: (وقالَ الذينَ كفروا لولا نزّلَ عليهِ القرآنُ جملةً واحدةً كذلكَ لنثبّتَ به فؤادَك ورتّلناهُ ترتيلاً). ثُمَّ صحيحٌ أنّ للقرآنِ نزولين، طِبقاً للرّواياتِ (بل لظاهرِ بعضِ الآيات): أحدُهما: «نزولٌ دفعي» مرّةً واحدة في ليلةِ القدر على قلبِ النّبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم)، والآخرُ: «نزولٌ تدريجيّ» في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً، لكن بلا شك أنَّ النّزولَ المُعترفَ به الذي كانَ النّبيُّ والناسُ يتفاعلونَ معهُ دائماً هوَ النّزولُ التدريجيّ للقرآن. وهذا النّزولُ التدريجيّ بالذاتِ صارَ سبباً لاستفهاماتِ الأعداء: لماذا لم ينزِل القرآنُ مرّةً واحدةً ويُجعَل دفعةً واحدةً بينَ أيدي الناس، حتّى يكونوا أكثرَ اطّلاعاً وتفهّماً، فلا يبقى مكانٌ للشكِّ والريبة؟ ولكن ـ كما رأينا ـ فإنّ القرآنَ أجابَهم جواباً قصيراً وجامِعاً وبليغاً مِن خلالِ جُملةِ (كذلكَ لنُثبّتَ بهِ فؤادَك)، فكلّما تأمّلنا فيها أكثرَ تتجلّى آثارُ النّزولِ التدريجيّ للقرآنِ أوضح. فإذا عرفتَ ذلك، فقد آنَ الأوانُ أن نُبيّنَ الآثارَ العميقةَ للنّزولِ التدريجي:1 ـ لا شكَّ أنَّ التشريعاتِ إذا كانَت تتنزّلُ بشكلٍ تدريجيّ تِبعاً للحاجات، ويكونُ لكلِّ مسألةٍ شاهدٌ ومصداقٌ عينيّ، فستكونُ مؤثّرةً جدّاً مِن ناحيةِ «تلقّي الوحي» وكذلكَ «إبلاغ الناس». ومبادئُ التربيةِ تؤكّدُ أنَّ الشخصَ أو الأشخاصَ المُرادَ تربيتُهم ينبغي أن يُؤخذَ بأيديهم خطوةً خطوة، فينظّمُ لهُم لكلِّ يومٍ برنامج، ويسلكوا منَ المرحلةِ الأدنى التي شرعوا مِنها إلى المراحلِ الأعلى والبرامجِ التي تتدرّجُ بهذهِ الكيفيّةِ تكونُ أكثرَ مقبوليّةً وأعمقَ أثراً.2 ـ إنّ هؤلاءِ المُعترضينَ غافلونَ أساساً عَن أنّ القرآنَ ليسَ كتاباً عاديّاً يبحثُ في موضوعٍ أو علمٍ مُعيّن، بل هو منهجٌ حياتيٌّ للأُمّةِ التي تغيّرَت به، واستلهمَت منهُ في جميعِ أبعادِ الحياةِ ولا تزال. كثيرٌ مِن آياتِ القرآنِ نزلَت في مناسباتٍ تاريخيّة مثلَ معركةِ (بدر) و(أُحد) و (الأحزاب) و(حُنين)، وبذلكَ سُنّت التشريعاتُ والاستنتاجاتُ مِن هذهِ الحوادث، ترى هل يصحُّ أن تُكتبَ هذهِ مرّةً واحدةً وتُعرضَ على الناس!؟ بعبارةٍ أُخرى: القرآنُ مجموعةٌ مِن أوامرَ ونواهٍ، أحكامٍ وقوانين، تاريخٍ وموعظة، ومجموعةٌ منَ الخُططِ ذاتِ المدى الطويلِ أو القصير في مواجهةِ الأحداثِ التي كانَت تبرزُ أمامَ مسيرِ الأُمّةِ الإسلاميّة، كتابٌ ـ كهذا ـ يبيّنُ ويُنفّذُ جميعَ مناهجِه حتّى قوانينَه الكليّةَ عن طريقِ الحضورِ في ميادينِ حياةِ الأُمّة، لا يمكنُ أن يُنظّمَ ويُدوَّنَ دفعةً واحدة. وهذا مِن قبيلِ أن يقومَ قائدٌ عظيمٌ بكتابةِ ونشرِ جميعِ بياناتِه وإعلاناتِه وأوامرِه ونواهيه ـ التي يُصدرُها في المناسباتِ المُختلفة ـ دفعةً واحدةً مِن أجلِ تسييرِ الثورة، تُرى هل يعتبرُ هذا العملُ عُقلائيّاً؟ 3 ـ النّزولُ التدريجيّ للقرآنِ كانَ سببَ ارتباطِ النّبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) الدائمِ والمُستمرِّ بمبدأ الوحي ممّا يجعلُ قلبَه الشريفَ أقوى وإرادتَه أشدّ. ومِن غيرِ المُمكنِ إنكارُ تأثيرِه في المناهجِ التربويّة. 4 ـ مِن جهةٍ أخرى فإنّ استمرارَ الوحي دليلٌ على استمرارِ رسالةِ وسفارةِ النّبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم)، وسوفَ لن يترُكَ مجالاً لوسوسةِ الأعداءِ لكي يقولوا: لقد بُعثَ هذا النّبيُّ ليومٍ واحد! ثمّ تركَه ربُّه، كما نقرأ في التأريخِ الإسلاميّ أنَّ هذه الهمهمةَ ظهرَت أثناءَ تأخّرِ الوحي في بدايةِ الدعوة، فأنزلَت سورةُ (والضُّحى) لنفي ذلك. 5 ـ لا شكَّ أنّه إذا كانَ مُقرّراً لمناهجِ الإسلامِ أن تنزلَ جميعُها دفعةً واحدة، فقد كانَ منَ اللازمِ أن تُطبَّقَ دفعةً واحدةً أيضاً، لأنَّ النّزولَ من دونِ تطبيقٍ يُفقدُ النّزولَ قيمتَه، ومنَ المعلومِ أنَّ تطبيقَ جميعِ المناهجِ أعمُّ منَ العباداتِ كالزكاةِ والجهاد، ورعايةِ جميعِ الواجباتِ والامتناعِ عن كلِّ المُحرّماتِ دفعةً واحدة.. عملٌ ثقيلٌ جدّاً قد يؤدّي إلى فرارِ فئةٍ كبيرةٍ منَ الإسلام. وبهذا يتبيّنُ أنَّ النّزولَ التدريجيَّ وبالتالي التطبيقُ التدريجيّ أفضلُ مِن جهاتٍ كثيرةٍ وبعبارةٍ أُخرى: إنَّ أيَّ واحدٍ مِن هذه التشريعاتِ في صورةِ النّزولِ التدريجيّ سيتمُّ هضمُه واستيعابُه بصورةٍ جيّدة، وفي حالةِ تعرّضِه لبعضِ الاستفهاماتِ يمكنُ طرحُها والإجابةُ عليها. 6 ـ وفائدةٌ اُخرى مِن فوائدِ النّزولِ التدريجيّ هوَ اتّضاحُ عظمةِ وإعجازِ القرآن، ذلكَ لأنَّ في كلِّ واقعةٍ تنزلُ عدّةُ آياتٍ كريمةٍ تكونُ لوحدِها دليلَ العظمةِ والإعجاز، وكلّما يتكرّرُ تتجلّى أكثر هذه العظمةُ وهذا الإِعجاز، فينفذُ في أعماقِ قلوبِ الناس. [ينظر: تفسيرُ الأمثلِ للسيّدِ مكارِم الشيرازي (ج15/ص14 وما بعدَها)].وهناكَ توجيهٌ آخرُ لمعنى (الإنزالِ والتنزيل) يمثّلُ لوناً جديداً مِن ألوانِ الفكرِ التفسيريّ ذهبَ إليهِ السيّدُ الطباطبائيّ في تفسيرِه الميزان (ج2/ص15 وما بعدَها). وخُلاصةُ هذا التوجيهِ أنّه يعتمدُ على مُقدّماتٍ ثلاثة تتلخّصُ فيما يلي :1 ـ هناكَ فرقٌ بينَ (الإنزالِ ) و ( التنزيل ) ، والإنزالُ إنّما يستعملُ فيما إذا كانَ المُنزَلُ أمراً وحدانيّاً نزلَ بدفعةٍ واحدةٍ ، والتنزيلُ إنّما يُستعمَلُ فيما إذا كانَ المُنزَلُ أمراً تدريجيّاً ، وقد وردَ كِلا التعبيرينِ حولَ نزولِ القرآن : (( إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ مُباركة ))[الدخان:3] ، ((ونزّلناهُ تنزيلاً ))[الإسراء:106] .والتعبيرُ بـ ( الإنزالِ ) إنّما هوَ في الآياتِ التي يشارُ فيها إلى نزولِ القرآنِ في ليلةِ القدر ، أو شهرِ رمضان بخلافِ الآياتِ الأخرى التي يُعبّرُ فيها بـ ( التنزيلِ ) .2 ـ هناكَ آياتٌ يُستشعَرُ مِنها أنَّ القرآنَ كانَ على هيئةٍ وحدانيّةٍ ، لا أجزاءَ فيها ولا أبعاض ، ثمَّ طرأ عليهِ التفصيلُ والتجزئة ، فجُعلَ فصلاً فصلاً وقطعةً قطعة ، قالَ تعالى : (( كتابٌ أحكمَت آياتُه ثمَّ فُصّلَت مِن لدنِ حكيمٍ خبير)) [هود:1]. فهذهِ الآيةُ ظاهرةٌ في أنَّ القرآنَ حقيقةٌ مُحكمةٌ ، ثمَّ طرأ عليها التفصيلُ والتفريقُ بمشيئةِ اللهِ تعالى ، والإحكامُ الذي يقابلُ التفصيلَ هوَ وحدانيّةُ الشيءِ وعدمُ تركّبِه وتجزّئه .3 ـ هناكَ آياتٌ قرآنيّةٌ تشيرُ إلى وجودِ حقيقةٍ معنويّةٍ للقرآنِ غيرِ هذهِ الحقيقةِ الخارجيّة اللقيطة ، وقد عُبّرَ عَنها في القرآنِ بـ ( التأويلِ ) في غيرِ واحدةٍ منَ الآيات ، قالَ تعالى : (( أم يقولونَ افتراهُ قُل فأتوا بسورةٍ مِن مثلِه وادعوا مَن استطعتُم مِن دونِ الله إن كُنتم صادقين * بل كذّبوا بما لم يُحيطوا بعلمِه ولمّا يأتِهم تأويلُه كذلكَ كذّبَ الذينَ مِن قبلِهم فانظُر كيفَ كانَ عاقبةُ الظالمين ))[يونس:38،39] ، وقالَ تعالى: (( ولقد جئناهُم بكتابٍ فصّلناهُ على علمٍ هدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون هل ينظرونَ إلّا تأويلَه ... ))[الأعراف:52] .فالتأويلُ على ضوءِ الاستعمالِ القُرآني هوَ الوجودُ الحقيقيّ والمعنويّ للقرآن ، وسوفَ يواجهُ المنكرونَ للتنزيلِ الالهيّ تأويلَه وحقيقتَه المعنويّةَ يومَ القيامة . واستنتاجاً مِن هذه المُقدّماتِ الثلاث ، فللقرآنِ إذَن حقيقةٌ معنويّةٌ وحدانيّة ليسَت مِن عالمِنا هذا العالمِ المُتغيّرِ المُتبدّل ، وإنّما هيَ مِن عالمٍ أسمى مِن هذا العالم ، لا ينفذُ إليهِ التغيّرُ ولا يطرأ عليهِ التبديل .وتلكَ الحقيقةُ هيَ الوجودُ القرآنيُّ المُحكمُ الذي طرأ عليهِ التفصيلُ بإرادةٍ منَ اللهِ جلّت قُدرتُه ، كما أنّه هوَ التأويلُ القرآنيُّ الذي تلمّحُ إليهِ آياتُ الكتابِ العزيز . وإذا آمنّا بهذهِ الحقيقةِ فلا مشكلةَ إطلاقاً في الآياتِ التي تتضمّنُ نزولَ القرآنِ نزولاً دفعيّاً في ليلةِ القدرِ وفي شهرِ رمضان ، فإنَّ المقصودَ بذلكَ الإنزالِ هوَ هبوطُ الحقيقةِ المعنويّةِ للوجودِ القُرآني على قلبِ رسولِ الله ( صلّى اللهُ عليهِ وآله ) ، وانكشافُ ذلكَ الوجودِ التأويليّ الحقيقيّ للقرآنِ أمامَ البصيرةِ الشفّافةِ النبويّة ، فإنَّ هذا الوجودَ المعنويَّ هوَ الذي يناسبُه الإنزالُ الدفعي ، كما أنَّ الوجودَ اللفظيَّ التفصيليَّ للقرآنِ هوَ الذي يناسبُه ( التنزيلُ ) التدريجيّ . وليسَ المقصودُ مِمّا وردَ مِن رواياتٍ عن أهلِ البيتِ ( عليهم السلام ) حولَ النزولِ الأوّلِ للقرآنِ في البيتِ المعمور إلّا نزولُه على قلبِ النبيّ ( صلّى اللهُ عليهِ وآله ) ، فإنّه هوَ البيتُ المعمورُ الذي تطوفُ حولَه الملائكة ، وقد رمزَ إليها الحديثُ بهذا التعبيرِ الكنائيّ. هذا ما لدينا عن مسألةِ نزولِ القرآنِ العظيم. ودمتُم سالِمين.