الفقر من الله أم من عند أنفسنا؟
احد الملحدين يُشْكل علينا حوْل رزق الله لعبادهِ و كمية الفقر الموجود مع انهُ هو الرزاق و يرزق فقط اصحاب الاموال و السلطة
السلام ليكم ورحمة الله
ما يزيدُ الإنسانَ عجباً هوَ ما يتفوّهُ بهِ المُلحدُ مِن إشكالاتٍ تتعلّقُ بالحِكمةِ منَ الوجودِ أو الحِكمةِ عمّا يجري في الوجودِ مِن سُننٍ وقوانينَ وهوَ في نفسِ الوقتِ لا يؤمنُ بشيءٍ إسمُه حكمةٌ أو غايةٌ منَ الوجودِ، أو لا يؤمنُ بوجودِ أسبابٍ ومُسبّباتٍ ورابطٍ منطقيٍّ بينَ وجودِ الأشياءِ وعللِها، فإذا كانَ الكونُ جاءَ مِن لا شيء، ومِن أجلِ لا شيء، ويمضي إلى اللا شيء، فلِماذا يسألُ عَن حِكمةِ ما يقعُ فيهِ مِن أحداثٍ؟ ومِن ثمَّ إذا رفَضنا ما يقولُه المؤمنُ فما هوَ البديلُ الذي يُقدّمُه الملحدُ وبهِ ترتفعُ كلُّ الإشكالاتِ التي يُثيرُها؟ فمثلاً إذا تمَّ توجيهُ سؤالِ التّفاوتِ في الرّزقِ بينَ البشرِ إلى المُلحدِ فبِماذا يمكنُ أن يُجيبَ؟ هَل يدّعي المنطقَ ليقولَ إنَّ الفقرَ والغِنى خاضعٌ لمُعادلاتِ وقوانينِ الإقتصادِ؟ أم يرفضُ منطقَ العقلِ ليقولَ إنَّ الأمرَ مُجرّدُ صُدفةٍ لا تعودُ لأيّ سببٍ؟ أم يُمثّلُ دورَ المجنونِ الذي لا يُبالي بشيءٍ ليقولَ إنَّ الحياةَ بكُلّها أمرٌ عبثيٌّ إعتباطيٌّ لا غايةَ لها منَ الأساسِ حتّى يسألَ الإنسانُ عَن حِكمتِها؟
منَ الواضحِ أنَّ الإلحادَ خيارٌ عدميٌّ قائمٌ على الكُفرِ بضروراتِ المنطقِ قبلَ الكُفرِ باللهِ تعالى، والأديانُ في المُقابلِ تكشفُ عَن فلسفةٍ عميقةٍ للوجودِ والإنسانِ تنسجمُ معَ الفطرةِ وتقومُ على المنطقِ والبرهانِ، فالوجودُ لَم يأتِ منَ العدمِ وإنّما هُناكَ خالقٌ أوجدَهُ لحِكمةٍ وأجرى فيهِ القوانينَ والسّننَ لتحقيقِ غايةٍ مُعيّنةٍ، وحتّى يُحقّقَ الإنسانُ غايتَه ويبلُغَ الدّرجةَ التي أرادَهُ اللهُ أن يكونَ فيها منحَهُ العقلَ والإرادةَ ثمَّ أوجدَهُ ضمنَ مُعادلاتٍ حياتيّةٍ غايةٍ في التّعقيدِ والتّداخلِ، فجعلَ منظومةً منَ العواملِ المُتغيّرةِ التي تُؤثّرُ في قراراتِه واختياراتِه، فالبشريّةُ لا تحكمُها بيئةٌ واحدةٌ و لا زمانٌ واحدٌ ولا ظروفٌ صحّيّةٌ واحدةٌ ولا عواملُ إقتصاديّةٌ واحدةٌ وهكذا تنوّعٍ رهيبٍ يُوفّرُ لكُلِّ إنسانٍ ظروفاً خاصّةً لأداءِ دورِه في الدّنيا، والذي يحكمُ هذا التّنوعَ هوَ العدالةُ التي تُوفّرُ شروطاً مُتساويةً في الإمتحانِ حتّى وإن إختلفَت في شكلِها الظّاهريّ، إلّا أنَّ وقعَها واحدٌ على القلبِ والعقلِ والإرادةِ والنّفسِ، فالفقيرُ الذي يُعاني منَ الفقرِ ولا يُعاني في صحّتِه، يُقابلُه غنيٌّ يشعرُ بنفسِ المُعاناةِ ولكِن مِن جانبِ الصّحّةِ أو أيّ جانبٍ آخر، معَ أنَّ السّببَ مُختلفٌ إلّا أنَّ وقعَها واحدٌ على كليهِما، وإشكاليّةُ الإنسانِ أنّهُ لا يرى الأشياءَ إلّا مِن منظارِه ولِذا يرى الصّورةَ مُشوّهةً وغيرَ واضحةِ، ومعَ ذلكَ يريدُ أن تجريَ الأمورُ بتقديرِه، (وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) فإذا إفترَضنا أنَّ اللهَ منحَ الإنسانَ عقلاً كُلّيّاً وجعلَهُ ينظرُ مِن فوق على واقعِ الحياةِ لاكتشفَ مدى العدالةِ التي تحكمُها ولتأكّدَ مِن مدى الدّقّةِ التي تحكمُ كلَّ مُعادلاتِ الوجودِ، وعليهِ فإنَّ التّصوّرَ الذي يعتقدُ أنَّ الغِنى المادّيَّ هوَ كلُّ شيءٍ وأنَّ العدلَ يقتضِي أن يساوي اللهُ بينَ النّاسِ، في الفقرِ والغِنى، تصوّرٌ قاصرٌ لخّصَ الحياةَ في تجربتِه الشّخصيّةِ ولَم يفهَم الحياةَ كوحدةٍ مُتكاملَةٍ، فكَم منَ الأغنياءِ ينقصُهم الذّكاءُ والحكمةُ، أو الصّحّةُ والعافيةُ، أو الذّرّيّةُ الصّالحةُ، أو الأسرةُ الهنيئةُ، أو غيرُ ذلكَ، وكَم مِن غنيٍّ يشتَهي أن يأكُلَ كما يأكلُ الفقيرُ الذي لا يملكُ إلّا دراهمَ معدودةً، وهوَ محرومٌ منَ الأكلِ معَ كُلِّ الثّروةِ التي يمتلكُها، فمشكلةُ الإنسانِ أنّهُ لا ينظرُ إلى ما بينَ يديهِ منَ النّعمِ، لو عدَّ ما يملكُ لأعياهُ ذلكَ وما إستطاعَ أن يُحصيهِ قالَ تعالى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) والسّعادةُ الحقيقيّةُ هيَ أن يُقدّرَ الإنسانُ ما عندَهُ منَ النّعمِ ويطمئنَّ إلى رحمةِ اللهِ التي حتماً تسعُ الجميعَ، وما هذا التّباينُ بينَ البشرِ إلّا ميدانٌ مِن أجلِ إختبارِ قُدراتِ الإنسانِ، ليظهرَ الإبتلاءُ، ويتحقّقَ الإمتحانُ، ليتميّزَ مَن يشكرُ مِمَّن يكفرُ، ومَن يجزعُ ممَّن يصبرُ، ومَن يعمَل صالِحاً ممَّن يعملُ غيرَ ذلكَ، وهكذا بوتقةٌ تنصهرُ فيها النّفوسُ وتتكاملُ بها الإراداتُ ويُحصّلُ الإنسانُ عَن طريقِها الدّرجاتِ العُليا عندَ اللهِ، فالحياةُ ميدانٌ للجهادِ والكفاحِ، وعبرَ هذا الكفاحِ يُظهرُ الإنسانُ أجملَ ما عندَه منَ الفضائلِ والقيمِ، فمِن أجلِ أن يعرفَ الصّبرَ لابُدَّ أن يكونَ هُناكَ ما يصبرُ عليه، ولكَي يعرفَ الإيثارَ والإحسانَ لابُدَّ أن يكونَ هُناكَ مَن يحسنُ إليهِ، وهكذا كلُّ الفضائلِ تتجلّى عندَ الإختبارِ، وكما يُقالُ عندَ الإمتحان يُكرَمُ المرءُ أو يُهان.
هذهِ هيَ الحِكمةُ العامّةُ إلّا أنَّ هذهِ الحِكمةَ لا تُلغي قانونَ السّببيّةِ الحاكمَ على هذهِ الحياةِ، فالفقرُ والغِنى يخضعُ لمُعادلاتٍ وضعَها اللهُ كقوانينَ، وإرادةُ الإنسانِ مسؤولةٌ بشكلٍ مُباشرٍ عَن كُلِّ ما يُصيبُ الإنسانَ مِن فقرٍ أو مرضٍ أو أيّ شيءٍ آخر، وتتحمّلُ البشريّةُ بشكلٍ عامّ كلَّ ما يُعاني منهُ الإنسانُ، فظُلمُ الحاكمِ وفسادُ الأنظمةِ والمطامعُ والأنانيّاتُ الحاكمةُ على النّفوسِ وغيرُ ذلكَ كلّهُ مسؤولٌ عمّا يصيبُ البشريّةَ، فلِماذا نُحمّلُ اللهَ المسؤوليّةَ وهوَ سخّرَ للإنسانِ كلَّ ما في الوجودِ وأمرَهُم بالعدلِ ونهاهُم عنِ الظّلمِ وحذّرَهُم مِن حسابِه وعقابِه؟
اترك تعليق