هل يمكن أنْ تحلّ الهيومانية (Humanism) – الإنسانية – محلّ الدين فتكون بديلاً عنه؟ 

السؤال: هل يمكن أن تحل الهيومانية Humanism – الإنسانية – بديلاً عن الدين؟ هل يمكن أن يحيا الجنس البشري بلا دين؟ هل يمكن التأسيس للقيمة والمعرفة والغاية والأخلاق في غياب الدين؟

: اللجنة العلمية

تقرير الشبهة: 

إنّ هذه الشبهة تُثار بعنوان سؤال، مفاده: ما هي الضرورة لوجود الدين؟، ألا يمكن أنْ تحل الإنسانية والقيم الأخلاقية السامية للإنسانية بديلاً عن الدين؟

جواب الشبهة إجمالاً:

أولاً: نحن لا ننكر وجود بعض القيم الأخلاقية بفطرة الإنسان، غير أنّ هذا ليس كافياً لصيانة المنظومة القيمية للإنسانية من الإنهيار.

ثانياً: إنّ تضارب المصالح وحب النفس والأنا وغيرها، يحول دون ذلك.

ثالثاً: إنّ حاجة الإنسانية إلى الدين، هي مما تقتضيه فطرة الإنسان.

رابعاً: إنّ عقل الإنسان مهما تطور، يضل محدوداً، تحكمه الكثير من العوائق المادية.

جواب الشبهة بالتفصيل: 

أولاً: لا شك في وجود بعض القيم الأخلاقية لدى الإنسان بفطرته، دون أنْ يتعلمها من أحد، وإلى هذه الحقيقة أشارت الكثير من النصوص الشرعية، أذكر واحداً منها لتعزيز ما أقول، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (البقرة 257).

فالآية تتحدث عن الذين كفروا، وأنّ موالاتهم للطاغوت تُخرجهم من النور إلى الظلمات، فإذا كانوا كافرين فمِنْ أي نور يُخرَجوا؟ وهل يوجد لديهم نور وهم كافرون بالله؟ 

نعم إنه نور الفطرة الإهيّة التي ما فارقتْ أحداً ابداً.

غير أنّ عقل الإنسان الذي نوّره الله بكثير من المعلومات الفطرية يبقى عاجزاً عن تشخيص كل ما هو نافع له ولمجتمعه ولآخرته، لأنّ العقل ينقسم بلحاظ ما يتعلق به الإدراك: 

1- العقل النظري: وهو باختصار شديد، قوة مدركة، بمعنى أنّ وظيفته الإدراك فحسب، كإدراكه للكل أعظم من الجزء .

2- العقل العملي: وهو باختصار أشد، قوة محركة، وهو إدراك متأخر عن الأول، لأنّ التحرك لا يكون إلاّ بعد الإدراك لما هو بصدده .

إذا اتضح هذا فنقول: إنّ العقل العملي يجب أنْ يكون خارج المعادلة، لأنه لا علاقة له بالإدراكات، فحديثنا مع العقل النظري، وهنا نسأل هذا السؤال: ما هو مجال وحدود العقل النظري؟

ويجاب عنه: لا شك أنّ العقل النظري إذا حكم بشيء - مهما كان منشأه تجريبيا، ام تأمليا، ام بديهيا - فتارة يكون حكمه في مجال فروع الدين والأحكام الجزئية، وأُخرى يكون حكمه في مجال أُصول الدين والقضايا العقدية.

فان كان حكمه في المجال الأول بأنْ حَكَمَ بوجوب شيء مثلاً، فهل يمكن للعقل (النظري) أنْ يقطع بأنّ ما حَكَمَ به مطابق للواقع، وأنه يحتوي المصلحة له ولجميع أفراد المجتمع؟

لا أُريد أْن أستعجل الجواب على هذا السؤال، لأنني أرى من الضروري أنْ أُقدِّم مقدّمة هي في صلب ما نحن بصدد بيانه، ألا وهي (حدود العقل).

أقول: لو فرضنا أنّ العقل النظري أدرك كل ما له دخل في تشريع ذلك الحكم، أي أدرك ملاكات الحكم بتمامها، فهل يمكن للعقل النظري أنْ يصل إلى درجة القطع بأنّ ذلك الحكم الذي أدرك كلّ ملاكاته صالحاً له ولكل الإنسانية، ولا يتعارض مع أي حكم آخر، أم لا؟ ولماذا؟

الجواب بالنفي، لأنّ العقل سيجد نفسه عاجزاً عن الوصل إلى درجة القطع في هذا المضمار، والسبب بسيط، إذ أنه أدخل نفسه في مجال ليس هو من اختصاصه.

صحيح أنّ العقل وصل إلى إدراك كل ملاكات الحكم, بحيث أدرك المقتضي للحكم, والعلة, إلاّ أنّ الحكم الذي هو معلول للملاكات المدركة لا يمكن أنْ يصدر من العقل ما لم يخلو من الموانع, باعتبار أنّ الأحكام الشرعية هي أحكام ضمن منظومة  تشريعية متكاملة, وليس هي أحكام جزئية مبعثرة هنا وهناك لا ربط لأحدها بالآخر, بل الأحكام الشرعية منسجمة  فيما بينها,  بحيث لا يشكّل أحدها تضاداً وتمانعاً مع  الآخر, وهنا تُسكب العبرات, فنحن حتى لو سلّمنا بإدراك العقل لمقتضي الحكم, فلا نسلّم أنّ العقل بإمكانه أنْ يدرك أيضاً كل ما من شأنه  أن يشكّل مانعاً من هذا الحكم, لأنّ ذلك يقتضي أنْ يكون العقل النظري ملماً ومحيطاً بكل تفصيلات الشريعة المقدّسة, وهذا ضروري البطلان بالوجدان.

ولكي يكون المطلب أكثر وضوحاً، سأضرب مثالاً على ذلك من القرآن الكريم، ففي ثبوت حدِّ الزنا - والعياذ بالله - تتحدث الآية الكريمة بالآتي:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) 

هنا لو سُئِلَ العقل النظري ومدركاته عن كيفيّة ثبوت حدِّ الزنا، فإنه مهما بالغ ومهما احتاط في المسألة فسوف لن يصل إلى الحدّ الذي احتاط به الشارع في ثبوت الحدّ على الزاني، حيث اشترط العدد وهو أربعة، واشترط نوعية الشهود وهي اتصافهم بالعدالة، واشترط نوعية الشهادة وهي المشاهدة العيانيّة، كمشاهدة الميل في المكحلة، واشترط كيفية أداء الشهادة، إلى غير ذلك مما هو مذكور في المطولات الفقهية.

أقول: لو سألنا كل العقلاء - من أول الخليقة وإلى قيام الساعة - عن كيفية ثبوت حدِّ الزنا, لما قال واحد منهم بما قاله الله سبحانه في كتابه, وما ذاك إلاّ لأجل أنّ الأحكام الشرعيّة هي عبارة عن  منظومة مترابطة من الأحكام يؤثر بعضها بالآخر, وليس هي عبارة عن أحكام مبعثرة وغير مترابطة, إذ لو كانت كذلك لاكتفى الشارع بشاهدين, أو لعله حتى بواحد, ولمَا كان هنالك مِنْ داعي إلى  مزيد من الدقة والإحاطة التفصيليّة التامة بكل تفصيلات وتداخلات حادثة الزنا, ففي هذه المسألة وعلى سبيل المثال, نجد أنّ الشارع نظر إلى العقبات المترتبة على ثبوت حدِّ الزنا من حيث هي إشاعة للفاحشة في المجتمع المؤمن, ومن حيث هي مشكلة ستترتب عليها تبعات اجتماعية ومالية وروحية جسيمة, الأمر الذي اقتضى أنْ يحتاط الشارع في هذه المسالة بما لا يحتاط به العقل النظري, إذن فالإحاطة بكل الملاكات ومعارضاتها مما تعجز عنه عقول البشر.

إلى هنا أصبح الجواب واضحاً، فان مجال العقل النظري محدود بحدود عدم علمه وضحالة اطلاعه على الملاكات التي من المحتمل أنْ تشكّل تضاداً مع ملاكات الحكم الذي هو بصدده.

وإذا أدرك العقل بأنه محدود بهذه الحدود أدرك باليقين عجزه عن إصابة التشريعات والقوانين التي من شأنها أنْ تأخذ بيد الإنسانية إلى برّ الأمان.

أما أحكام العقل النظري في المجال العقدي، فهذه حجّة بلا كلام، وليس للشارع أن يخالفها، بل هنا لا يمكن أنْ نتصور المخالفة، فلو أدرك العقل النظري بدرجة القطع أنّ الخالق لا يمكن أنْ يكون مركّباً عندها يستحيل أن يصدِّق العقل بأي نقلٍ على خلافه، وعندها سيفهم العقل بأنّ المُراد من النقل ليس ما هو ظاهر، والمحصّلة النهائية لا قطع شرعي يعارض قطعاً عقلياً في مجال العقيدة.

ثانياً: لو أردنا أنْ نجعل الإنسانية بديلة عن الدين، ونعطيها دكة التشريع والحكم، فإلى أي مجتمع من المجتمعات سيُعطى هذا الحق؟، وهل هو مختص بمجموعة دون أُخرى؟ وأين الدليل على اختصاصه بمجموعة دون غيرها، أم أنه يحق لكل أحد أنْ يُشرِّع ما يحلوا له؟، ونتيجتها الفوضى والدمار.

وهل بَلَغَتْ اللإنسانية درجة مِنَ النزاهة والسمو الروحي والأخلاقي بحيث يمكنها أنْ تُشرِّع لصالح الإنسانية جمعاء، حتى وإن أضر التشريع بمشرعه؟، ماذا نسمي حق (الفيتوا) الموجود إلى يومنا هذا، وغيره من القوانين التي تعد نكسة في مسيرة الإنسانية!

ثالثاً: إنّ حاجة الناس إلى الدين حاجة فطرية، قد قامت الأدلة القاطعة على فطرية الدين.

خلاصة الجواب: 

1- لا ننكر وجود الفطرة السليمة لدى الإنسان، غير أنّ هذا لا يُمكنّه من أنْ يكون مُشرِّعاً.

2- إنّ الإنسان يدرك باليقين محدودية مدركاته، الأمر الذي يجعله عاجزاً أمام فهم الكثير من التشريعات، فضلاً عن تشريعها.

3- إنّ إعطاء حق التشريع بيد الإنسانية، يؤدي إلى دمار الإنسانية نفسها.