هل صحيح أنّ الله تعالى لا يعذب إلا على الكبائر فقط؟

السؤال: إذا كنتُ لم أقم بأذيةِ أحد من الناس، ولم أرتكب كبيرة من الكبائر، فلماذا أفكر في مصيري بعد الموت، بل ولماذا أصلي وأصوم، وأنا أعلم أن الله غفور رحيم، وأن أعمالي الصالحة ستشفع لي يوم القيامة، كما أنه ليس من العدل أن يعذبني الله بالنار وأنا لم أرتكب كبيرة من الكبائر؟!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

هذا السؤالُ متشعبٌ، كما أنّه يشتمل على كثيرٍ من المغالطات، ويحوي الكثيرَ من الاشتباهات التي ربّما وقع السائل الكريم فيها نتيجة عدم اطلاعه على الفكر الديني، وعدم وعيه وفَهمه للمفاهيم الدينية على وجها الصحيح.

لذا ربّما يكفينا في الإجابة أن نوضحَ تلكَ المفاهيمَ، ونُبينَها على حقيقتها، وبذلك ترتفع هذه الاشتباهات كلها بإذن الله تعالى.

أولاً: لا يَصحّ بأيّ حالٍ من الأحوال أن يغفل الإنسان عن الآخرة، ولا يفكر في مصيره بعد الموت، وذلك أنّ بدايةَ الانحراف، والانسياق مع الشيطان والنفس والهوى هي الغفلة عن الآخرة، وعدم التفكير في مصيره بعد الموت.

إنّ التفكيرَ في الموت وما يعقبه من الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب، ومن ثَمّ تحديد مصير الإنسان ليكون في الجنة أو النار، يعتبر من أهم العوامل التربوية للنفس الإنسانية، لأنه يدفع الإنسان إلى الطاعة طمعاً في الجنة، ويردعه عن المعصية خوفاً من النار، ولذا وردت الأحاديثُ الكثيرةُ في الحثّ على أن يكثرَ الإنسانُ من ذكر الموت، وأن يعيش بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء.

وهذه الحالة يجبُ أنْ يعيشَها كلُّ إنسان، حتى الذين هم في أعلى درجات الإيمان، فضلاً عن عامّة الناس، أو الذين لا يكفّون عن ارتكاب الذنوب والمعاصي لتصورهم الخاطئ أنها صغيرةٌ، ولن يعذبَهم الله تعالى عليها!

ثانياً: يتصورُ السائل الكريمُ أنّ العقوبةَ لا تكون إلا على الذنوب التي يرتكبها بحق الآخرين، أما الذنوب التي يرتكبها بحق الله عز وجل فهو معفو عنها وغير محاسب ولا معاقبٍ عليها.

وهذا أيضاً اشتباه كبير، وتصور خاطئ جداً، لا يقرّه عقل ولا نقل، ولا ندري على ماذا اعتمد السائل في تصوره هذا!

فصحيحٌ أنّ الذنوبَ أنواعٌ أو أقسامٌ، فمنها ما هو بحق الله تعالى، ومنها ما هو بحق الآخرين، ومنها ما هو بحق النفس، ولكن ليس معنى ذلك أنّ الإنسانَ لن يُحاسبَ إلا على نوع دون النوع الآخر، وليس هناك دليل عقلي ولا نقلي يدلّ على هذا المعنى الغريب العجيب! بل الأدلة العقلية والنقلية كلّها قائمة على إثبات حقيقة أنّ الإنسانَ محاسَب على جميع أعماله الصالحة والطالحة ليجزيه الله تعالى عليها الجزاء الأوفى.

ثالثاً: يعتقدُ السائل الكريم أن الله عز وجل لا يحاسبُ ولا يعاقبُ إلى على الذنوب الكبيرة دون الذنوب الصغيرة، بل ذهب إلى أكثر من ذلك فحكم بأنّه من الظلم أن يعاقبَ اللهُ تعالى على الصغائر!

ويكفي في إثبات بطلان اعتقاده ما أشرنا إليه من أنّ كلّ هذه الأقوال ما هي إلا اشتباهات كبيرة، وتصورات خاطئة، ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، وليس لها ما يدل عليها أبداً وعلى الإطلاق، بل هي مخالفة للعقل الذي يحكم بوجوب محاسبة الإنسان على ما يصدر منه من قول أو فعل، وللنصوص الإسلامية التي تدل وتؤكد على محاسبة الإنسان على جميع أعماله، حتى قال سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

فكيف -والحال هذا- نذهب إلى أنّ اللهَ لن يعذبنا إلا على الكبائر، وأنّه ليسَ من العدل أن يحاسبنا على الصغائر؟!

ثم إنّ مبحثَ (الكبائر والصغائر) من المباحث العميقة التي لا يسعُها هذا الجوابُ المختصر، ولكن يكفي أنْ نعلمَ أنه ورد في عدة أحاديث عن المعصومينَ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أنه (لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع الإصرار) مما يعني أنّ الإصرارَ على الصغائر هو من الكبائر، ولذا فمن الواجب على الإنسان أن يترك الذنوب كلّها، وأن يتورّع عن صغائرها وكبائرها، وأن يعي جيداً أنّ الإصرارَ على الذنب (مهما كان نوعه وحجمه) فيه استخفاف بالله تعالى، واستهانة بأمره سبحانه وتعالى، وتجاهل لنهيه، وهذا من أكبر الكبائر، وأعظم الموبقات.

رابعاً: يرى السائل الكريم أنه لا داعي للصلاة والصيام لأن الله تعالى غفورٌ رحيم، كما أن أعماله الصالحة ستشفع له يوم القيامة؟!

ولا أدري، فرُبّما ذهبَ إلى هذا الرأي لتصوره أنّ تركَ الصلاةِ والصيام من الصغائر التي ليس من العدل أن يحاسبنا الله تعالى عليها!

ونحن ننبهه إلى أن هاتين الفريضتين من أعظم الفرائض في الإسلام، وأنّ التهاونَ فيهما فضلاً عن تركهما يُعَدّ من أعظم الذنوب وأكبرها.

فشهر رمضان هو أعظمُ الشهور وأفضلها، لأنه شهر الله تعالى، والإنسان المؤمن يكون في هذا الشهر في ضيافته عز وجل، ومن الواجب عليه أنْ يرعى هذه الضيافة الإلهية حقّ رعايتها، إذ كما أن الأجر والثواب يتضاعف في هذا الشهر العظيم، كذلك العقاب يتضاعف لمن يهتك حرمة هذا الشهر بعدم صومه، أو ارتكاب الذنوب والمعاصي فيه، ويكفي السائل الكريم أن يرجع إلى خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في بيان عظمة هذا الشهر عند الله عز وجل لتتجلى له الحقيقة بأجلى مظاهرها.

أما الصلاة فهي -كما في النصوص الإسلامية- عمود الدين، وأول ما يُسأل عنه الإنسان في قبره، فإن قُبِلَتْ قُبِلَ ما سواها وإن رُدّتْ رُدّ ما سواها من الأعمال، وقد أكد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أنّ شفاعتهم صلوات الله عليهم لن تنال مستخفاً بها، المتهاون في أدائها، كما توعد الله تعالى الساهين عنها بقوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، وإذا كان هذا فقط لمن يسهو عن صلاته، فلا يهتم بها، ويؤخرها عن وقتها من دون عذر...فما بالك بمن سيتركها بالمرة؟!

وصحيحٌ أنّ اللهَ غفور رحيم، لكن رحمته ومغفرته إنما هي للتائبين النادمين، وليست للذين يستخفون به، ويتركون فرائضه، ويصرّون على معصيته.

ولا بأسَ أنْ نختمَ جوابَنا هذا بتنبيه السائل الكريم بما سبق تنبيهه إليه من أنّ كُلّ ما جاء في أسئلتهِ هذه إنما هو أوهام واشتباهات وتصورات خاطئة جداً، كما أنّها خطيرة جداً، لأنّها تجعل الإنسان يتجرأ على الله تعالى، ويبرز إليه بالمعصية، فيورد نفسه موارد الهلكة، أجارنا الله جميعا من ذلك، وهدانا للتي هي أقوم، ووفقنا للتوبة وترك صغائر الذنوب وكبائرها، وشملنا بلطفه ومغفرته ورحمته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.