لماذا حبس الله يونس في بطن الحوت؟

: السيد رعد المرسومي

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته:  

وردَ في ذلكَ أخبارٌ مختلفةٌ جمعَها غيرُ واحدٍ مِن عُلمائِنا ومفسّرينا عندَ تعرّضِهم لهذهِ الآيةِ، فنوردُ مِن هذهِ الأخبارِ بحسبِ ما يقتضيهِ البحثُ بالإستنادِ إلى ما جمعَه المُفسّرُ الكبيرُ الميرزا محمّد المشهديّ في كتابه النّفيس (تفسيرُ كنزِ الدّقائق: ج8/ص470 وما بعدَها)، فمنها:  

في عيونِ أخبارِ الرّضا (ع) (1/160) بإسناده إلى عليٍّ بنِ محمّدٍ بنِ الجهم قال : حضرتُ مجلسَ المأمون وعندَه الرّضا - عليه السّلام . فقالَ له المأمون: يا ابنَ رسولِ اللَّه ، أليسَ مِن قولكَ أنّ الأنبياءَ معصومونَ ؟ قالَ : بلى . قالَ : فما معنى قولِ اللَّه - عزّ وجلّ - : «وذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ » . فقالَ الرّضا - عليه السّلام -: ذاكَ يونسُ بنُ متّى - عليه السّلام . « ذَهَبَ مُغاضِباً » لقومه « فَظَنَّ » بمعنى : إستيقنَ « أَن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ » « ، أي : لَن نُضيّقَ عليه رزقَه - ومنه قولُ اللَّه - عزّ وجلّ - : وأَمَّا إِذا مَا ابتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ ، أي : ضيّق عليه وقتّر « فَنادى فِي الظُّلُماتِ » ، أي : ظلمة اللَّيلِ ، وظلمة البحرِ ، وظلمة بطنِ الحوتِ « أَن لا إِلهً إِلَّا أَنتَ سُبحانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » بتركي مثلَ هذهِ العبادةِ الَّتي قَد فرّغتني لها في بطنِ الحوتِ . فاستجابَ اللَّهُ ، [ وقالَ ] - عزّ وجلّ - : فَلَولا أَنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطنِهِ إِلى يَومِ يُبعَثُونَ ( 2 ) . فقالَ المأمونُ : للَّهِ درّكَ يا أبا الحسن ! 

وفي تفسيرِ عليٍّ بن إبراهيم (2/74): وقولُه : « فَظَنَّ أَن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ » قالَ : أنزلَه اللَّهُ على أشدّ الأمرينِ ، وظنّ بهِ أشدّ الظَّنّ . وقالَ : إنّ جبرئيل - عليهِ السّلام - إستثنى في هلاكِ قومِ يونس ، ولم يسمعهُ يونسُ. قلتُ : ما كانَ حالُ يونسَ لمّا ظنّ أنّ اللَّهَ لن يقدرَ عليه ؟ قالَ : كانَ مِن أمرٍ شديد . قلتُ : وما كانَ سببُه حتّى ظنّ أنّ اللَّهَ لن يقدرَ عليه قالَ : وكلَهُ اللَّه إلى نفسِه طرفةَ عينٍ. قال: وحدّثني أبي ، عَن إبنِ أبي عُمير ، عَن عبدِ اللَّه بنِ سنان، عن أبي عبدِ اللَّه - عليه السّلام - قالَ : كانَ رسولُ اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وآله - في بيتِ أمّ سلمةَ في ليلتِها . ففقدَتهُ منَ الفراشِ . فدخلها مِن ذلكَ ما يدخلُ النّساءَ . فقامَت تطلبُه في جوانبِ البيتِ ، حتّى إنتهَت إليه ، وهو في جانبٍ منَ البيتِ ، قائمٌ رافعٌ يديه يبكي، وهوَ يقولُ: اللَّهمّ ، لا تنزِع منّي صالحَ ما أعطيتَني أبداً. اللَّهمّ، لا تُشمِت بي عدوّاً، ولا حاسداً أبداً. اللَّهمّ ، لا تردّني في سوءٍ إستنقذتني منهُ أبداً. اللَّهمّ ولا تكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ أبداً. قالَ : فانصرفَت أمّ سلمةَ تبكي ، حتّى إنصرفَ رسولُ اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وآله - لبكائها . فقالَ لها : ما يبكيكِ يا أمّ سلمة ؟ قالت : بأبي أنتَ وأمّي يا رسولَ اللَّه ! ولمَ لا أبكي ! ؟ وأنتَ بالمكانِ الَّذي أنتَ بهِ منَ اللَّه - وقد غفرَ اللَّهُ لكَ ما تقدّمَ مِن ذنبكَ وما تأخّرَ - فتسألهُ أن لا يُشمتَ بكَ عدوّاً أبداً [ ولا حاسداً ] ! وأن لا يرُدّكَ في سوءٍ إستنقذكَ منهُ أبداً ، وأن لا ينزعَ منكَ صالحَ ما أعطاك أبداً، وأن لا يكلكَ إلى نفسكَ طرفةَ عينٍ أبداً ، فقالَ : يا أمّ سلمة ، وما يؤمنُني وإنّما وكلَ اللَّهُ يونسَ بنَ متّى إلى نفسه طرفةَ عينٍ ، فكانَ منه ما كان . 

وفي روايةِ أبي الجارود عن أبي جعفرٍ - عليه السّلام - في قوله : « وذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغاضِباً» يقولُ : مِن أعمالِ قومه . « فَظَنَّ أَن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ » . يقولُ : ظنّ أن لن يُعاقبَ بما صنع .

وفي تفسيرِ عليٍّ بن إبراهيم أيضاً (1/317): حدّثني أبي ، عن إبنِ أبي عُمير ، عن جميلٍ قال: قالَ أبو عبدِ اللَّه - عليه السّلام - : ما ردّ اللَّهُ العذابَ إلَّا عَن قومِ يونسَ . فكانَ يونسُ يدعوهم إلى الإسلامِ ، فيأبونَ ذلكَ . فهمّ أن يدعو عليهم . وكانَ فيهم رجلانَ عابدٌ وعالمٌ . وكانَ إسمُ أحدِهما مليخا، والآخرُ إسمه روبيل . وكانَ العابدُ يشيرُ على يونس بالدّعاء عليهم . وكانَ العالمُ ينهاه ويقولُ : لا تدعُ عليهم ، فإنّ اللَّه يستجيبُ لك ، ولا يحبُّ هلاكَ عبادِه . فقبلَ قولَ العابدِ، ولم يقبَل منَ العالمِ . فدعا عليهم . فأوحى اللَّهُ إليه يأتيهم العذابُ فيه سنةَ كذا ، في شهرِ كذا ، في يومِ كذا. فلمّا قرُبَ الوقتُ ، خرجَ يونسُ مِن بينِهم مع العابدِ، وبقيَ العالمُ فيها. فلمّا كانَ اليومُ الَّذي نزلَ العذاب ، فقالَ العالمُ لهم : [ يا قومِ ] إفزعوا إلى اللَّه ، فلعلَّهُ يرحمُكم ، ويردّ العذابَ عنكم . فقالوا : كيفَ نصنع ؟ فقالَ : إجتمعوا واخرجوا إلى المفازةِ . وفرّقوا بينَ النّساء والأولاد ، وبينَ الإبلِ وأولادها ، وبينَ البقرِ وأولادها ، وبينَ الغنمِ وأولادها . ثمّ إبكوا وادعوا . فذهبوا وفعلوا ذلكَ، وضجّوا وبكوا . فرحمَهُم اللَّه ، وصرفَ عنهُم العذاب . 

[ وفرّق العذّابَ ] على الجبالِ ، وقد كانَ نزلَ وقرُبَ منهم . 

فأقبل يونسُ لينظرَ كيفَ أهلكَهُم اللَّه . فرأى الزّارعينَ يزرعونَ في أرضِهم .

فقالَ لهم : ما فعلَ قومُ يونسَ ؟ قالوا لهُ - ولم يعرفوه - : إنّ يونسَ دعا عليهم ، فاستجابَ اللَّهُ له ونزلَ العذابُ عليهم . فاجتمعوا وبكوا ودعوا ، فرحمَهُم اللَّه . وصرفَ ذلكَ عنهم ، وفرّقَ العذابَ على الجبالِ . فهُم إذا يطلبونَ يونسَ ليؤمنوا به . فغضبَ [ يونسُ ]، ومرّ على وجهِه مُغاضباً للَّهِ، كما حكى اللَّهُ عنه، « فَنادى فِي الظُّلُماتِ » : في الظَّلمةِ الشّديدةِ المُتكاثفة . أو : ظلماتِ بطنِ الحوتِ والبحرِ واللَّيلِ . « أَن لا إِلهً إِلَّا أَنتَ » : بأن لا إلهَ إلَّا أنتَ . « سُبحانَكَ » أن يُعجزكَ شيءٌ «إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» لنفسي ، بالمُبادرةِ إلى المُهاجرة. 

وفي تفسيرِ العيّاشيّ (2/129) عن أبي عبيدةَ الحذّاءِ، عَن أبي جعفرٍ - عليه السّلام - [ قالَ سمعتُه يقول : وجدنا في بعضِ ] [ كتبِ أميرِ المؤمنينَ - عليه السّلام - ] قالَ : حدّثني رسولُ اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وآله -  أنّ جبرئيل - عليه السّلام - حدّثه أنّ يونس بن متّى - عليه السّلام - بعثه اللَّهُ إلى قومِه - وذكرَ حديثاً طويلاً يذكرُ فيه ما فعلَ قومُ يونسَ ، وخروجَ يونسَ وتنوخا العابدِ مِن بينِهم ، ونزولَ العذابِ عليهم وكشفِه عنهم. وفيهِ: فلمّا رأى قومُ يونسَ أنّ العذابَ قد صُرفَ عنهم ، هبطوا إلى منازلِهم من رؤوسِ الجبالِ، وضمّوا إليهم نساءَهم وأولادَهم وأموالَهم ، وحمدوا اللَّهَ على ما صرفَ عنهُم . وأصبحَ يونسُ - عليه السّلام - وتنوخا يومَ الخميسِ في موضعهما الَّذي ( 8 ) كانا فيه ، لا يشُكّانِ أنّ العذابَ قد نزلَ بهم وأهلكَهُم جميعاً، لمّا خفيَت أصواتُهم عنهما . فأقبلا ناحيةَ القريةِ يومَ الخميسِ معَ [ طلوعِ ] الشّمسِ ينظرانِ إلى ما صارَ إليهِ القوم . فلمّا دنوا منَ القومِ واستقبلَهم الحطَّابونَ والحمّارةُ والرّعاةُ بأغنامِهم، ونظروا إلى أهلِ القريةِ مُطمئنّينَ ، قالَ يونسُ لتنوخا : يا تنوخا ! كذّبني الوحي ، وكذبتُ وعدي لقومي . لا وعزّة ربّي ، لا يرونَ لي وجهاً أبداً بعدَ ما كذّبني الوحي . فانطلقَ يونسُ هارباً على وجهِه ، مُغاضباً لربِّه ، ناحيةَ بحرِ إيلة متنكّراً، فراراً مِن أن يراهُ أحدٌ مِن قومِه فيقولُ له : يا كذّاب ! فلذلكَ قالَ [ اللَّه ] : « وذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ » (الآيةُ) . ورجعَ تنوخا إلى القريةِ. 

وفي تفسيرِ العيّاشيّ (2/136) عن الثّماليّ، عَن أبي جعفرٍ - عليه السّلام - قالَ : إنّ يونسَ لمّا آذاهُ قومُه ، دعا اللَّهَ عليهم . فأصبحوا أوّلَ يومٍ، ووجوهُهم صفرٌ . وأصبحوا اليومَ الثّاني ، ووجوهُهم سودٌ . وقالَ : وكانَ اللَّهُ واعدَهم أن يأتيهم العذابُ . حتّى نالوه برماحِهم . ففرّقوا بينَ النّساءِ وأولادهنّ ، والبقرِ وأولادها ، ولبسوا المسوحَ والصّوفَ ، ووضعوا الحبالَ في أعناقِهم ، والرّمادَ على رؤوسِهم ، وضجّوا ضجّةً واحدةً إلى ربّهم ، وقالوا : آمنّا بإلهِ يونس . 

قالَ : فصرفَ اللَّهُ العذابَ عنهم إلى جبالِ آمد . قالَ : وأصبحَ يونسُ وهوَ يظنّ أنّهم هلكوا ، فوجدَهم في عافيةٍ . فغضبَ ، وخرجَ - كما قالَ اللَّهُ - مغاضباً .

وفي تفسير العيّاشيّ (2/137) عن معمّر قالَ : قالَ أبو الحسنِ الرّضا - عليه السّلام - : إنّ يونسَ لمّا أمرَه اللَّهُ بما أمرَه ، فأعلمَ قومَه ، فأظلَّهم العذابُ . ففرّقوا بينَهم وبينَ أولادِهم ، [وبينَ الإبلِ وأولادِها ] وبينَ البقرِ وأولادِها [ وبينَ الغنمِ وأولادها ]. ثمَّ عجوّا إلى اللَّهِ، وضجّوا . فكفَّ اللَّهُ العذابَ عنهم، فذهبَ يونسُ مغاضباً . 

وفي كتابِ المناقبِ لابنِ شهرآشوب (4/138) قالَ: وفي حديثِ أبي حمزةَ الثّماليّ أنّه دخلَ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمر على زينِ العابدينَ - عليه السّلام - وقالَ له : يا ابنَ الحُسين أنتَ الَّذي تقول: «إنّ يونسَ بن متّى إنّما لقيَ منَ الحوتِ ما لقيَ لأنّهُ عُرضَت عليهِ ولايةُ جدّي ، فتوقّفَ عندَها »؟ قالَ : بلى ، ثكلتكَ أمّكَ! قالَ: فأرني آيةَ ذلكَ ، إن كُنتَ من الصّادقينَ فأمرَ بشدِّ عينيهِ بعصابةٍ، وعينيّ بعصابةٍ . ثمّ أمرَ بعدَ ساعةٍ بفتحِ أعيُننا . فإذا نحنُ على شاطئِ البحرِ تضربُ أمواجه.

فمكثَ في بطني أربعينَ صباحاً يطوفُ معي البحارَ في ظلماتِ ثلاثٍ يُنادي أنّهُ « لا إِلهَ إِلَّا أَنتَ، سُبحانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » . قد قبلتُ ولايةَ عليٍّ بنِ أبي طالب - عليهِ السّلام - والأئمّةِ الرّاشدينَ مِن ولدِه - عليهم السّلام . فلمّا أن آمنَ بولايتِكُم ، أمرني ربّي ، فقذفتُه على ساحلِ البحر . فقالَ زينُ العابدينَ - عليهِ السّلام - : إرجع أيّها الحوتُ إلى وكرِك. فرجعَ الحوتُ واستوى الماءُ. هذا ما لدينا عَن سببِ حبسِ يونسَ عليه السّلام في بطنِ الحوتِ، ودمتُم سالِمين.