هل التّعبدُ بكلّ الأديانِ يجوز?
(هل يجوزُ للمُسلمِ بحسبِ عقيدتِنا عقيدةِ أهلِ البيتِ عليهمُ السّلامُ أن يذهبَ للبحثِ في الدّيانةِ المسيحيّةِ أو اليهوديّة
السلام عليكم ورحمة الله :
الإسلامُ هوَ دينُ الحقِّ الذي ختمَ اللهُ بهِ رسالاتهِ، والقرآنُ الكريمُ هوَ مُعجزةُ الإسلامِ الخالدة، فمَن بحثَ عنِ الحقِّ في غيرِه أضاعَ الطّريقَ وضلَّ السّبيلَ، والإنسانُ المسلمُ مُضافاً إلى أنّهُ مُؤمنٌ بالقرآنِ بوصفِه آخرَ ما أنزلَهُ اللهُ لعبادِه، مؤمنٌ أيضاً بما أُنزِلَ على الأنبياءِ السّابقينَ، فالتّوراةُ والإنجيلُ هيَ رسالةُ اللهِ إلى موسى وعيسى (عليهما السّلام) إلّا أنّهُ قد أصابَها التّحريفُ والتّغييرُ والتّبديلُ حتّى لَم يبقَ منها ما يصحُّ نسبتُه للهِ تعالى، وقَد أكّدَ كثيرٌ منَ الباحثينَ بأنَّ التّوراةَ بوضعِه الحالي لم يُكتَب كلّهُ مرّةً واحدةً أو في عصرٍ واحدٍ، وإنّما تمَّت كتابتُه على فترةٍ تزيدُ على تسعمائةِ سنةٍ، وقَد تمَّ ذلكَ بالإعتمادِ على تُراثٍ شعبيٍّ شفويّ، ولِذا تداخلَت ثقافاتٌ مُتعدّدةٌ ولغاتٌ مُختلفةٌ وصياغاتٌ مُتباينةٌ في كتابةِ التّوراةِ، كما لَم تكُن أهدافُ كُلِّ مَن كتبَ التّوراةَ أهدافاً عباديّةً أو دينيّةً وإنّما كانَ بعضُها مُجرّدَ تواريخَ للأحداثِ التي وقعَت في الماضي، ولِذا كانَ منَ الطّبيعيّ أن يتعرّضَ للتّعديلِ والإضافةِ والحذفِ وإعادةِ الصّياغةِ من دونِ أيّةِ قيودٍ سِوى هوى الكاتبِ نفسِه. وقَد قالَ اللهُ في حقِّهم: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ). أمّا إنجيلُ عيسى (عليه السّلام) لم يبقَ إنجيلاً واحِداً وإنّما أصبحَ أناجيلَ كثيرةً، لَم تعترِفِ الكنيسةُ إلّا بأربعةٍ مِنها فقَط وهيَ (متّى ولوقا ويوحنّا ومرقس) وهيَ كتبٌ تُنسبُ لمَن كتبَها ولا علاقةَ للنّبيّ عيسى (عليه السّلام) بها، ولِذا لم يأتِ ذكرٌ لهذهِ الأناجيلِ في النّصوصِ التي تتحدّثُ عنِ المراحلِ الأولى للمسيحيّةِ، وقد بدأ الكلامُ عنِ النّصوصِ المسيحيّةِ بعدَ مرورِ 140 عاماً مِن ميلادِ المسيحِ في ما كتبَهُ بولس، يقولُ أ.كولمان في كتابِه العهدُ الجديدُ الصّادرُ في باريس 1967: (إنَّ المُبشّرينَ أصحابَ الأناجيلِ لَم يكونوا إلّا مُتحدّثينَ باسمِ الجماعاتِ المسيحيّةِ الأولى، وصلَت إلينا أقوالُهم مِن خلالِ التّراثِ الشّفهيّ. ولقَد ظلَّ الإنجيلُ طيلةَ ثلاثٍ وأربعينَ سنةً في صورتِه الشّفهيّةِ فقَط على وجهِ التّقريبِ. ولكِنَّ هذا التّراثَ الشّفهيَّ قَد تضمّنَ أيضاً أقوالاً مُختلفةً، ورواياتٍ مُتعارضةً مُنعزلةً. ولقَد نسجَ المُبشّرونَ أصحابُ الأناجيلِ -كلٌّ على طريقتِه وبحسبِ شخصيّتِه الخاصّةِ واهتماماتِه اللّاهوتيّةِ الخاصّة - الرّوابطَ بينَ هذهِ الرّواياتِ والأقوالِ التي تلقّوها منَ التّراثِ السّائد. إنَّ تجميعَ أقوالِ المسيحِ وربطَ الرّواياتِ في صياغاتٍ غامضةٍ تستخدمُ عباراتٍ مثلَ: "وبعدَ هذا.." "ويظنُّ.." و"بالإختصارِ.." ووضِعَت هذهِ الرّواياتُ في إطارٍ أطلقُوا عليهِ الأناجيلَ المُتوافقةَ ويدلُّ كلُّ شيءٍ في هذهِ الطّريقةِ على أنّها أدبيّةُ الطّابعِ وليسَت تاريخيّةَ الطّابع".
وأكثرُ ما يمكنُ قولُه في هذهِ الكُتبِ أنّها كتاباتٌ قديمةٌ تعكسُ التّاريخَ المسيحيَّ واليهوديَّ والثّقافةَ القديمةَ التي كانَت سائدةً في أوساطِهم، ولا يمكنُ إعتبارُها كُتباً مُقدّسةً تتضمّنُ ما جاءَ بهِ الأنبياءُ، قالَ تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِن عِنْدِ اللَّهِ). ومِن هُنا يمكنُ دراستُهما مِن قِبلِ المُهتمّينَ وأهلِ الإختصاصِ بوصفِها وثائقَ تاريخيّةً توثّقُ الثّقافةَ اليهوديّةَ والمسيحيّةَ في مراحلِ تكوّنِها التّاريخيّ، أمّا دراستُها بهدفِ طلبِ الحقِّ والبحثِ عنِ الهُدى فإنّها مُفتقرةٌ لذلكَ لِما فيها مِنَ الوضعِ والتّحريفِ والتّناقضِ، وهذا خلافُ كتابِ اللهِ الذي ما زالَ يتحدّى البشريّةَ بإعجازِه قالَ تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِن عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وعليهِ يجبُ الإقتصارُ على القُرآنِ لمَن أرادَ الحَّق والهُدى ففيهِ كلُّ ما يحتاجُه الإنسانُ لصلاحِ دينِه ودُنياه قالَ تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم يُحْشَرُونَ) وقالَ: (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
أمّا ما سمعتَهُ مِن بعضِ رجالِ الدّينِ في جوازِ التّعبّدِ بالأديانِ والمذاهبِ الأُخرى، فإنّهُ نوعٌ منَ الإشتباهِ والإستدلالِ الخاطئِ بالقُرآنِ الكريم، فقَد إعتمدَ في شُبهتِه على قولِه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُم أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلاَ هُم يَحْزَنُونَ) مُدّعياً أنَّ الآيةَ مُطلقةٌ لا قيدَ فيها، وعليهِ لا يُشترَطُ في النّجاةِ يومَ القيامةِ أن يكونَ الإنسانُ على دينِ الإسلامِ؛ بَل كلُّ مَن ثبتَ لهُ صحّةُ دينِه ومذهبِه يكونُ ناجياً يومَ القيامةِ بحسبِ زعمِه، ولا يعدو أن يكونَ هذا الفهمُ سِوى محاولةٍ ساذجةٍ تتخطّى كُلَّ الضّوابطِ المرعيّةِ في فهمِ النّصوصِ، فالقرائنُ المُخصّصةُ أو المُقيّدةُ للعمومِ أو الإطلاقِ لا يُشترَطُ فيها الإتّصالُ في نفسِ النّصِّ، وإنّما تتعدّاها لتشملَ القرائنَ المُنفصلةَ سواءٌ كانَت لفظيّةً أو لُبّيّةً، وإذا لاحظنا ذلكَ لوجدنا في القُرآنِ عشراتِ القرائنِ المُنفصلةِ التي تُقيّدُ هذا الإطلاقَ، مثلَ قولِه تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَو نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَل مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.. إلى قولِه.. فَإِن آمَنُوا بِمِثلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)، هذا مُضافاً لِما جاءَ في الرّواياتِ وما حكمَ بهِ العقلُ بانحصارِ الحقِّ وعدمِ قابليّتِه للتّعدّدِ والتّكثّرِ، فالآيةُ واضحةٌ في أنَّ الأديانَ السّماويّةَ السّابقةَ هيَ مِن عندِ اللهِ ومَن عملَ على مُقتضاها في وقتِ التّكليفِ بها يكونُ ناجياً يومَ القيامةِ، فعندَما حصرَ الإسلامُ الحقَّ فيه تسائلَ البعضُ عَن مصيرِ الأديانِ السّابقةِ، فكشفَت هذهِ الآيةُ عَن نجاةِ مَن كانَ منهُم مُؤمناً باللهِ واليومِ الآخرِ وعملَ صالِحاً.
وما قادَ البعضَ إلى مثلِ هذهِ المزاعمِ الباطلةِ، هوَ مبحثُ القطعِ الذي تمَّت مُناقشتُه في علمِ أصولِ الفقهِ، وقَد قصدُوا بحُجّيّةِ القطعِ حُجّيّةَ العلمِ، ومنَ الواضحِ أنَّ العلمَ الذي يكونُ حُجّةً هوَ العلمُ الكاشفُ للواقعِ، أمّا القطعُ الذي هوَ أعمُّ مِنَ العلمِ والجهلِ المُركّبِ يُشترَطُ في مُنجزيّتِه أن يكونَ حصولُه قَد تمَّ بطريقٍ تسالمَ عليها العُقلاء، بمعنى أن يكونَ مُستنِداً على دليلٍ إذا وقفَ عليهِ كلُّ العُقلاءِ يفيدُهم القطعَ، وعليهِ فإنَّ القطعَ الشّخصيَّ القائمَ على أسبابٍ غيرِ علميّةٍ لا يكونُ مُبرِئاً للذّمّةِ، فقَد يقطعُ الإنسانُ بصحّةِ ما عليهِ بسببِ البيئةِ أو العادةِ أو المصلحةِ أو غيرِ ذلك، ممّا لا يُعتدُّ بهِ في مجالِ التّمييزِ بينَ الحقِّ والباطلِ، قالَ تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُم لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ). وعليهِ فإنَّ التّباينَ الموجودَ بينَ الإسلامِ والأديانِ الأخرى أو بينَ مذهبِ أهلِ البيتِ (عليهمُ السّلام) والمذاهبِ الأُخرى هوَ تباينٌ بينَ الحقِّ والباطلِ، وللتّرجيحِ بينَهم لا يُعتمَدُ على الآراءِ الخاصّةِ وما يقطعُ بهِ صاحبُ كلِّ دينٍ أو مذهب، وإنّما الحُجّةُ والبرهانُ اللذانِ يُفيدانِ العلمَ عندَ جميعِ العُقلاءِ هوَ المُرجّحَ في ذلكَ، وبالتّالي لا تكونُ ذمّةُ الإنسانِ فارغةً ما لَم يحصُل لهُ العلمُ ويُقدّمُ البُرهانَ على مُدّعاهُ قالَ تعالى (قُل هاتوا بُرهانَكم إن كُنتُم صادقينَ) والبُرهانُ هوَ الذي يُمثّلُ مُشترَكاً بينَ جميعِ العُقلاءِ وعليهِ تدورُ الحقائقُ، أمّا القطعُ الشّخصيّ الذي لا يستندُ على البُرهانِ لا يُنجي الإنسانَ في الدّنيا فضلاً عنِ الآخرةِ.
اترك تعليق