تزويجُ النّبيّ (ص) إبنتيهِ مِن عثمان
(من ارتضيتم دينه وخلقه فزوجوه) هل عثمان من ارتضى رسول الله خلقه فزوجه ربيباته؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
إنّ الرّسولَ (ص) أعظمُ شخصيّةٍ على وجهِ التّاريخِ، ودينُه خاتمةُ الأديانِ وأعظمُها على الإطلاقِ، وقد إتّبعَ خطواتٍ عديدةً ومختلفةً لنشرِ الدّينِ، وترغيبِ النّاسِ إلى الإسلامِ، لا يسعُ المقامُ لبيانِ التّفاصيلِ، ولكِن سنسلّطُ الضّوءَ قليلاً على ما يرتبطُ بالمقام.
مِن تلكَ الخُططِ التي إتّبعَها النّبي (ص) لنشرِ الإسلامِ وتخفيفِ كيدِ الكفرةِ والمُنافقينَ، هيَ قضيّةُ المُصاهراتِ، فصاهرَ الكُفّارَ والمُنافقينَ، فتزوّجَ فيهم، وزوّجَهم.
فزواجُ النّبيّ (ص) بهذا الكمِّ الهائلِ منَ النّساءِ لم يكُن رغبةً في النّكاحِ، فقد بقيَ سنواتٍ طويلةً في مكّةَ مع زوجةٍ واحدةٍ وهيَ أمُّ المؤمنينَ خديجةُ بنتُ خويلد (رض)، ولكنَّه بعدَ وفاتِها تعدّدَت نساؤه.
إحدى أسبابِ تعدّدِ زوجاتِه تأليفُ القبائلِ والأشخاص.
فمِن جهةٍ صاهرَ أبا سفيان رأسَ الكُفرِ والشّركِ، وتزوّجَ إبنتَه أمُّ حبيبةَ، وتزوّجَ عائشةَ إبنةَ أبي بكرٍ، وحفصةَ بنتَ عُمر بنِ الخطّاب، وغيرهن.
فعائشة مِن بني تيمٍ، وحفصةُ مِن بني عدي، وأمُّ سلمةَ (والتي هيَ خيرُ زوجاتِ النّبيّ (ص) بعدَ خديجةَ) مِن بني مخزومٍ، وسودةُ بنتُ زمعةَ مِن بني أسدٍ بنِ عبدِ العزى، وزينبُ بنتُ جحشٍ مِن بني أسدٍ وعدادُها مِن بني أميّة، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيان مِن بني أميّة، وميمونةُ بنتُ الحارثِ مِن بني هلالٍ، وصفيّةُ بنتُ حي مِن بني إسرائيل، وغيرُهنّ مِن بناتِ القبائل.
فزواجُه مِن أيّ بيتٍ لا يعني صلاحَ وطيبَ وإستقامةَ وإيمانَ ذلكَ البيتِ، أو ميلاً وإعجاباً بذلكَ البيتِ، أو البنتِ، فهذا بيتُ أبي سُفيان بيتُ الكفرِ والشّركِ، تزوّجَ رسولُ اللهِ (ص) مِن إبنتِه!
وكانَ بعضُ أزواجِ النّبي (ص) يؤذينَه، ولم يطلّقهنَّ لمصالحَ كانَت تقتضي ذلكَ، فقد روى مسلمٌ في صحيحِه بسندِه عَن عمرَ بنِ الخطّابِ قالَ لمّا إعتزلَ نبيُّ اللهِ (ص) نساءَه قالَ: دخلتُ المسجدَ فإذا النّاسُ ينكتونَ بالحصى ويقولونَ طلّقَ رسولُ اللهِ (ص) نساءَه وذلكَ قبلَ أن يؤمرنَ بالحجابِ فقالَ عُمر فقلتُ لأعلمنَّ ذلكَ اليومَ قالَ فدخلتُ على عائشةَ فقلتُ يا بنتَ أبي بكرٍ أقد بلغَ مِن شأنِك أن تؤذي رسولَ اللهِ (ص) ! فقالَت: مالي ومالَك يا إبنَ الخطّابِ عليكَ بعيبتِك! قالَ: فدخلتُ على حفصةَ بنتِ عُمر فقلتُ لها: يا حفصةُ أقد بلغَ مِن شأنِك أن تُؤذي رسولَ اللهِ (ص) واللهِ لقَد علمتُ أنَّ رسولَ اللهِ (ص) لا يحبُّكِ ولولا أنا لطلّقكِ رسولُ اللهِ (ص) فبكَت أشدَّ البُكاء ... (صحيحُ مسلم: 4 / 188).
فزواجُ المصلحةِ موجودٌ بكثرةٍ ولهُ شواهدُ كثيرةٌ على مرِّ التّاريخ.
في بعضِ الحالاتِ تحدثُ مصاهراتٌ بينَ قبيلتينِ لأجلِ إطفاءِ نارِ الحربِ بينَهما.
وفي بعضِ الأحيانِ تتزوّجُ قبيلةٌ ضعيفةٌ مِن قبيلةٍ قويّةٍ، لتقوّي ظهرَها بها، فتشكّلُ لها الحماية.
ومِن جهةٍ أخرى زوّجَ النّبيُّ (ص) العديدَ مِن بناتِه للكفّارِ والمُنافقينَ، رعايةً للمصالحِ، فقد زوّجَ إبنتَه زينبَ مِن أبي العاصِ بنِ الرّبيعِ، وكانَ في معركةِ بدرٍ في جيشِ المُشركينَ، إلّا أنّهُ أسلمَ مُتأخِّراً.
وزوّجَ إبنتيهِ رقيّةَ وأمَّ كلثوم مِن عُتبةَ وعُتيبةَ إبني أبي لهبٍ، فلمّا نزلَت سورةُ تبَّت يدا أبي لهبٍ، طلّقا زوجتيهما بأمرِ أبيهما.
فزوّجَ الرّسولُ (ص) إبنتَه رقيّةَ لعثمانَ بنِ عفان، وبعدَ شهادتِها زوجّهُ إبنتَه الأخرى أمّ كلثوم.
ولعلّ السّببَ في تزويجِه هوَ تأليفُ قلبِه، كما أنّ سببَ زواجِه مِن بنتِ أبي سفيان كذلك.
فالنّبيُّ (ص) زوّجَ بني أميّةَ ثلاثاً مِن بناتِه، وتزوّجَ منهُم أيضاً.
حيثُ إنّ بني أميّةَ كانوا يشكّلونَ ثقلاً كبيراً في المُشركينَ، ولِذا حاولَ (ص) تخفيفَ شرِّهم وكسرَ كيدِهم ولو على هذا المُستوى.
وبالجُملةِ: غاياتُ الزّواجِ والتزويجِ كثيرةٌ، فالزّواجُ قد يحصلُ بالرّغبةِ والمحبّةِ بينَ الطّرفينِ، وإرتضاءِ الأولياءِ أخلاقَ ودينَ الرّجلِ لابنتِهم، وقَد يحصلُ بالرّغبةِ في مالِ الطّرفِ المُقابلِ، وقد يحصلُ بالرّغبةِ في جاهِ وسُمعةِ الطّرفِ المُقابل، وقد يحصلُ بالرّغبةِ في قوّتِه والحصولِ على حمايتِه، وقد يحصلُ بالرّغبةِ في جمالِه، وقد يحصلُ لأجلِ وعدٍ صدرَ منهُ، ويريدُ سحبَ وعدِه فيُزوّجُه إبنتَه في مقابلِ سحبِ ذلكَ الوعدِ، وقد يحصلُ لمصالحَ أعلى مِن كلِّ هذهِ الغاياتِ كتأليفِ القلوبِ، وغيرِها منَ الغاياتِ الكثيرة.
والأنبياءُ يقدّمونَ المصالحَ العُليا للدينِ على مصالحِهم الشخصيّةِ والأسريّةِ، فالتّضحيةُ هيَ السّمةُ البارزةُ في سيرةِ الأنبياءِ، وهذا نبيُّ اللهِ لوط عرضَ بناته على قومِه ليتزوّجوا بهنّ، وهُم مبتلونَ بذلكَ المرضِ الذي صارَ سبباً لهلاكِهم: { قَالَ يَا قَومِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطهَرُ لَكُم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخزُونِ فِي ضَيفِي أَلَيسَ مِنكُم رَجُلٌ رَشِيدٌ } [هود 78] وكانَ عرضُ بناتِه عليهِم للزّواجِ بهنّ طلباً لإصلاحِهم، وردِّهم عَن ضلالتِهم.
وهكذا كانَ نبيُّنا (ص) قد يكونُ زوّجَ إبنتيهِ لعُثمانَ طلباً لإصلاحِه، أو لكفِّ شرِّه أو لتقليلِ شرِّه عن الإسلام.
ولا ننسى أنّ عثمانَ كانَ على ظاهرِ الاسلامِ، والمناكحُ جرَت عليهِ، لا على الإيمان.
وحالُ رُقيّةَ بنتِ النّبي (ص) حالُ آسيا بنتِ مزاحم زوجةِ فرعونَ، جاءَ في الحديثِ عَن داودَ بنِ فرقد ، عَن أبي عبدِ اللهِ عليه السّلام في قولِه عزَّ وجلَّ ( وضربَ اللهُ مثلاً للذينَ آمنوا امرأتَ فرعون ) الآيةُ ، أنّه قالَ : هذا مثلٌ ضربَه اللهُ لرُقيّةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله التي تزوّجَها عثمانُ بنُ عفان .
قالَ : وقوله ( ونجّني مِن فرعونَ وعملِه ) يعني منَ الثّالثِ وعملِه .
وقوله ( ونجّني منَ القومِ الظّالمينَ ) يعني بهِ بني أمية. (تأويلُ الآياتِ الظّاهرة: 2 / 701).
وذكرَ العلّامةُ الأمينيّ وجهاً آخرَ قالَ: أنا لا أشكُّ في أنَّ كلَّ ما فعلَه النّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وآله وسلّمَ أو لهجَ بهِ إنّما هوَ عَن وحيٍ مُنزلٍ منَ السّماءِ فإنّه لا ينطقُ عنِ الهوى إن هوَ إلّا وحيٌ يوحى ، غيرَ أنَّ المصلحةَ في الإيحاءِ تختلفُ بإختلافِ المواردِ ، فليسَ كلُّ صلةٍ منهُ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم أو برٍّ تدلُّ على فضيلةٍ في المبرورِ فإنّها قد تكونُ لإتمامِ الحُجّةِ عليهِ ، كما أنّها في المقامِ لإيقافِ الملأ الدّيني على أنَّ العداءَ المُحتدمَ في صدورِ العبشميين على بني هاشم لا يزيحُه أيُّ عطفٍ وصلةٍ فإنّه لا برَّ أوصلَ منَ المُصاهرةِ ولا سيما ببضعةِ النّبوّةِ، لكن : هل قدّرَ ذلكَ زوجُ أمِّ كلثوم ؟ أو أنّهُ إقترفَ ليلة وفاتِها ولم يكترِث للإنقطاعِ عَن شرفِ النّبوّةِ ، حتّى أهانَه رسولُ العظمةِ بملأ منَ الأشهادِ ، وحرّمَ عليهِ الدّخولَ في قبرِها وهوَ في الظاهرِ أولى النّاسِ بها بعدَ أبيها ؟
ولعلَّ كلَّ صهرٍ أو مواصلةٍ وقعَ بينَ بني هاشم والأمويّينَ كانَ مِن هذا البابِ ، حاولَ الهاشميّونَ وفي مقدّمِهم مُشرّفُهم صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم تخفيضَ نائرةِ الإحنِ وتصفيةِ القلوبِ منَ الضغائنِ ، لكِن هل حصلوا على الغايةِ المُتوخّاةِ؟ أو إنكفؤا على حدِّ قولِ القائل :
لقد نفختَ في جذىً مشبوبةٍ * وقد ضربتَ في حديدٍ باردِ؟
ولولا هذهِ المُصاهرةُ وأمثالها لطالَت الألسنةُ على الهاشميّينَ لسبقِ المُهاجرةِ والقطيعةِ بينَ الفريقينِ، وحملوا كلَّ ما وقعَ بينَهما على تلكُم السّوابقَ، لكنَّ الفئةَ الصّالحةَ روّادُ إصلاحٍ درأوا عَن أنفسِهم هاتيكَ الشّبهَ بضرائبِ هذهِ المواصلاتِ ، وعرّفوا النّاسَ أنَّ العقاربَ لسْبٌ مَن ذاتها ، فلا يُجدي معها أيُّ لينٍ وزلفةٍ . (الغديرُ: 9 / 373).
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق