هل الإيمان بالله مجرد حاجة نفسية؟
يقول الملحدون: إنّ المؤمنون بالله كثيراً ما يتحدثون عن ضرورة الإيمان بالله، لأنّ هنالك فجوة مهمّة في حياتنا لا بدّ أن نملأها بالإيمان. إنّ المؤمنين يرون بأنّ هنالك حاجة نفسيّة للإيمان بالله، باعتباره صديقاً متخيّلاً، أو أباً أو الأخ الأكبر، أو شخصاً محلّ ثقة، ولابدّ من إشباع هذه الحاجة، سواءً كان الله موجوداً أم لم يكن. فلماذا نملأ فجوة (الحاجة إلى الإيمان بالله) بما هو وهم أو متخيّل، أو غير واقعيّ، أو غير علميّ، لماذا لا نملأ هذه الحاجة بالعلم، بالفن، بالصداقة الإنسانيّة، وبحبّ الطبيعة، بل وبالتطرّف في الأيمان أي بحب الحياة في العالم الحقيقيّ، بدون الحاجة للإيمان بحياة أخرى خلف القبر؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
تصوير الإيمان بالله بوصفه حاجة نفسية متخيلة، يعد نوعاً من التجني الذي يجهل حقيقة الإيمان بالله كما يجهل حقيقة الإنسان وتركيبته المعقدة، فالله الذي يعتقد بوجوده المؤمن ليس خيالاً لطيفاً يهرب إليه الإنسان بسبب قسوة الحياة ومشاكلها، وإنما حقيقة ثابتة شهد بوجودها كل شيء في عالم الوجود.
ويبدو أن صاحب الإشكال قد اختلط عليه الأمر فلم يميز بين الواقع الخيالي الذي يوجده الإنسان لنفسه، مثل من يحاول الاستغراق في أحلام اليقظة أو من يهرب بالخيال من عالم الحقيقة والواقع، وبين الإحساس الفطري الذي يجده كل إنسان في نفسه ويدله على فقره ويشعره بكونه مخلوق لم يوجد نفسه ولم يأتي من الفراغ. والتمييز بين الحالتين ضروري لأن الأول ينتمي إلى عالم الخيال والثاني ينتمي إلى عالم الحقيقة والواقع، فقدرة الإنسان على التخيل قدرة لا ينكرها أحد بل حتى الملحد لا يمكنه الفرار منها، والاستمتاع بالحياة لا يمنع الإنسان في بعض الاحيان أن يوجد لنسفه عالماً من صنع خياله، فكل إنسان في لحظات الفراغ أو لحظات الإحباط يلجأ إلى نسج عالم من خياله يستريح فيه من عناء الحياة، إلا أن الإيمان بالله لا ينتمي إلى هذا العالم وإنما ينتمي إلى إيمان الإنسان بوجوده الذي يشهد بأن له موجد.
وبالتالي هناك أحساس اصيل في الإنسان قائم على ما يشهده الإنسان من نقص وحاجة، فإن كان الإنسان موجوداً إلا أنه لا يملك وجوده، وإن كان الإنسان عالماً إلا أن علمه محاط بالجهل، وإن كان الإنسان قادراً إلا أن قدرته يشوبها العجز، وإن كان الإنسان حياً إلا أن حياته ليست ملكه ولا يسيطر على مصيره، وهكذا يتلمس الإنسان وبشكل دائم فقره وحاجته ولا يمكنه الاستغناء بذاته ونفسه.
وشعور الإنسان بالله واحساسه بوجوده هو شعور واحساس بقيمة الإنسان وعظيم إنسانيته. وإشكالية الإلحاد مع الله هي إشكالية مع الإنسان، والرجوع إلى الله يبدأ من رجوع الإنسان إلى الذات، وهكذا هي فلسفة التوحيد حيث لم تجعل الله بعيداً حتى يحتاج إلى برهان (كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ في وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إليكَ، اَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِي الَّتي تُوصِلُ إليكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْد لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصيباً)
فلا يحتاج الإنسان ليخرج عن نفسه من أجل أن يرى شيئاً أخراً خارج عنها، بل يكفيه الرجوع إلى ذاته والنظر في عمق وجدانه، لكي يرى الله ظاهراً بنفسه متجلياً بذاته "يا مَنْ دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مُجانَسَةِ مَخْلُوقاتِهِ، وَجَلَّ عَنْ مُلاءَمَةِ كَيْفِيّاتِهِ، يا مَنْ قَرُبَ مِنْ خَطَراتِ الظُّنُونِ، وَبَعُدَ عَنْ لَحَظاتِ الْعُيُونِ"
فمن يا ترى يكون قادراً على الهروب من نفسه حتى يكون قادراً على الهروب من الله؟ فإلى أين يهرب الإنسان بعجزه؟ أليس للقوي القادر. وإلى اين يهرب بفقره؟ أليس للغني المتفضل. وإلى أين يهرب الإنسان بحاجته؟ أليس للرحيم المتكرم.. فمن عرف نفسه بواقع الفقر والعجز والحاجة عرف ربه بما له من كمال وجمال، فقد جاء في الحديث (من عرف نفسه فقد عرف ربه).
فليس الإيمان هجراناً للنفس ونكران لإنسانية الإنسان أو حرمانها من متع الدنيا، وإنما هو كشف لحقيقة النفس للنفس، وهي بداية المسير إلى الكمال فينطلق الإنسان من اعترافه بجهله لكي يتعلم، ومن فقره إلى الغنى، ومن عجزه إلى القدرة، ومن الهوى والشهوات إلى المأثر والمناقب، وهكذا من النقص إلى الكمال وكل ذلك لا يكون إلا بالله مصدر كل جمال وكمال. وبالتالي هذه الفجوة الوجودية لا تملأ بالعلم والفن وحب الطبيعة وغير ذلك كما يقترح صاحب الاشكال؛ لأن كل ما في الوجود يعيش هذه الفجوة ولا ملجأ من الله إلا إليه.
اترك تعليق