إمكانية حرب نووية شاملة ينسف فكرة المهدوية..
مقدمة
كل نظرية أو فكرة تمتلك من الجدارة بمقدار ما تقدمه من معالجات داخل نظامها المعرفي، والدراسة النقدية لهذه الأفكار والنظريات تستوجب مقاربتها بحسب ما تقدمه من مساهمة داخل ذلك النظام، فعزل الأفكار ومحاولة فهمها بعيداً عن الدور الوظيفي الذي تحققه ضمن المشروع العام، تعد منهجية مشوهة تتعمد تشويه وحرف الحقائق عن مسارها الطبيعي، وفكرة المهدوية فكرة تمتلك مقومات وجودها وبقاءها داخل المشروع الإسلامي، فمحاولة مقاربتها أو فهمها بعيداً عن الرؤية العامة للمشروع الإسلامي يجعلها غير واضحة وعرضة للإشكالات الساذجة، فقضية ظهور الامام المهدي وإقامة دولة العدل الكبرى حقيقة حتمية ضمن المشروع الإسلامي، والتشكيك فيها لابد أن يسبقه تشكيك في المشروع برمته، فإذا افترضانا مثلاً أن وقوع حرب نووية شاملة سوف ينسف فكرة المهدية، فان مثل هذه الفرضية لا يمكن تصورها إلا إذا سبقتها فرضيات أخرى، مثل افتراض أن حياة الإنسان وجدت عبثاً، وإن الحياة تسير خارج سلطة الله وهيمنته، حيث لا يمكن أن نفهم أن الله منح الانسان الحياة في الدنيا ثم يصبح الإنسان هو الذي يمتلك قرار انهاء هذه الحياة، فكون البشرية لها السلطة والقدرة على انهاء الحياة في الدنيا لا يكون إلا بعد عدم الاعتراف بالله ولا بحكمته في الخلق، ومن هنا سوف يعتمد المقال في معالجة الإشكال من خلال وضع فكرة المهدية ضمن سياقها المعرفي الذي تحدده الرؤية الإسلامية.
حاكمية العدل وحتمية الخلاص:
فكرة المخلص في عنوانها العام وفكرة المهدي ضمن العنوان الإسلامي، ليست فكرة عرضية جنح لها الخيال الإنساني لتسكين جراح المحرومين والمسحوقين، بل هي فكرة اصيلة تعبر عن عمق الوعي الإنساني الذي يتطلع لفهم الحياة وفلسفة وجود الإنسان فيها، فحياة الإنسان في كوكب الأرض حياة طارئة وجدت بعد أن لم تكن، والسؤال الذي يطرحه العقل المستوعب لهذه الحياة المستحدثة على هذا الكوكب، هو من أين جاء هذا الوجود الإنساني؟ وما هي الحِكمة من وجوده؟ وما هي الغاية التي يسعى إليها؟ والإجابة على تلك الأسئلة هي التي تحدد المنظور المعرفي الذي يتحرك في حدوده الإنسان، ولذلك كانت المجتمعات الإنسانية بمختلف تمثّلاتها في حالة من التطلع الدائم إلى إله خالق، حيث لم تخلوا حضارة من معبد باعتبار إن الإله هو التفسير المنطقي لهذه الحياة الطارئة، يقول المؤرخ وكاتب السير والناقد اليوناني الكبير بلوتارك الخيروني (46 – 120م) الذي كان له أثر في كثير من الفلاسفة والأدباء من بينهم شكسبير: " لقد وُجِدت في التاريخ مدنًا بلا حصون، ومدنًا بلا قصور، ومدنًا بلا مدارسَ، ولكن لم توجد أبدًا مدن بلا معابد[1]" .
ويقر بذلك أيضا الفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برجسون، والحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة1927 في كتابه (أصلا الأخلاق والدين): "لقد وُجدت وتوجد جماعاتٌ إنسانية بدون علومٍ، وفنونٍ، وفلسفاتٍ، ولكنَّه لم توجد قطّ جماعةٌ بغير ديانة"[2] .
يقول أرنست رينان [3] في تاريخ الأديان "إنَّ من الممكن أن يضمحلَّ كلُّ شيء نحبُّه، وأن تبطل حريَّة استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن يَنمحي التديُّن، بل سيبقى حجَّة ناطقة على بطلان المذهب المادِّي، الذي يريد أن يحصر الفكرَ الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضيَّة" [4]
والحقيقة الأخرى التي تفرضها الأسئلة الكبرى هو كون العدالة قيمة محورية لتوازن الحياة واستمرارها، فكان الإنسان عبر التاريخ مناصر للعدل مبغضاً للظلم وفي حالة من السعي الدائم لجعل العدل هو القيمة الحاكمة في الحياة، والإيمان بالمخلص يأتي في هذا السياق الذي ينظر للإنسان ضمن غاياته التي يحتمها وجوده الإنساني، فباستقراء التاريخ الديني والثقافي للإنسانية نجد أنّ مفهوم المخلّص ومبدأ الخلاص قاسم مشترك بين أكثر الحضارات، حتى لو اختلفوا في وصف ذلك المخلص إلا أن التطلع للعدل الذي يحققه يمثل قاسماً مشتركاً بين الجميع، والأديان بوصفها الاستجابة لتطلعات الإنسان لا يمكن أن تهمل ما تطمح إليه الإنسانية من حياة يحكمها العدل والخير في كل ابعادها وتفاصيلها.
ومن هنا فان فكرة المهدية ليست بدعة شيعية أو أسطورة خرافية نسجها الخيال الشعبي للمحرومين والمسحوقين في التاريخ تعويضاً عن واقعهم الرديء، بل هي فكرة نابعة من عمق الشعور الإنساني بضرورة انتصار الحق وغلبة العدل على الظلم، ومن هنا كان المهدي عقيدة عند جميع المسلمين بمختلف مذاهبهم وتوجهاتهم، حيث تضافرت النصوص النبوية وتواترت الاخبار بحتمية ظهوره، وما أثير حول هذا المعتقد من شبهات وما يثار كلّ يوم لا يصمد أمام تجذّر هذا المعتقد ورسوخه في الوعي الديني لجميع الفرق والمذاهب، ولا تمثل التباينات حول تفاصيل شخصه وكيفية ظهوره بين المذاهب إلا اختلافات على هامش المسألة دون المساس بجوهر القضية وجذرها العقائدي.
ومن هنا يمكننا القول إن المهدية ليست مجرد فكرة عابرة ارتسمت في اذهان البعض، وإنما هي من الضرورات التي قامت عليها فلسفة السماوات والأرض، وسنة إلهية حَكّمها الله وقدرها من قبل أن ينزل آدم إلى الأرض. وعليه فان الصراع بين الحق والباطل حقيقة لا يمكن تجاهلها، وبما أن الله وعد بان يكون النصر حليف الحق، فحينها لا يمكن التشكيك في ذلك اليوم الذي ينتصر فيه الحق وتعم العدالة جميع انحاء الأرض.
وإذا كان كل زمان فيه من يمثل جبهة الحق في قبال جبهة الباطل، وإذا كان الأنبياء والرسل يمثلون جبهة الحق في قبال ابليس واعوانه من طواغيت الأنس، فلابد أن يكون في زماننا هذا من يمثل الحق كل الحق في قبال الباطل كل الباطل، فكيف يتم الاعتراف بحياة ابليس على رأس جبهة الباطل ولا يتم الاعتراف بالمهدي الذي يكون في قباله؟ فالأرض لا يمكن أن تخلو من حجة لله قائم بالحق، وإمامة أهل البيت (عليه السلام) ليست إلا تأكيداً على هذه الحقيقة، والامام المهدي (عليه السلام) هو أخرهم الذي سوف يتحقق انتصار الحق على يديه، وحينها سوف تنكسر راية ابليس وتبدأ حياة جديدة للإنسانية ليس فيها فساد أو سفك دماء، ويعود الامر إلى أولياء الله وعباده الصالحون بزعامة الامام المهدي (عليه السلام)، هذا هو تدبير الله للإنسان وسنته الماضية في الحياة والتي لن تتبدل (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبديلًا) ولن تتحول (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا)، وعليه فإن حقائق الدين وضرورات العقل ومقتضيات الفطرة والوجدان تؤكدان على أن الأرض يرثها عباد الله الصالحين، فمهما فسد الإنسان ومهما تجبر لا يمكنه القضاء على الحياة على الأرض، فإذا لم يكن هو الذي اوجدها كيف يمكن أن نتصور أنه هو الذي يحكم بنهايتها؟
الحروب النووية والظهور المقدس:
يزعم البعض أن قيام حرب نووية تنسف فكرة المهدي المخلص، ونحن لا ندري وجهة العلاقة بين الحروب النووية وبين نسف فكرة المهدوية، إلا إذا كان من يتبنى ذلك يعيش حالة نفسية ظلامية تتشاءم من كل شيء حتى من قدرة الله في إقامة العدل على الأرض، وهذا خلاف طبيعة الإنسان وفطرته المتأملة دائماً في الخير والصلاح.
والأمر الذي يمكن تأكيده هو أن عقيدة المهدي من العقائد الراسخة عند المسلمين، والذي يؤكد على كونها من عقائدهم الاصلية توافر النصوص الشرعية التي تؤكد على ظهوره الحتمي، والذي لا يقبل نصوص الإسلام بوصفها حجة ملزمة لا يمكن مناقشته في قضية المهدي مالم يتم مناقشته أولاً حول الإسلام كدين واجب الاتباع عبر نصوصه، ولا يعني هذا أن الايمان بضرورة المخلص مجرد فكرة جاءت بها النصوص وتم فرضها على عقل الإنسان من دون وجود ما يؤكدها من عقل الإنسان وفطرته، فمن المعلوم أن الإنسان مفطور بطبعه على حب الكمال والجمال ويعشق القيم والمثال، كل ذلك يجعله في حالة من التطلع الدائم إلى ذلك اليوم الذي تتحقق فيه العدالة وتبلغ فيه الحياة كمالها الروحي والمادي؛ والسبب في ذلك أن وجود مثل هذا اليوم يمثل قمة ما يحلم به الإنسان ويرجوه، ومن هنا يصبح الإيمان بالمخلص قضية يفرضها التفكير المنطقي الذي يراعي الثوابت اليقينية، والذي يؤكد ذلك هو اهتمام الانساق الفلسفية الكبرى والمشاريع الإصلاحية بذلك اليوم الذي يتحقق فيه التوازن وتعم فيه العدالة، فحتى الفلسفات المادية المهتمة بالشأن السياسي والاجتماعي مثل الماركسية تحدثت عن ذلك اليوم الذي يتوقف فيه الصراع الطبقي وتشيع فيه المساوة بين جميع الطبقات؛ بل يمكننا الجزم بان البشرية بكل مشاربها تنشد اليوم الذي تكون فيه الحياة اكثر سلاماً وامناً وازدهاراً، وهو الامر الذي يفسر سعي الإنسان الحسيس وكفاحه المرير لتحقيق هذه الغاية، فإن كان ذلك مستحيلاً بطبعه لتجمدت الحياة وفقدت قيمتها، وعليه فإن الإيمان بالمخلص هو تعبير عن فطرة الإنسان التي تعشق الكمال، فكما تطلع الإنسان إلى السماء لكي تمده بالأنبياء والرسل فإنه مازال يتطلع إليها لتقيم له العدل، وعقيدة المهدي عند المسلمين تأتي في هذا السياق بوصفها بلورة حقيقية وواقعية لتلك الفطرة الإنسانية التي تعشق الكمال وتسعى لتحقيقه. والإنسان الذي يرى نفسه مستغنياً عن عون الله ومدده أو أنه مالك لزمام هذه الحياة ليس جاهلاً بالله وحده وإنما جاهلاً بطبيعة الإنسان وحقيقته، فبإمكان الإنسان أن يفسد في الأرض، ولكن ليس بإمكانه أن ينهي الحياة من على وجه الأرض، فإذا كان للباطل جولة فان للحق دولة، قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)
والإسلام بوصفه رسالة تهتم بتحقيق كمال الإنسان، لابد أن يكون اليوم الموعود من أوليات اهتمامها، ومن هنا يمكننا أن نتفهم التأكيد الشيعي على قضية الإمام المهدي (عج)، بوصفه المستقبل النهائي لتكاملية المسيرة الإسلامية، إذ كيف يمكن الحديث عن رسالة خاتمة دون الحديث عن مالاتها النهائية، وما تحققه للإنسان في الدنيا قبل الاخرة.
ومن ثم كيف يمكن أن نتصور حدوث حرب نووية تقضي على تمام الحياة البشرية؟ وكيف يمكن تفهم ذلك سياسياً وعسكرياً؟ بأن تقوم حرب نووية يدمر الجميع فيها الجميع ولا يبقى حتى الذين يمسكون بمفاتيح تلك الأسلحة وهم يتحصنون في الملاجئ المحمية حتى من القنابل النووية؟ وعليه فان قضية المهدي لا يمكن مواجهتها بالافتراضات الساذجة والأفكار الطفولية، فحتى لو سلمنا بأن المهدية مجرد فكرة فإن الأفكار لا تناقش بالافتراضات البعيدة وبالهواجس النفسية، فالمهدية فكرة راسخة برسوخ الأديان وبرسوخ رسالة الإنسان في الحياة، فلو لم يبق في الأرض غير رجلين فأحدهم هو الامام المهدي، ولو لم يبق من عمر الأرض إلا يوم لأطال الله ذلك اليوم حتى يظهر المهدي.
وفي الختام فأن فطرة الإنسان المتطلعة نحو الكمال هي التي تجعل الإنسان في حالة من الأمل الدائم بقدوم اليوم الذي يتحقق فيه كمال الإنسان فرداً وحضارة، وعليه يصبح الايمان بضرورة المخلص من الأصول التي يستمدها الإنسان من استعداده الفطري بانتصار الحق وهزيمة الباطل، ولولا ايمان الإنسان بان الانتصار النهائي حليف الحق لما وجد في نفسه الدافع لمواجهة الباطل ومبارزته.
اترك تعليق