هل يُعتبرُ وجودُ أبي بكرٍ معَ النبيّ في الغارِ فضيلةً تُحسَبُ له؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
منَ الواضحِ أنَّ مُجرّدَ الكونِ معَ النبيّ في مكانٍ واحدٍ ليسَ فيهِ دلالةٌ على المدحِ أو الذم، ولا يمكنُ تحديدُ قيمةِ هذا اللقاءِ سلباً أو إيجاباً إلّا مِن خلالِ النظرِ إلى العناوينِ والمُلابساتِ التي جمعَت بينَهُما في مكانٍ واحد.
وما هوَ موجودٌ بينَ أيدينا هوَ الآيةُ التي أشارَت إلى هذهِ الحادثةِ، وعليهِ فإنَّ الطريقَ الوحيدَ هو التدبّرُ في هذهِ الآيةِ لمعرفةِ إن كانَ وجودُه معَه في الغارِ فضيلةً أم مذمّة.
ولا يهمُّنا هُنا تحديدُ مَن هوَ الشخصُ الذي كانَ معَ الرسولِ في الغار، هل كانَ أبو بكرٍ بنُ قحافةَ كما هوَ المشهور، أو كانَ هوَ ابنُ بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ اريقط الذي كانَ دليله كما عندَ بعضِ المُحقّقينَ، والذي يهمُّنا هوَ القيمةُ الإيمانيّةُ لوجودِه معَ الرّسولِ في الغار.
قالَ تعالى: (إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثنَينِ إِذ هُمَا فِي الغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَم تَرَوهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُليَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
اعتقدَ البعضُ أنَّ هذهِ الآيةَ تثبتُ فضيلةً لأبي بكر؛ وذلكَ لأنَّ الآيةَ جاءَت في مقامِ بيانِ نصرِ اللهِ لرسولِه، وقد تحقّقَ هذا النصرُ بإخفائِه عَن عيونِ المُشركينَ في الغارِ وتحقّقَ كلُّ ذلكَ بصحبةِ أبي بكر، وقد نصَّت الآيةُ على هذهِ المعيّةِ في قولِه تعالى (ثَانِيَ اثنَينِ إِذ هُمَا فِي الغَارِ)، والأمرُ الذي يدلُّ على أنَّ هذهِ الشراكةَ كانَت إيجابيّةً هوَ ما حدثَ بينَهم مِن تفاعلٍ وحوار، فقد كانَ أبو بكرٍ خائفاً على رسولِ اللهِ وكانَ رسولُ اللهِ يطمئنُه بأنَّ اللهَ معنا، كما أنَّ كلمةَ صاحبٍ في الآيةِ تدلُّ على وجودِ علاقةٍ مُميّزةٍ بينَه وبينَ رسولِ الله الأمرُ الذي يثبتُ لهُ الفضلَ والمكانة.
بهذه الطريقةِ صنّفَ أهلُ السنّةِ هذهِ الآيةَ مِن ضمنِ الأدلّةِ الدالّةِ على فضائلِ أبي بكر، ومنَ الواضحِ أنَّ هذا التفسيرَ يحمّلُ الآيةَ معانيَ مِن خارجِ الآية، وإذا رجعنا لكلماتِ الآيةِ وبشكلٍ مُجرّدٍ عن أيّ معانٍ مُسبقةٍ سوفَ نكتشفُ أنّها بخلافِ ما زعموا وتصوّروا.
فقوله تعالى: (إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ) فالهاءُ في (تنصروه) شاملةٌ للجميعِ بما فيهم أبي بكر، أي أنَّ الآيةَ قرّعَتهم جميعاً لعدمِ نُصرتِهم لرسولِ الله، ثمَّ أثبتَت الآيةُ أنَّ اللهَ وحدَه هوَ الذي ينصرُه، وعليهِ لم تشرُك الآيةُ أبا بكرٍ في نُصرةِ رسولِ اللهِ وإنّما جعلَته أمراً خالصاً للهِ تعالى أمّا قوله: (ثَانِيَ اثنَينِ) لم تأتِ في مقامِ بيانِ فضيلةٍ وإنّما في مقامِ وصفِ الواقعِ الموضعي، فحتّى لو كانَ الذي معَ الرسولِ مُشركاً لصحَّ أن يُقالَ أنَّ رسولَ اللهِ ثاني الإثنين، وعليهِ الآيةُ تصفُ واقعَ الحالِ، فقد كانَ بالفعلِ معَ رسولِ الله (ص) رجلٌ آخرُ كانَ ثانياً لهُ في هذهِ الرحلة، ولا يهمُّ الآيةَ إن كانَ هذا الرّجلَ هوَ أبو بكرٍ أو مُجرّدَ دليلٍ استأجرَه الرسولُ ليدُلّه على الطريقِ، وكلُّ ما تهتمُّ بهِ الآيةُ هوَ بيانُ نصرِ اللهِ وحدِه لرسوله، ولذا قد يقالُ أنَّ ذكرَ هذا الشخصِ في الآيةِ للدلالةِ على تفرّدِ اللهِ بنُصرتِه، أي حتّى مَن كانَ معَه في ذلكَ المكانِ كانَ في حالةِ حُزنٍ واضطرابٍ ممّا اضطرَّ رسولَ اللهِ الى تطمينِه، وبذلكَ لم يكُن عوناً لرسولِ اللهِ وإنّما كانَ الرسولُ هو الذي يُعينه.
أمّا قوله: (إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) فكلمةُ صاحٍب في دلالةِ اللغةِ وفي استخداماتِ القرآنِ تشملُ المؤمنَ والكافر، فقد يكونُ صاحبُ المؤمنِ كافراً أو مشركاً، قالَ تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) بل حتّى الأنبياءُ قد يكونُ أصحابُهم منَ المُشركينَ، قالَ تعالى: (يَا صَاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ) وعليهِ ليسَ في هذهِ الكلمةِ أيُّ فضيلةٍ لمَن كانَ معَ رسولِ اللهِ في الغار، فهيَ لوحدِها لا تدلُّ على إيمانِه وفضلِه ومكانتِه وإنّما تحتاجُ إلى قرائنَ أخرى تثبتُ تلكَ الصفات.
أمّا قوله: (لاَ تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فهيَ ظاهرةٌ في أنَّ رسولَ اللهِ قد نهاهُ عن الحُزن، فـ(لا) حرفٌ يدلُّ على النّهي، ولا يمكنُ أن ينهى رسولُ اللهِ عن فعلٍ فيهِ رضا اللهِ تعالى، فالحزنُ كفعلٍ لا يخرجُ عَن أحدِ أمرين، فإمّا أن يكونَ في غضبِ اللهِ وسخطِه، وإمّا أن يكونَ في رِضا اللهِ وقبوله، ولا خيارَ ثالثَ بينَ الخيارين، وبما أنَّ رسولَ اللهِ قد نهاهُ عَن هذا الفعل، علِمنا أنَّ حُزنَه حتماً لم يكُن في سبيلِ اللهِ كما توهّمَ البعض، لأنَّ الرسولَ لا ينهى عبداً عَن فعلٍ يُرضي فيهِ ربَّه.
والذينَ اعتقدوا أنَّ حُزنَ أبي بكرٍ كانَ في رضا اللهِ، تصوّروا أنّهُ كانَ خائِفاً على ما سيحدثُ لرسولِ الله، وهذا غيرُ صحيحٍ لأنَّ الحزنَ يكونُ على أمرٍ فاتَ بينَما الخوفُ يكونُ على أمرٍ لم يقَع، وقد أثبتَت الآيةُ حُزنَه ولم تُثبِت خوفَه، أي أنّهُ كانَ حزيناً على شيءٍ ما فاتَ عليهِ ولم يكُن خائفاً على أمرٍ سوفَ يقع.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، فهيَ تدلُّ على معيّةِ اللهِ الدائمةِ للإنسانِ، وهذا النوعُ منَ المعيّةِ يُذكَّرُ بهِ الإنسانُ عندَ المصائبِ حتّى يتذكّرَ بأنَّ كلَّ شيءٍ بعينِ اللهِ وتحتَ نظرِه، قالَ تعالى: (أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ مَا يَكُونُ مِن نَجوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلاَ خَمسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلاَ أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَينَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)، فيجبُ على الإنسانِ أن يتذكّرَ دائماً بأنَّ اللهَ مُحيطٌ بكلِّ ما يقعُ على الإنسانِ وما يصيبُه، وما وقعَ مِن حزنٍ مِن أبي بكرٍ كانَ فيهِ غفلةٌ عَن تلكَ المعيّةِ ولذا ذكّرَه رسولُ اللهِ بها، وليسَ في هذا النوعِ منَ المعيّةِ أيُّ فضيلةٍ لأبي بكر، أمّا إذا كانَت المعيّةُ مِن بابِ (أنَّ اللهَ معَ الصّابرين) فإنَّ حزنَ وجزعَ أبي بكرٍ قد أخرجَه مِن دائرةِ الصابرينَ فلا تشمله هذهِ المعيّة، وإذا قُلنا أنَّ المعيّةَ بمعنىً آخر وهيَ معيّةُ النصرِ والتأييد؛ أي أنَّ اللهَ ناصرُنا ومؤيّدُنا، فلماذا عندَما نزلَ النصرُ منَ اللهِ لم ينزِل عليهما ونزلَ على الرّسولِ وحدَه؟ حيثُ قال: (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَم تَرَوهَا) فإنزالُ السّكينةِ على رسولِ اللهِ دونَ صاحبِه دليلٌ واضحٌ على عدمِ استحقاقِه لها، وإلّا ما هوَ المُبرّرُ مِن حرمانِه منها، طالما هوَ معهُ في الإيمانِ وشريكه في الغايةِ والهدف؟ ومنَ المعلومِ أنَّ السكينةَ ليسَت خاصّةً بالأنبياءِ وإنّما تنزلُ أيضاً على المؤمنينَ، قالَ تعالى: (ثمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّم تَرَوهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ) فعندَما كانَ المؤمنونَ على نفسِ توجّهِ رسولِ اللهِ شملَتهم السكينةُ حتّى وإن كانوا مُتفرّقينَ في ميدانِ القتال، أمّا عندَما كانَ صاحبُ الغارِ على غيرِ توجّهِ الرّسولِ لم تشمَله السكينةُ حتّى وإن لم تفصِله عَن رسولِ اللهِ أيُّ مسافةٍ مكانيّة.
وعليهِ لا تثبتُ هذهِ الآيةُ أيَّ فضيلةٍ لمَن كانَ معَ رسولِ اللهِ في الغارِ، بل قد تخرجُه مِن دائرةِ المؤمنينَ لعدمِ شمولِه بالسكينةِ التي تشملُ المؤمنين.
اترك تعليق