هل التباكي حالة من النفاق؟

السؤال: روايات عدة وردت في كتب السنة والشيعة التي تحض على التباكي مثل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» و جلسنا إلى عبد الله بن عمرو في الحجر فقال: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا، لو تعلمون العلم لصلّى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته... اليس التباكي حالة من النفاق فلماذا الحض عليه؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد وردت روايات مستفيضة عن النبيّ الأكرم وأهل بيته (عليهم السلام) في التراث الإسلاميّ، تدلّ على محبوبيّة « التباكي » في الصلاة والدعاء وقراءة القرآن وعلى سيّد الشهداء (عليه السلام).

وقد كان انطباع الأصحاب وحملة الأحاديث، ومن بعدهم الفقهاء والعلماء، عن مفردة « التباكي » انطباعاً إيجابيّاً، أي أنّ المسلمين فهموا منها حُسن التباكي، ولم يفهموا منها الرياء الذي هو طلب المنزلة في قلوب الناس بإراءتهم خصال الخير، فإنّه مذمومٌ في القرآن والسنّة، ومبطلٌ للعمل العباديّ، ويعدّ من كبائر الذنوب.

بل إنّ المعروف عند الفقهاء هو الفتوى بجواز أو استحباب التباكي في الصلاة والدعاء ونحوها من الطاعات؛ عملاً بالأحاديث الواردة، قال العلّامة المجلسيّ: (اعلم أنّ الأكثر جوّزوا التباكي في الصلاة) [مرآة العقول ج12 ص55].

وهذا يعني أنّ علماء المسلمين فهموا من « التباكي » معنىً يخالف معنى الرياء تماماً؛ إذ لا يخفى عليهم أنّ الرياء محرَّم مذموم، في حين أنّ التباكي مستحبّ محبوب.

ولكي نعرف معنى « التباكي »، فإنّه لا بدّ من سبر الأحاديث، وكلمات العلماء في هذا الصدد، فإنّ المستفاد منها وجود معنيين صحيحين لـ « التباكي »:

أحدهما: طلب البكاء:

وهو حمل النفس على البكاء باستحضار المعاني الموجبة له، أي: طلب البكاء من طريق الاستدعاء لأسبابه، وحينئذٍ قد يترتّب على هذا الطلب فيضان العيون بالدموع – وهو البكاء – وقد لا يترتّب، فهذا الحمل والطلب يسمّى تباكياً.

ويدلّ على هذا المعنى: الأحاديث الشريفة، وكلمات العلماء:

1ـ الأحاديث الشريفة:

منها: ما رواه الشيخ الكلينيّ عن سعيد بن يسار قال : « قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: إنّي أتباكى في الدعاء وليس لي بكاء؟ قال: نعم، ولو مثل رأس الذباب » [الكافي ج2 ص483].

ومنها: ما رواه عنه أيضاً قال: « قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: أيتباكى الرجل في الصلاة؟ فقال: بخٍ بخٍ، ولو مثل رأس الذباب » [الكافي ج3 ص301].

ومن الظاهر أنّ التباكي في الحديثين بمعنى حمل النفس على البكاء؛ بقرينة قوله (عليه السلام): « ولو مثل رأس الذباب »، فهذا التباكي سبب لخروج دمع من العين ولو مثل رأس الذباب، ويُؤجر العبدُ على ذلك.

ومنها: ما رواه الكلينيّ عن عنبسة العابد قال: « قال أبو عبد الله - عليه السلام -: إنْ لم تكن بك بكاء فتباكَ » [الكافي ج2 ص483].

ومنها: ما رواه عن إسماعيل البجليّ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: « إن لم يجئك البكاء فتباكَ، فإنْ خرج منك مثل رأس الذباب فبخٍ بخٍ » [الكافي ج2 ص484].

وهذان الحديثان ظاهران في أنّه لو لم تتوفّر حالة البكاء – لقسوة القلب أو تشتّت الخواطر أو غير ذلك – فينبغي طلبها وحمل النفس عليها، وهو ما يُسمّى بالتباكي.

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق أنّ منصور بن يونس سأل الإمام الصادق - عليه السلام -: «عن الرجل يتباكى في الصلاة المفروضة حتّى يبكي، فقال: قرّة عين والله، وقال - عليه السلام -: إذا كان ذلك فاذكرني عنده » [من لا يحضره الفقيه ج1 ص317].

وهذا الحديث واضح في أنّ « التباكي » هو طلب البكاء؛ لأنّ السؤال « عن الرجل يتباكى.. حتى يبكي»، أي أنّ طلبه وحمل نفسه على البكاء استتبع البكاء الفعليّ.

ومنها: ما رواه الصدوق عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله الصادق - عليه السلام -، قال: « إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله - أتى شباباً من الأنصار، فقال: إنّي أريد أن أقرأ عليكم، فمَن بكى فله الجنّة، فقرأ آخر الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا..} إلى آخر السورة، فبكى القوم جميعاً إلّا شاب، فقال: يا رسول الله، قد تباكيت فما قطرت عيني، قال: إنّي معيد عليكم، فمَن تباكى فله الجنّة، قال: فأعاد عليهم فبكى القوم وتباكى الفتى، فدخلوا الجنّة جميعاً » [الأمالي ص638، ثواب الأعمال ص160].

ومن الواضح من كلام الشاب: « قد تباكيت فما قطرت عيني » أنّه اجتهد وطلب البكاء فلم تقطر عينه.

فهذه الأحاديث وغيرها واضحة الدلالة على أنّ « التباكي » بمعنى: طلب البكاء وحمل النفس عليها وتهيئتها باستحضار المعاني المرقّقة والمدرّة للدمعة.

2ـ كلمات العلماء:

قال الجوهريّ: (وتباكى: تكلّف البكاء) [الصحاح ج6 ص2284]. ومثله ابن منظور في [لسان العرب ج14 ص83].

وقال ابن الأثير: (فيه: « فإنْ لم تجدوا بكاءً فتباكوا »، أي: تكلّفوا البكاء) [النهاية ج1 ص150]. وقال مثله ابن منظور في [لسان العرب ج14 ص82].

وقال الغزاليّ: (لأنّ التباكي استجلابٌ للحزن) [إحياء علوم الدين ج2 ص304].

وقال الدهلويّ: (« فإن لم تستطيعوا ‌فتباكوا » بفتح الكاف أيضاً، أمرٌ من ‌التباكي، والمراد اخشوا واتّقوا حتّى تنجوا من عذاب النار يوم الآخرة المفضي إلى البكاء أشدّ البكاء) [لمعات التنقيح ج9 ص156].

وقال العلامة المجلسيّ: (والتباكي حمل النفس على البكاء، والسعي في تحصيله) [مرآة العقول ج12 ص56].

وجاء في أجوبة استفتاءات موقع المرجع السيّد السيستانيّ: (وأمّا التباكي: فليس المراد به إظهار البكاء أمام الآخرين، بل هو بمعنى تكلّف الإنسان البكاء على ما يراه حقيقاً به، ولكنّه يواجه لحظة جفافٍ في قلبه ومشاعره، فيتكلّف البكاء عسى أن يستجيب قلبه وتتدفّق مشاعره لنداء عقله).

والمعنى الثاني: التشبّه بالباكين:

إنّ إظهار البكاء يكون بالتشبّه بالباكين في الهيئة مع عدم حصول البكاء حقيقة؛ لعدم تهيؤ النفس للبكاء، بسبب تشتت الذهن وقسوة القلب ونحوه، فإنّ التباكي وهو إظهار البكاء مطلوب لمَن يكون هذا حاله، باعتبار أنّ التشبّهَ بفعل الصالحين فعلٌ حسن، وهذا التباكي يعدّ مقدّمة للبكاء ولو قليلاً.

وإليك بعض كلمات العلماء:

قال مظهر الدين الزيدانيّ: (قوله: « فإنْ لم تستطيعوا فتباكوا »، التباكي: إظهار البكاء عن نفسه من غير أن يبكي، أي: تكلّف عن نفسه البكاء... يعني: إن لم تقدروا على البكاء فأَظهِرُوا البكاءَ عن أنفسكم، فإنّه مقدمةُ البكاء) [المفاتيح في شرح المصابيح ج6 ص38].

وقال العلامة المجلسيّ: (والتباكي حمل النفس على البكاء، والسعي في تحصيله بما مرّ، وقيل: المراد به إظهار البكاء والتشبّه بالباكين في الهيئة، وهو أيضاً حسن، فإنّ مَن تشبّه بقومٍ فهو منهم)، ثمّ استظهر المعنى الأوّل. [مرآة العقول ج12 ص56].

وقال المولى المازندرانيّ: (والتباكي إظهارُ البكاء مع عدمه، وفيه تشبّه بالباكي، وهو مطلوبٌ، مع أنَّه قد يفضي إلى البكاء ولو قليلاً) [شرح أصول الكافي ج10 ص255].

وقال السيّد المقرّم: (التباكي وهو التشبيه بالباكي من دون أن يخرج منه دمع... ومعلوم أنّ التباكي إنّما يتصوّر فيمن تتعسّر عليه الدمعة، لكنّه لم يفقد التأثّر لأجل المصاب، كما يُشاهد في كثير من الناس... وهذه الأحاديث تدلّنا على أنّ التباكي منبعث عن حزن القلب.. فالباكي والمتباكي مشتركان في احتراق القلب وتأثّر النفس لأجل تصوّر ما ورد من الظلم على أهل البيت – عليهم السلام –، ومشتركان في لازمه وهو النفرة والتباعد عن كلّ مَن دفعهم عن مقامهم. ومَن لا يفقه مغازي كلام المعصومين – عليهم السلام – يحكم بالرياء على المتباكي) [مقتل الحسين ص121ـ123].

وهذا المعنى – أي إظهار البكاء – لا يلازم الرياء، فإنّ الرياء هو إراءة الناس خصال الخير من أجل المنزلة والرفعة في قلوبهم، فالمرائي يفعل الفعل من أجل الناس، في حين أنّ التشبّه بالباكين ينبغي أن يكون لله تعالى لا لغيره، ولهذا كان استحبابه في مثل الصلاة والدعاء وقراءة القرآن وعلى سيّد الشهداء (عليه السلام).

وبعبارة أخرى: إنّ إظهار فعل الخير تارةً يكون لله تعالى، وتارة يكون لغير الله تعالى، والأوّل هو الإخلاص، والثاني هو الرياء، والرياء كما يمكن أن يتحقّق في إظهار البكاء فيما لو قصد به أنْ تكون له منزلة في قلوب الناس يتحقّق أيضاً في الصلاة والصيام والحجّ والزكاة وكلّ أفعال الخير، فالرياء شيء يرتبط بقلب الإنسان ونيّته وما يخفيه في ضميره، وكذلك الإخلاص.

مع أنّ التباكي بمعنى إظهار الفعل قد يكون في مكان عامّ مع وجود الآخرين فيه، وقد يكون في خلوةٍ مع عدم وجود الآخرين فيه، فإنّ التباكي على سيّد الشهداء (عليه السلام) وفي أثناء الدعاء وتلاوة القرآن يمكن أن يكون في خلوةٍ مع عدم وجود أحد، فإنّ هذا المتباكي ينال الثواب المقرّر إن شاء الله.

أضف إلى ذلك: أنّ الشارع المقدّس شرّع بعض الأعمال التي طبيعتها ظاهرة ومُجاهَر بها، كالحجّ وصلاة الجمعة والجماعة ونحوها، فإنّ طبيعة هذه الأفعال أنّها تكون ظاهرة، وأمر الله تعالى العباد أن يخلصوا في نيّاتهم ويمتثلوا هذه الأعمال لله تعالى، وحرَّم عليهم الرياء، وهذا يعني عدم وجود ملازمة بين إظهار الشيء وبين الرياء.

والحمد لله ربّ العالمين