لماذا نعبد الله ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، هذه الآية تمثل إجابة مباشرة عن السؤال لماذا نعبد الله؟، والاجابة لأنه خلقنا، وعليه هناك علاقة مباشرة بين كوننا مخلوقين وبين عبادة الخالق، ولكي تتضح العلاقة لابد من بيان بعض الحقائق والمقدمات.
في البدء، لا يمكن أن تتضمن العبادة مفهوماً سلبياً، لا من جهة العبد ولا المعبود، لأن الله غنيٌّ بذاته لذاته، غير محتاج لخلقه: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ). فمن الواضح إذاً، أن الله لا ينتفع بعبادة العبد، بل العباد هم الذين ينتفعون، وكذلك لا يمكن أن تكون العبادة حالة سلبية بالنسبة للإنسان أيضاً، ومن هنا يجب علينا البحث عن معنىً للعبادة يستقيم معه التوحيد، وتنسجم به فطرة الإنسان.
العبودية في الدلالة العرفية تتناقض مع الحرية، فكيف يكون الإنسان عبداً وفي والوقت نفسه حراً؟، وهل قيمة الإنسان في عبوديته أم في حريته؟، هذه الأسئلة يمكن أن تقودنا إلى إيجاد فلسفة للعبادة يرتفع بها التناقض وتتحقق بها قيمة للإنسان.
ولكي نقترب من العبادة بالمعنى التشريعي، لا بد أن نقترب أولاً من العبادة بالمعنى التكويني، بوصفها الأساس الذي تبتنى عليه العبادة في التكليف؛ فكون الإنسان عبداً باختياره، يعني بالضرورة كونه عبداً في كيانه، فلا يكون هذا التكليف حالة عرضية لم ترتكز على الطبيعة الإنسانية، وإنما القول بأن الإنسان بذاته عبد، هو تعبير آخر عن القول إن الإنسان كائن مخلوق.
وبعبارة أخرى، هل العبودية حالة ملازمة لكيان الإنسان أم أن الحرية هي تلازم كيانه؟ وبصيغة أخرى هل الإنسان بذاته عبد؟ أم بذاته حر؟
فإن كان الإنسان بذاته حراً، فتكون العبادة بالمعنى التشريعي نوعاً من أنواع مصادرة الحرية أو تحديدها وتحجيمها، لعدم وجود مبرر ذاتي يدعو الإنسان للخروج من الحرية للعبودية، إلا أن تكون هناك سلطة فوقية، فرضت الهيمنة والقهر على الإنسان، إظهاراً للسلطنة والقدرة، فتكون العبادة حينئذ حالة سلبية بامتياز، على مستوى العبد والمعبود.
فعلى مستوى العبد لا تعدو كونها تحجيماً لمقدراته وتحديداً لإمكاناته، والأمر واضح على مستوى المفارقة العرفية، التي تميز بين العبد المملوك لسيده وبين السيد الحر.
أما على مستوى المعبود، فإنها تكشف وبشكل ما، عن حاجته ونقصه؛ لوجود حاجة دعته إلى فرض الهيمنة والسلطنة، ومصادرة حرية الإنسان. وكل هذه المعاني مرفوضة بالضرورة.
أما القول الآخر بأن الإنسان بذاته عبد لله تعالى، فإنه يرتكز على حقيقة الإنسان المخلوق، وهذا الوصف هو ذاته الذي يحقق معنى العبودية؛ فإذا تحقق الخلق، فلا يحتاج الأمر إلى مرحلة ثانية تتحقق فيها العبودية التكوينية، فالمخلوق معلق دوماً بخالقه، والموجود محتاج إلى موجده، بحيث يكون مُضطراً في بقائه إليه، وتلك العلقة الاضطرارية هي نفسها العبودية، فإذا كان الإنسان قد خلقه الله، فهو إذن لم يوجد نفسه، ولا هو يمدّها بطاقة البقاء، ولذلك فإنه موسوم بطابع (العبودية الذاتية)، النابعة من كيانه الطارئ الذي يملكه الله بقدرته وسلطانه، وقد وهبه للإنسان بكامل مشيئته، وسوف يأخذه منه متى أراد بكل قوة وسلطان، فأي عبد أشد عبودية، وأوسع رقاً من هذا الذي لا يملك خلقه، ولا يضمن لنفسه البقاء؟!
ومن خلال حقيقة مخلوقية الإنسان ومملوكيته لله تعالى تتحقق طبيعة (المحكومية) الشاملة للإنسان، بحيث يفرض عليه العقل والضمير أن يخضع لله في كل شؤونه، وألا يعمل إلا بما يوحيه إليه سبحانه؛ لأن مجرد تصور (المالكية الإلهية)، و(العبودية البشرية)، كاف لإيحاء فكرة العبادة والخضوع أمام الله تعالى، إذ الفكرة هذه ليست إلاّ تعبيراً عن تلك الحقيقة.
ومن هنا نفهم العبودية التشريعية على انها تعبير إرادي عن العبودية التكوينية، وهذا الانسجام بين العبادة في التشريع والعبادة في التكوين، هو السبب الذي يجعل الإنسان في تكامله منسجماً مع كل الوجود، فإذا كان الإنسان في واقع كيانه عبداً لله، تكون الحرية حينئذ موهبة ومنّة إلهية، تطوَّل الله بها على العباد.
والحرية بهذا الفهم لا يمكن أن تكون تأسيساً لخيارات تبتعد عن حقيقة العبودية؛ فالحد المشترك، الذي يجمع بين كيان الإنسان المضطر في عبادته لله وبين الحرية، هي المسؤولية، والمسؤولية تعني أن تتحرك الحرية فيما ينسجم مع الطبيعة التكوينية للإنسان؛ لأن الحرية ليست مطلق الترجيح بين الخيارات، وإنما الحرية هي ترجيح الأصلح الذي ينسجم مع طبيعة الإنسان العابد بكيانه لله، وإلا تكون الحرية عقبة حقيقية في مسيرة الإنسان التكاملية؛ لأن بإمكان الإنسان أن يختار بحريته السير عكس اتجاه السنن الكونية.
صحيح إن الإنسان حر في أن يكون عبداً أو لا يكون، أي يخضع بحريته كما هو خاضع بكينونته، أو يتمرد على هذه الطبيعة، ولكنه مسؤول، فالعبادة على مستوى التشريع، هي نوع من الإقرار بكونه مخلوقاً، وهذه الحقيقة هي بداية الطريق، لسعي الإنسان نحو الله الخالق.
وبهذا بدأنا نقترب من معرفة حكمة العبادة، فإذا بدأنا بالآية القرآنية: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، وجدنا أن هناك مقابلة بين كلمة الخلق وكلمة العبادة، (خلقت .. يعبدون) أي أن العبادة جاءت كنتيجة للخلق، وعليه إذا عرفنا عمق معنى كلمة الخلق نعرف عمق معنى كلمة العبادة، وذلك لأن العبادة جاءت كنتيجة طبيعة لخلق الإنسان، فمتى ما كان هناك خلق، كانت هناك عبادة، فكأن العبادة لازم ذاتي لا تنفك عن الخلق، ومن المعلوم أن كلمة الخلق لها معانٍ، فأي معنى من معاني الخلق يمكن أن يقابل مفهوم العبادة، أو يحقق مفهوم العبادة؟
هنالك ثلاث معانٍ للخلق، وهي:
المعنى الأول: أن الإنسان مخلوق يعني أن له حقيقة واقعية وليس وهماً أو خيالاً، بخلاف المدارس السفسطائية والمثالية التي شككت في حقيقته، فالموجود حقيقة متمثلة في الخارج، وأقرب طريق إلى معرفته هو التنبه إلى واقع وجوده، والاعتراف بأن للإنسان كياناً وحقيقة، وهو بداية تأسيس قيم حياتية تؤكد حق الإنسان في الوجود.
المعنى الثاني: أن قولنا إن الإنسان مخلوق يعني أن وجوده قائم بالغير وليس بالذات، مما يعنى أن وجوده حقيقة طارئة، تحتاج دوماً في وجودها إلى الموجد.
المعنى الثالث: إن الإنسان مخلوق يعني أنه كائن ناقص يعيش حالة من الضعف والعجز، قال تعالى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)، وشعور الإنسان بالضعف والفقر والحاجة، هو الذي يدفعه للسعي لإكمال ذلك النقص واستدراك ذلك العجز، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالجو إلى من اوجده وخلقه من عدم؛ لأن الذي خلقه من لا شيء، قادر على أن يزيده كمالاً، ويبارك له في قدراته: (وَاسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)، والطريق إلى إكمال النقص هو الرجوع إلى الله تعالى، والطلب منه والتقرب إليه سبحانه (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، وهنا ربط واضح بين الدعاء والعبادة، وبين طلب الحاجة والاستجابة، والحاجة دليل النقص، والاستجابة إكمال للنقص.
وكل هذه المعاني تحقق مفهوم الخلق (وما خلقت)، فيمكن أن يقال: الخلق هو هذا الذي تراه ماثلاً أمامك، أو: الخلق هو الحقيقة التي تحتاج إلى خالق، أو: الخلق هو الناقص الذي بإمكانه أن يتكامل.
بعد أن نحقق هذه المعاني، نجد أن المعنى المقابل للعبادة هو المعنى الثالث، وهو أن الموجود قابل للنمو والتكامل، فتصبح حقيقة العبادة: تكامل الإنسان والعروج به في مدارج الكمال، وهذا سر دعاء الأنبياء والرسل للعبادة، لأنها الطريق الذي يحقق للإنسان تكامله، بعد ربطه بالله مصدر كل كمال.
فمعرفة الله سبحانه تعني معرفة الأسماء التي هي عناوين الكمال، فمن اسم العليم تتحقق قيمة العلم، ومن اسم القدير تتحقق قيمة القدرة، ومن اسم الرحيم تتحقق قيمة الرحمة، ومن اسم الكريم تتحقق قيمة الكرم ... وهكذا يتكامل الإنسان عبر هذه القيم، فالسماء الله الحسنى هي الطريق الذي يحقق العبادة قال تعالى: (وَللهِ الأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها).
وبذلك، تصبح غاية العبادة هي التكامل، الذي يسعى إليه الإنسان، فعروج الإنسان إلى مدارج الكمال لا يتحقق إلا من خلال تقرب الإنسان لله مصدر كل كمال، فعندما يتخلق الإنسان بأخلاق الله تعالى سوف يكون عليماً قديراً رحيماً حكيماً ودوداً محسناً وهكذا عبر أسماء الله الحسنى يرتقي الإنسان مكاناً علياً.
اترك تعليق