يوم المباهلة.. المفاصلة الكبرى بين التوحيد والشرك

: السيد مهدي الجابري الموسوي

سمي بيوم المباهلة لنزول آية من القرآن الكريم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإخراج صفوة الخلق - علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) - لمباهلة نصارى نجران، قال الحق تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِين)(1).

سبب تسمية الآية بآية المباهلة:

إنّ بعض آيات القرآن الكريم عُرفتْ بتسمية خاصة, سواء كانت هذه التسمية بأثر أو تُعورف عليها من قبل العلماء, وهذه التسمية غالباً ما تشير إلى موضوع رئيسـي في الآية, الأمر الذي من شأنه أن يُلفت النظر ويستوقف الباحث وقفة تأمل وتفكر حول تلك الآيات التي اشتهرت بتسمية أو صفةٍ خاصة, وما أن يسلط ضوء فكره وتدبره حولها آية آية سيجد أنّ ما تمحورت حوله تلك الآيات كان بمكان من الأهميّة, ألا ترى أنّ آية الكرسي تضمنت من الأمور أعظمها وذلك ما صرحت به الأخبار التي بينت فضلها وأشارت إلى أهميتها  مع أنها آيات وردت في سورة البقرة البالغ عدد آياتها 286 آية.

ومن تلك الآيات التي عرفت واشتهرت بتسمية خاصة أيضا، هي (آية المباهلة) وهذه الآية قد وردت في ضمن آيات سورة (آل عمران) البالغ عدد آياتها 200 آية, وجاء فيها قول الحق سبحانه مخاطباً نبيه (صلى الله عليه وآله): (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِين)(2). 

وقد تقدمتها آيات تشكل الموضوع الأساس, إذ جاءت تثبت مثلية خلق عيسى (ع) لآدم (ع), حيث قال الحق تعالى فيها: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)(3), فإن مثل عيسى عند الله كمثل آدم, أي شأنه الغريب كشأن آدم, وجملة خلقه من تراب, جملة مفسـرة للتمثيل مبينة لما له الشبه, وهو أنه خُلق بلا أب كما خُلق آدم من التراب بلا أب وأم, فشبّه حاله بما هو أقرب إفحاماً للخصم وقطعاً لموارد الشبه, والمعنى خَلق قالبه من التراب ثم قال له كن, أي انشأ بشـراً, كقوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)(4), وقدّر تكوينه من التراب ثم كوّنه فيكون, أي فكان في الحال(5).

 أفادت هذه الآية الشـريفة أنّ الإنسان لم يكن إلا جسماً طبيعياً تتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم إنّ الله سبحانه قد أنشأه خلقاً آخر ذا شعور وإرادة، يفعل أفعالاً من الشعور والإرادة والفكر والتصـرف في الأكوان، والتدبير في أمور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام والجسمانيات، فلا هي جسمانية، ولا موضوعها الفاعل لها(6).

أن الله سبحانه خلق عيسى بن مريم (عليه السلام) من أم بلا أب بنفس الأمر الإلهي «كن فيكون» الذي خلق به آدم (عليه السلام) من تراب‏.‏ 

والخلق من تراب ينطبق في الحالين‏:‏ حال آدم (عليه السلام) الذي بدأ الله سبحانه خلقه من تراب وكان جميع نسله في صلبه لحظة خلقه ومنهم عيسى بن مريم (عليه السلام)‏.‏ 

كما ينطبق الخلق من تراب على عيسـى(عليه السلام) نفسه؛ لأنه نشأ من بيضة أمه الموروثة عن آدم وحواء(عليهما السلام), وتغذى وهو جنين على دمائها المستمدة من غذائها وهو مستمد من عناصر الأرض‏,‏ وتغذى وهو رضيع على لبنها‏,‏ وهو مستمد من نفس المصدر‏,‏ وتغذى بعد ذلك على نباتات الأرض‏,‏ وعلى المستباح من حيواناتها‏,‏ وكل ذلك - لا يخفى عليك - مستمد أصلاً من عناصر تراب الأرض ومائها وهوائها ولذلك قال الحق تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(7), فكما خلق الله سبحانه آدم بكلمة (كن) فكذلك خلق عيسى, والله عز وجل: (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(8).

ومن هنا يُعلم ما لموضوع المباهلة من بالغ الأهمية, فإثبات بشـرية عيسى (عليه السلام), ونفي الألوهية عنه, يبلغ من الأهمية بمكان يتوقف عليه صدق جميع الأنبياء والمرسلين فيما أخبروا به عن وحدانية الله عزّ وجلّ، وتعدّ أهم حادثة في تاريخ جميع الديانات السماوية, إذ هي مفاصلة كبرى بين التوحيد والشرك, لذلك أوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيه الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الحادثة يأمره بإخراج صفوة الخلق - علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) - لمباهلة النصارى, بقوله عزّ ذكره: (قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).

 

بيان قصة المباهلة:

لا ريب ولا شك أن القرآن أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن أعظم ما أنزل لأجله هو دفع شبه المعاندين وردّ دعاوى الكافرين، وتطالعنا كتب التفسير والمجاميع الحديثية عن حادثة المباهلة التي دعا فيها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) نصارى نجران للمباهلة والتي يظهر فيها بجلاء ووضوح فضل ومكانة أصحاب الكساء الذين خرج بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمباهلة، وهم على وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام).

وهنا أحببت قبل الشـروع في سرد القصة وبيان تفاصيلها أن أتطرق للمعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة «المباهلة»، وذلك بهدف التعريف بهذه الكلمة وبيان مدلولها:

معنى المباهلة لغة واصطلاحاً:

قال صاحب المصباح: «بهله بهلا من باب نفع: لعنه، واسم الفاعل باهل، والأنثى باهلة، وباهله مباهلة: لعن كلّ منهما الآخر، وابتهل إلى الله تعالى: ضرع إليه» (9).

وقال ابن فارس: «بهل: أصول ثلاثة: أحدها التخلية، والثاني جنس من الدعاء، والثالث قلَّة في الماء. فأمّا الأوّل فيقولون بهلته إذا خلَّيته وإرادته، ومن ذلك الناقة الباهل. وأمّا الآخر: فالابتهال والتضـرّع في الدعاء، والمباهلة يرجع إلى هذا، فإنّ المتباهلين يدعو كلّ واحد منهما على صاحبه. والثالث: الماء القليل»(10).

وقال جار الله الزمخشـري: «أبهل الناقة: تركها عن الحلب، وناقة باهل: غير مصـرورة يحلبها من شاء، وأبهل الوالي الرعيّة واستبهلهم: تركهم. يركبون ما شاءوا لا يأخذ على أيديهم.

وأبهل عبده: خلَّاه وإرادته، ومنه بهله: لعنه، وعليه بهلة الله، وباهلت فلاناً مباهلة إذا دعوتما باللعن على الظالم منكما، وبتاهلا وابتهلا: التعنا. وهو بهلول وهم بهاليل وهو الحيّ الكريم. ورجل باهل: متردّد بغير عمل. وراع باهل: يمشـي بلا عصا. وابتهل إلى الله: تضرّع واجتهد في الدعاء»(11).

وقال الجوهري: «البهل: اليسير، والقليل من المال، واللعن. ويقال بهلته وأبهلته إذا خليته وإرادته. والمباهلة: الملاعنة. والابتهال: التضـرّع ويقال في (ثُمَّ نَبْتَهِلْ): أي نخلص في الدعاء. والبهلول: الضحّاك»(12).

وقال الراغب الأصفهاني: «أصل البهل كون الشـيء غير مراعى. والباهل: البعير المخلَّى عن قيده أو عن سمة أو المخلَّى ضرعها عن صرار. والابتهال في الدعاء التضـرّع والاسترسال فيه، ومن فسـّر الابتهال باللعن: فلأجل أنّ الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن»(13).

هذا وقد قال بعض المحققين: 

إنّ الذي يظهر من تحقيق موارد استعمال هذه المادّة: أنّ الأصل الواحد فيها هو التخلية والترك. وكذلك الابتهال بمعنى التضـرّع: فإنّه في صورة طرد النفس وتركها والتوجّه إلى الله المتعال. 

وهذا هو الفارق بين الابتهال والتضـرّع، وتتعدى بحرف إذا كانت بمعنى التضـرّع. وأمّا الماء القليل: فكأنّه بمناسبة كونه مخلَّى ومتروكاً.

فالتخلية والترك محفوظة في جميع موارد استعمال هذه المادّة.

والفرق بين البهل واللعن: أنّ اللعن مفهومه الطرد، والبهل كما ذكرنا عبارة عن التخلية والاسترسال. واللعن فيه مفهوم المبغوضيّة، بخلاف البهل فهو أعمّ.

(ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)، أي نختار ترك التمايلات الشخصيّة والتوجّهات النفسانيّة ونتوجّه إلى الله المتعال متضرّعا ونطلب في تلك الحالة الخالصة الصافية، اللعنة من الله على الكاذبين.

فحقيقة هذه الجملة: الدعاء على الكاذب ببعده عن رحمة الله وعن قربه، في حال التضرّع والابتهال والتوجّه التامّ.

فظهر أنّ الابتهال في الآية الشـريفة: بمعنى تخلية النفس وتركها ليحصل الخلوص والتوجّه التامّ حتّى يطلب اللعن للكاذب، وليس بمعنى اللعن أو غيره كما في بعض التفاسير(14).

وبهذا فالمباهلة -في الآية محل البحث- هي أن يدعو الإنسان ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يترك شخصاً بحاله وأن يوكله إلى نفسه.

* *

نصارى نجران والمباهلة:

ومن نجران جاء وفدُ النصارى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونجران - بالفتح ثم السكون وآخر نون - اسم عدة مواضع أشهرها نجران من مخاليف اليمن شمال شرقي صنعاء على ثمانية مراحل منها تسكنه قبائل يام من همدان ثم من حاشد وفي الوقت الحاضر تعرف قبائل نجران بمواجد وجشم ومذكر، وبها خبر الأخدود وإليها تنسب كعبة نجران، وكانت ربيعة بها أساقفة مقيمون منهم السيد والعاقب(15).

ونجران الوحيدة من بين مناطق الحجاز التي غادر أهلُها الوثنية واعتنقوا المسيحية في مطلع ظهور الإسلام.

ومن هنا كتب نبي الإسلام كتاباً إلى أسقف نجران(16)«أبي حارثة», يدعو أهلها فيه إلى الإسلام وجاء في كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هذا نصه:

«بِسم إله إبراهيم وإسحاق ويَعقوب من مُحمد رسول الله إلى أسقُف نَجران وأهل نَجران إن أسلَمتُم فإنّي أحمَدُ إليكُم الله إله إبراهيم وَإسحاق(17)ويعقوب أمّا بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعُوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام»(18).

وذكرت بعض المصادر التاريخية الشيعية(19) أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر في جملة ما ذكره في كتابه إلى أسقف نجران الآية المرتبطة بأهل الكتاب وهو قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْـرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(20).

وتذكر المصادر التاريخية أيضاً أنه قدم سفير رسول نجران وسلّم كتابه المبارك إلى أسقف نجران، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقة متناهية، ثم شكَّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتخاذ القرار مكوَّنة من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية، وكان أحدُ أعضاء هذه المجموعة «شرحبيل» الذي عُرف بعقله ونُبله، وتدبيره وحكمته، فقال في معرض الإجابة على استشارة الأسقف: قد علمتُ ما وعَد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوّة، فما يؤمِنُك أن يكون هذا الرجلُ؟! ليس لي في النبوة رأي، لو كان أمر من أُمور الدنيا أشرتُ عليك فيه وجَهدتُ لك.

فقرر المتشاورون أن يبعثوا وفداً إلى المدينة للتباحث مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودراسة دلائل نبوته، فاختير لهذه المهمة ستون شخصاً من أعلم أهل نجران وأعقلهم، وكان على رأسهم ثلاثة أشخاص من أساقفتهم هم:

«أبو حارثة بن علقمة» أسقف نجران الأعظم والممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز، و«عبد المسيح» رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه، وتدبيره، و«الأيهم» وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران(21).

فقدمَ هذا الوفد المسيحيُّ المدينة ودخلُوا المسجد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يلبسون أزياءهم الكنسيَّة ويرتدون الديباج والحرير، ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في أعناقهم، فأزعج منظرُهم هذا - وخاصة في المسجد - رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك، فسألوا «عثمان بن عفان» و«عبد الرحمان بن عوف» وكانت بينهم صداقة قديمة، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ قال: أرى أن يضَعوا حُللَهم هذه وخواتيمهم ثم يعودوا اليه.

ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلّموا عليه فرد عليهم السَّلام، واحترمهم، وقبِلَ بعض هداياهم التي أهدوها إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم إن الوفد - قبل أن يبدأوا مفاوضاتهم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: إن وقت صلاتهم قد حان واستأذنوه في أدائها، فأراد الناسُ منعهم ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أذن لهم وقال للمسلمين: دعوهم فاستقبلوا المشـرق، فصلّوا صلاتهم(22). 

ومن هنا فليعِ المناوؤون للإسلام فعل نبي الإسلام مع غير المسلمين.

 

مفاوضات النصارى مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

لقد نقَل طائفة من المؤرخين والمحدِّثين من علماء الشيعة والسنة نصَّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي المقام نكتفي بنقل جانب من هذا الحوار والذي رواه الحلبي في سيرته(23):

عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على وفد نجران وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا وقالوا: قد كنّا مُسلمين قبلك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كَذِبتُم، يمنعكم من الإسلام ثلاثٌ: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحمَ الخنزير، وزعمُكُم أنّ لله ولداً.

فقالوا: المسيح هو الله لأنه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الأدواء كلها، وخلَق من الطين طيراً.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هو عبد الله وكلِمته ألقاها إلى مريم.

فقال أحدُهم: المسيح ابن الله لأنّه لا أبَ له.

فسكتَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم، فنزل الوحيُ بقوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(24). 

فقال وفد نجران: إنا لا نزدادُ منكَ في أمر صاحبنا إلا تبايُناً، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك(25).

فأنزلَ الله عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(26), فدعاهُم إلى المباهلة، فقبلوا، واتفق الطرفان على أن يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

يوم المباهلة وخروج النبي بالحسنين وأبويهما (صلوات الله عليهم):

ذكر جملة من أكابر علماء أهل السنة -كالزمخشـري في الكشاف(27),والفخر الرازي في تفسيره(28), وابن الأثير في الكامل(29)- خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمباهلة بأهل بيته (عليهم السلام), وقد أنصفوا فيما أفادوه وأجادوا, وأنقل هنا قول الزمخشـري ففيه الكفاية لمن أراد الهداية, وإليك فيما يأتي نص كلامه:

أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشـي خلفه وعليٌّ خلفها وهو يقول: «إذا أنا دعوت فأمّنوا», فقال أسقف نجران: يا معشـر النصارى، إني لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصـراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا قال: «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا. قال: «فإني أناجزكم» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا ترددنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد. 

فصالحهم على ذلك، وقال: «والذي نفسـي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.

وممن ذكر ذلك أيضا السيد ابن طاووس (ره)، أحد أكابر علماء الشيعة، فقد روى في كتابه الموسوم بـ«إقبال الأعمال» ما نصه: «أقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعارهم من راياتهم وألويتهم وأحسن شارتهم وهيأتهم، لينظروا ما يكون من الأمر.

ولبث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجرته حتى متع النهار، ثم خرج آخذاً بيد على والحسن والحسين أمامه وفاطمة من خلفهم (عليهم السلام)، فأقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف من بينهما من تحت الكساء على مثل الهيأة التي خرج بها من حجرته، فأرسل إليهما يدعوهما إلى ما دعاه إليه من المباهلة.

فأقبلا إليه فقالا: بمن تباهلنا يا أبا القاسم؟ قال: بخير أهل الأرض وأكرمهم على الله عز وجل، بهؤلاء وأشار لهما إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، قالا: فما نراك جئت لمباهلتنا بالكبر ولا من الكثر ولا أهل الشارة ممن نرى ممن آمن بك واتبعك، وما نرى هاهنا معك إلا هذا الشاب والمرأة والصبيين، أ فبهؤلاء تباهلنا؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم، أو لم أخبركم بذلك آنفاً، نعم بهؤلاء أمرت والذي بعثني بالحق أن أباهلكم. فاصفارّت حينئذٍ ألوانهما وكرا وعادا»(30).

_________________________________

(1) سورة ال عمران : 61.

(2) سورة ال عمران : 61.

(3) سورة آل عمران: الآية 59.

(4) سورة المؤمنون: الآية 14.

(5) تفسير الصافي، للفيض الكاشاني, 1: 343.

(6) ينظر: تفسير الميزان للسيد الطباطبائي, 1: 352, بتصرف.

(7) سورة آل عمران: الآية 59.

(8) سورة يس: الآية 82.

(9) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير- للفيومي- 1: 64.

(10) مقاييس اللغة - لابن فارس- 1: 310 – 311.

(11) انظر: أساس البلاغة - للزمخشري- 1 : 85.

(12) انظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية -للجوهري- 4 : 1642- 1643.

(13) انظر: مفردات ألفاظ القرآن - للراغب الأصفهاني- 1 : 122.

(14) التحقيق في كلمات القرآن, 1: 349.

(15) متنقلة الطالبية - لأبي إسماعيل بن طباطبا من أعلام القرن الخامس الهجري, 412.

(16) الأسقُف معرب كلمة يونانية هي إيسكوب وتعني الرقيب والمناظر وهو اليوم منصب أعلى من منصب القسيس. 

(17) بحار الأنوار - للمجلسي - 21: 285.

(18) دلائل النبوة: البيقهي – 5: 385, المصباح المضي –ابن حديدة- 2: 191, سبل الهدى والرشاد – يوسف الصالحي الشامي – 6: 415.

(19) إقبال الأعمال -للسيد ابن طاووس- 2: 311. 

(20) سورة آل عمران: الآية 64. الاقبال: ص 494.

(21) ينظر السيرة الحلبية, 3: 211 -212.

(22) ينظر السيرة الحلبية, 3 : 212.

(23) السيرة الحلبية, 3 : 298, ط: دار الكتب العلمية.

(24) سورة آل عمران, الآية: 59.

(25) بحار الأنوار: ج 21 ص 320.

 (26) سورة آل عمران, الآية: 61.

(27) الكشاف - للزمخشري - 1 : 368 - 369.

(28) مفاتيح الغيب, 2 : 471 -472.

(29) الكامل - لابن الأثير - 2 : 112.

(30) إقبال الأعمال - للسيد ابن طاووس- 2 : 345.