هل الحياة بدون أديان هي حياة بدون حروب؟
(5) البعض يقول: حينما نتحدّث عن عالم بلا دين فنحن نتحدّث عن عالم بدون انتحاريّين وبدون تفجيرات 11 سبتمبر، وبدون انفجارات لندن، وبدون حملات صليبيّة، وبدون تقسيم للهند، وبدون حرب إسرائيليّة، وبدون مذابح الصرب والكروات للمسلمين، وبدون اضطهاد الآخرين لليهود، وبدون مشاكل في ايرلندا الشماليّة، وبدون جرائم الشرف، وبدون مبشّرين إنجيلييّن، وبدون طالبان، وبدون قطع للرؤوس بشكل علنيّ وبدون سياط على جسم المرأة هذا هو العالم الذي نتطلّع إليه لأنّه بلا دين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أولاً: لابد من التأكيد على أن العنف أمر مدان سوى صدر من أصحاب الأديان أم من غيرهم، كما لا يمكن الاعتراض على هذا الإشكال بسرد نماذج من الحروب التي حدثت بدوافع غير دينية؛ لان ذلك لا يعطي مبرر للحروب التي دمرت حياة البشرية باسم الاديان، وبالتالي فان التحليل العلمي لظاهرة الحروب يقودنا إلى وجود دوافع متعددة تقف خلف حدوثها، ومحاولة حصر هذه الدوافع في دافع واحد لا يساهم في الحل الجذري لهذه الظاهرة، فحتى لو كفر جميع البشر لا يؤدي ذلك إلى نهاية الحروب في الأرض كما يتصور بعض الحالمين؛ لأن هناك مطامع وأنانيات مازالت تؤجج هذه الحروب، وبالتالي فالمؤكد أن العقلية الداعشية لا علاقة لها بالإيمان بالله وإنما هي عقلية مريضة ونفسية خبيثة سوى كانت متدينة أو ملحدة، وهذا لا يعني عدم وجود مبررات مقبولة للحرب مثل الدفاع عن الوجود والحياة والمكتسبات، وإنما الكلام عن الحروب التي تكون دوافعها حب السيطرة والهيمنة والتوسع، من هنا لابد من أدانة واضحة للنفسية العنيفة قبل أدانة الثقافة التي تروج للعنف، لأن ثقافة العنف لا يكون لها سوق رائج إلا بين أصحاب النفوس العنيفة، وعليه فإن الذي يجب الاهتمام به جدياً هو علاج هذه النفسيات المريضة والمنتشرة بكثرة في واقعنا.
ثانياً: لا بد من التفريق بين الدين والتدين، فالسلوكيات تعبر عن شخصية الإنسان، والدين غير مسؤول عن السلوك الذي لم يأمر به، حتى لو تحول هذا السلوك لفعل جماعي تحت مظلة الدين، وبالتالي إن جاز الدفاع عن الدين بوصفه قيم سامية وأخلاق نبيلة، لا يجوز الدفاع عن سلوك المتدينين طالما تتحرك بعيداً عن أوامر الدين نفسه.
ثالثاً: لا نفهم الدين إلا بوصفه أمل الإنسان لحياة أفضل، وأي فهم لا يعزز قيمة الحياة ولا يدفع الإنسان نحو إعمار الأرض على أساس قيم الحق والفضيلة، هو فهم لا علاقة له بالدين الذي أراده الله. أما ما عليه واقع الاديان من رجعية وتخلف فهو بسبب التخلف المستشري بين البشر جميعاً، فالإنسان بجهله ومطامعه هو المسؤول عن واقعه ولا علاقة للأديان بما اختاره الإنسان لنفسه، وما تقوم به التيارات اللا دينية من تهريج حول هذه الصور السلبية فهي ليست إدانة لدين الله بقدر ما هي ادانة للإنسان سوى كان مؤمن أو ملحد؛ لأن الجميع يعيشون في هذا التخلف والانحطاط. وعليه لابد من تقديم معالجة تمدد إلى العمق للكشف عن ما تعانيه البشرية من انحدار وتراجع، فالإنسان المتخلف والعنيف بطبعه إذا اصبح متديناً سيقدم صورة متخلفة وعنيفة للدين، فالإشكال في الإنسان وليس في الأديان، وبالتالي أن جذور الوعي الديني المشوه هو بسبب الإنسان المشوه في إنسانيته، وفلسفة الأديان بالأساس هي المساهمة في بناء هذا الإنسان فمثلاً عندما يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13 الحجرات) إنما يؤسس لاجتماع إنساني يقوم على التعارف والتعاون والتكامل، ويقول تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (2 المائدة). بل يرتقي الدين بالإنسان إلى مستوى يمنعه حتى من السخرية والعنصرية والتنابز بالألقاب ناهيك عن القتل والاعتداء، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (11 الحجرات) وغير ذلك من التعليمات. وعليه لابد من تقديم وعي ديني يمتاز بالعلمية في متبنياته الفكرية، والعقلانية في علاقته مع الحياة، والموضوعية في مقاربته للمتغيرات، والحضارية في مشروعه التكاملي للإنسان. والخطوة الأولى تقتضي اسقاط الشرعية عن تلك الصورة النمطية عند بعض المتدينين، ومن ثم محاولة الكشف عن التصور المعرفي الذي يستقيم مع العلم والعقل ويحقق التفاعل الإيجابي مع الحياة، حيث لا يمكن أن نتصور أن هنالك ديناً جاء من اجل الإنسان ثم يكون سبباً في تدمير حياته.
وفي الختام لا يمكن أن تستغني البشرية عن الدين الإلهي بوصفه الخطاب الذي يعزز نقاط القوة عند الإنسان ويدفعه نحو التقدم والتكامل، حيث يأمره بالعقل والعلم، ويشجعه على تطوير القدرات، ويأمره بالانفتاح على الحياة ببصيرة واعية، ومن هنا لا يهمنا الدفاع عن التدين الشكلي والفهم السلفي للدين، ولا نحاول القيام بتزيين ما هو قبيح كما تفعل أم العروس التي تخفي بالمكياج عيوب ابنتها، وإنما نهاجم كل خطاب يدعوا للكراهية والجهل والتخلف باسم الدين، وحينها لا نكون مرغمين بإيجاد تبريرات لما وقع في التراث أو في الحاضر من ممارسات سلبية لا يرتضيها الله.
اترك تعليق