ما سببُ تكرارِ آيةِ : { فبأيّ آلاءِ ربّكما تكذّبان } وعددُها 31 آيةً في سورةِ الرّحمن ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
لعلَّ الوجهَ في ذلكَ هوَ كثرةُ التّكذيبِ بربِّ النّعمةِ ، الموجبِ لتكذيبِ النّعمِ ، فكرّرَ الآيةَ مُوبِّخاً عبادَه المُنكرينَ ، فحسُنَ تكرارُ التّوبيخِ والعتابِ ، بعدَ تقريرِ النّعمِ ، في مُقابلِ كثرةِ التّكذيب .
وذكرَ السّيّدُ المُرتضى وجهاً فقالَ : فأمّا التّكرارُ في سورةِ الرّحمنِ فإنّما حسُنَ للتّقريرِ بالنّعمِ المُختلفةِ المُعدّدةِ ، فكلّما ذكرَ نعمةً أنعمَ بها ، قرّرَ عليها ووبّخَ على التّكذيبِ بها ، كما يقولُ الرّجلُ لغيرِه ألَم أحسِن إليكَ بأن خوّلتُكَ الأموالَ؟ ألم أحسِن إليكَ بأن خلّصتُكَ منَ المكارهِ؟ ألم أحسن إليكَ بأن فعلتُ بكَ كذا وكذا؟ فيحسنُ منهُ التّكريرُ لاختلافِ ما يُقرّرُه به وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ وأشعارِهم . . قالَ مهلهلُ بنُ ربيعةَ يرثي أخاهُ كليباً :
وَهَمَّامَ بنَ مُرَّة َ قَد تَرَكنَا
عليهِ القشعمانِ منَ النسورِ
ينوءُ بصدرهِ وَ الرمحُ فيهِ
وَيَخلُجُهُ خَدَبٌ كَالبَعِيرِ
قَتِيلٌ مَا قَتِيلُ المَرءِ عَمروٌ
وَجَسَّاسُ بنُ مُرَّة َ ذُو ضَرِيرِ
كَأَنَّ التَّابِعَ المِسكِينَ فِيهَا
أَجِيرٌ فِي حُدَابَاتِ الوَقِيرِ
عَلَى أَن لَيسَ عَدلاً مِن كُلَيبٍ
إِذَا خَافَ المُغَارُ مِنَ المُغِيرِ
عَلَى أَن لَيسَ عَدلاً مِن كُلَيبٍ
إِذَا طُرِدَ اليَتِيمُ عَنِ الجَزُورِ
عَلَى أَن لَيسَ عَدلاً مِن كُلَيبٍ
إذا ما ضيمَ جارُ المستجير
وقالت ليلى الأخيلية ترثي توبةَ بنَ الحمير :
ونِعمَ الفَتى يا توبَ كُنتَ ولَم تَكُن
لتُسبقَ يوماً كُنتَ فيه تُحاوِلُ
ونِعمَ الفَتى يا توبَ كنتَ لخائفٍ
أتاكَ لكي يُحمى ونِعمَ المجاملُ
ونِعمَ الفَتى يا توبَ جاراً وصاحِباً
ونِعمَ الفَتى يا توبَ حين تُفاضِلُ
لَعَمري لأَنتَ المَرءُ أَبكي لفَقدِهِ
بِجِدٍّ ولَو لامَت عَلَيهِ العَواذِلُ
لَعَمري لأَنتَ المَرءُ أبكي لفَقدِهِ
ويكثُرُ تَسهِيدي لهُ لا أُوائِلُ
لَعَمري لأنتَ المَرءُ أَبكِي لفَقدِهِ
ولو لامَ فيه ناقصُ الرأيِ جاهِلُ
لَعَمري لأَنتَ المَرءُ أَبكي لِفَقدِهِ
إذا كثُرَت بالمُلحمينَ التَّلاتِلُ
أبى لَكَ ذمَّ الناسِ يا توبَ كُلَّما
ذُكِرتَ أمورٌ مُحكَماتٌ كوامِلُ
أبى لكَ ذمَّ الناسِ يا توبَ كُلَّما
ذُكِرتَ سماحٌ حِينَ تأوِي الأراملُ
فلا يُبعِدَنكَ اللّهُ يا تَوبَ إنَّما
لقِيتَ حِمامَ الموتِ والموتُ عاجِلُ
ولا يُبعِدَنك اللّهُ يا تَوبَ إنّها
كذاكَ المَنايا عاجِلاتٌ وآجِلُ
ولا يُبعِدَنكَ اللّهُ يا تَوبَ والتَقَت
عَلَيكَ الغوادي المُدجَناتُ الهواطِلُ
فخرجَت في هذهِ الأبياتِ مِن تكرارٍ إلى تكرار لاختلافِ المعاني التي عدّدتها على نحوِ ما ذكرناه . .
وقالَ الحارثُ بنُ عبادٍ وكانَ قاضي العرب :
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي
لَقِحَت حَربُ وائِلٍ عَن حِيالِ
ثمَّ كرّر قولَه قرِّبا مربطَ النّعامةِ في أبياتٍ كثيرةٍ منَ القصيدةِ للمعنى الذي ذكرناه . .
وقالَت إبنةُ عمٍّ للنّعمانِ بنِ بشيرٍ ترثي زوجَها
وحدّثني أصحابُه أنَّ مالكاً * أقامَ ونادى صحبَه برحيل
وحدّثني أصحابُه أنَّ مالكاً * ضَروبٌ بنصلِ السّيفِ غيرُ نكول
وحدّثني أصحابُه أنَّ مالكاً * خفيفٌ على الحداثِ غيرُ ثقيل
وحدّثني أصحابُه أنَّ مالكاً * جوادٌ بما في الرّحلِ غيرُ بخيل
وحدّثني أصحابُه أنَّ مالكاً * صرومٌ كماضي الشّفرتينِ صقيل
وهذا المعنى أكثرُ مِن أن نُحصيهِ وهذا هوَ الجوابُ عنِ التّكرارِ في سورةِ المُرسلاتِ بقولِه عزَّ وجلَّ ( ويلٌ يومئذٍ للمُكذّبينَ ) . .
فإن قيلَ : إذا كانَ الذي حسّنَ التّكرارَ في سورةِ الرّحمنِ ما عدّدهُ منَ الآياتِ ومِن نعمِه فقَد عدّد في جملةِ ذلكَ ما ليسَ بنعمةٍ وهوَ قولُه ( يُرسل عليكما شواظٌ مِن نارٍ ونحاسٍ فلا تنتصران ) وقولُه ( هذهِ جهنّمُ التي يُكذّبُ بها المُجرمونَ يطوفونَ بينَها وبينَ حميمٍ آن ) . . فكيفَ يحسنُ أن يقولَ بعقبِ هذا ( فبأيّ آلاءِ ربّكما تكذّبان ) وليسَ هذا منَ الآلاءِ والنّعم ؟
قلنا : الوجهُ في ذلكَ أنَّ فعلَ العقابِ وإن لم يكُن نعمةً فذكرُه ووصفُه والإنذارُ به مِن أكبرِ النّعم لأنَّ في ذلكَ زجراً عمّا يستحقُّ بهِ العقابَ وبعثاً على ما يستحقُّ بهِ الثّوابَ فإنّما أشارَ تعالى بقولِه فبأيّ آلاءِ ربّكُما تكذّبانِ بعدَ ذكرِ جهنّمَ والعذابَ فيها إلى نعمةٍ يصفُها والإنذارَ بعقابِها وهذا ممَّا لا شُبهةَ في كونِه نعمةً . (أمالي المرتضى : 1 / 86) .
وقالَ الشّيخُ الطّوسيُّ : وإنّما كُرّرَت هذهِ الآيةُ ، لأنّهُ تقريرٌ بالنّعمةِ عندَ ذكرِها على التّفصيلِ نعمةً نعمة . كأنّهُ قيلَ بأيّ هذهِ الآلاءِ تُكذّبانِ . ثمَّ ذكرَت آلاءً أخرى فاقتضَت منَ التّذكيرِ والتّقريرِ بها ما إقتضَت الأولى ليتأمّلَ كلُّ واحدٍ في نفسِها وفيما تقتضيهِ صفتُها مِن حقيقتِها التي تتفصّلُ بها مِن غيرِها . (التّبيانُ في تفسيرِ القرآنِ للطّوسي : 9 / 468) .
وقالَ الشّيخُ مُغنية : أمّا تعدّدُ قولِه تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان } فهوَ لتعدّدِ الأسبابِ الموجبةِ ، وهيَ النّعمُ المسؤولُ عنها وإختلافُ أنواعِها ، تماماً كما تقولُ لمَن تراكمَت عليهِ أياديكَ : لقد أنقذتُكَ مِن يدِ عدوّكَ بعدَ أن تمكّنَ منكَ ، وأعطيتُكَ الأموالَ ، فبأيّهما تكذّب ؟ وعلَّمتُ أولادكَ ، وبنيتُ لكَ داراً ، فبأيّهما تكذّبُ ؟ . - إذن - فلا تكرارَ ولا تأكيدَ لشيءٍ واحد . (التّفسيرُ الكاشف : 7 / 207) .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق