البكاء على الحسين (عليه السلام) علامة ضعف وذل ومغالاة في الدين.
تقرير الشبهة: إنّ الحسين (عليه السلام) قد استشهد قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، والشيعة يبكون عليه، أ ليس البكاء ضعفاً منهم، وهو في الوقت ذاته مغالاة في الدين؟
جواب الشبهة إجمالاً:
أولاً: إنّ الغلو هو تجاوز الحدّ المقرر، والشيعة لم يتجاوزه.
ثانياً: البكاء ليس ضعفاً لا سيما إن كان على سيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام).
ثالثاً: الدليل دلّ على استحباب البكاء.
جواب الشبهة بالتفصيل:
أولاً: إنّ الأصل في الأشياء الجواز ما لم يثبت بالدليل القاطع العدم، والبكاء على سيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام) ليس كذلك، بل ثبت بالدليل القاطع جوازه، بل استحبابه، على ما سنبينه من الروايات.
ثانياً: إنّ الغلو لغة هو تجاوز الحدّ(1) ،وهذا معناه أنّ هنالك حدّ في هذه المسألة (البكاء على سيد الشهداء عليه السلام ) ولا شك أنّ هذه المسألة من المسائل الشرعية، وعليه فلنذهب إلى الشارع الأقدس لنرى هل أنّ البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) طوال هذه الفترة هو من الغلو؟. والجواب: كلا يقيناً على ما سنبينه في الحديث عن الروايات.
ثالثاً: إذا كان الطرف المقابل يتهم الشيعة بالغلو لأنهم يقيمون المأتم على سيد الشهداء (عليه السلام) كلّ عام في محرم وغيره، فبماذا يتهم نفسه وهو لم يقم مأتماً واحداً عليه ؟!, أ ليس هذا من الجفاء لأهل البيت (عليهم السلام) ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) على وجه التحديد؟!.
أ ليس هو مغالٍ في جفائه؟
رابعاً: ليس في البكاء على السبط الشهيد علامة ضعف أو ذل أبداً، كيف والشيعة يمجدون ببكائهم عليه وعلى الذين استشهدوا معه كلّ ذلك العنفوان والصلابة والشموخ الذي تمتع به أولئك الأفذاذ، فأينا أولى بالذل نحن الشيعة، أم من لا يُقيم للواقعة أي وزن، ولا يلتفت إليها، ولا يعيرها أي اهتمام، خنوعاً وخضوعاً للحكام والسلاطين؟
خامساً: نحن لم نبكِ على الحسين (عليه السلام) كقضية عاطفية محضة، أو لأنه ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب - حتى تقول مضى على استشهاده أكثر من ألف عام - بل نبكي على الحسين الدين، والمبدأ، والقيم، والإنسانية، والسمو، والعزة، والكرامة.
سادساً: إنّ الأدلة دلت على جواز البكاء، بل على استحبابه، وإليك ما ورد من الأخبار في ذلك:
1- أخرج ابن سعد عن الشعبي قال مر علي رضي الله عنه بكربلاء عند مسيره إلى صفين وحاذى نينوى قرية على الفرات فوقف وسأل عن اسم هذه الأرض فقيل كربلاء فبكى حتى بل الأرض من دموعه ثم قال دخلت على رسول الله وهو يبكي فقلت ما يبكيك قال كان عندي جبريل آنفا وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطىء الفرات بموضع يقال له كربلاء ثم قبض جبريل قبضة من تراب شمني إياه فلم أملك عيني أن فاضتا(2)
2- حدثني الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن العلا بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول : أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليهما السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا ، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لاذي مسنا من عدونا في الدنيا بوأه الله بها في الجنة مبوأ صدق ، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله ، عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار(3) .
3- حدثني أبي رحمه الله وجماعة مشايخي ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن أبي داود المسترق ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : بكى علي بن الحسين على أبيه حسين بن علي ( عليهما السلام ) عشرين سنة أو أربعين سنة ، وما وضع بين يديه طعاما الا بكى على الحسين ، حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا بن رسول الله اني أخاف عليك أن تكون من الهالكين ، قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله واعلم من الله مالا تعلمون ، اني لم أذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني العبرة لذلك(4) .
4- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ...... ولو كان نبيا مرسلا وقال ما من عبد يبكي يوم أصيب ولدي الحسين إلا كان يوم القيامة مع أولي العزم من الرسل وقال البكاء في يوم عاشوراء نور تام يوم القيامة(5).
5- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الجوهري ببغداد، ثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي، ثنا محمد بن مصعب، ثنا الأوزاعي، عن أبي عمار شداد بن عبد الله، عن أم الفضل بنت الحارث، أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلماً منكراً الليلة! قال: وما هو؟ قالت: إنه شديد، قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعةً من جسدك قطعت ووضعت في حجري! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: رأيت خيراً تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك، فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فدخلت يوماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وآله تهريقان من الدموع! قالت فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي مالك؟ قال: أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا! فقلت: هذا؟! فقال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء! هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)(6). انتهى
سابعاً: ماذا تسمي بكاء يعقوب على فراق يوسف, وكان يعلم بحياته، فهو قد بكى عليه قرابة ثلاثين عاماً حتى ذهب بصره, وها هو القرآن ينقل لنا ذلك في قوله تعالى : (وَ تَوَلى عَنهُمْ وَ قَالَ يَأَسفَى عَلى يُوسف وَ ابْيَضت عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ(84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكرُ يُوسف حَتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَلِكِينَ)(7) فهل كان نبي الله يعقوب مغالٍ, أم جبان, أم على قلوب أقفالها؟!.
خلاصة الجواب:
1- إنّ الأصل في الأشياء الجواز حتى نعلم الحرمة.
2- إنّ البكاء على الحسين (عليه السلام) ليس غلواً، لأنّ الغلو هو مجاوزة الحدّ، ولا مجاوزة بعد أنْ أذن الشارع بذلك.
3- إذا كان بكاؤنا غلواً، وجبناً وضعفاً، فماذا نسمي عدم اهتمام الطرف المقابل بهذه الواقعة الفظيعة.
4- نحن لا نبكي على الحسين (عليه السلام) لأنه ابن رسول الله فقط، بل نبكيه كمبدأ، وعنفوان، وإنسانية، ودين، وقيم.
_____________________________
(1) جمهرة اللغة - (ج 2 / ص 41) ؛ الصحاح في اللغة - (ج 2 / ص 24) ؛ القاموس المحيط - (ج 3 / ص 458)
(2) الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة - أحمد بن حجر الهيتمي المكي - ص 193
(3) كامل الزيارات - جعفر بن محمد بن قولويه - ص 201
(4) كامل الزيارات - جعفر بن محمد بن قولويه - ص 213
(5) الإصابة - ابن حجر - ج 2 - ص 436 - 437
(6) الحاكم في المستدرك: 3 / 176
(7) سورة يوسف؛ ايه 84 – 85
اترك تعليق