هل جميعُ رواياتِ حديثِ الإفكِ مرويّةٌ عَن عائشةَ فقط؟

: السيد عبدالهادي العلوي

 السّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه،  

المعروفُ عندَ الإماميّةِ (أنارَ اللهُ برهانَهم) أنّ المقذوفةَ في حادثةِ الإفكِ ـ التي نزلَت بشأنِها الآياتُ الشّريفةُ في سورةِ النّور ـ هي السيّدة الجليلةُ ماريّةُ القبطيّة (رضوانُ اللهِ عليها).. والمعروفُ عندَ المُخالفينَ أنّ المقذوفةَ في الحادثةِ هي عائشةُ بنتُ أبي بكر.   

والملاحظ عندَ سبرِ مُستندِ المُخالفينَ للقولِ بأنّ المقذوفةَ هيَ عائشةُ بنتُ أبي بكر، نجدُ أنّ جميعَ الأحاديثِ الواردةَ عندَهم بهذا الشأنِ ـ إضافةً لكثرةِ تناقضاتِها ومخالفتِها لمسلّماتِ التاريخِ ـ مرويّةٌ عن طريق عائشةَ نفسِها، يلاحظ: صحيحُ البُخاري ج5 ص55، ج6 ص11، صحيحُ مُسلم ج8 ص113، مسندُ أحمد ج6 ص194، مصنّفُ عبدِ الرّزّاق ج5 ص410، السّننُ الكُبرى للنّسائي ج6 ص415، صحيحُ إبنِ حبّان ج10 ص13، المعجمُ الكبيرُ ج23 ص118، وغير ذلك.   

وما قد يُتراءى مِن بعضِ المصادرِ مِن كونِها مرويّةً عَن أمّ رومان ـ وهيَ أمّ ُعائشةَ ـ كما في [صحيحِ البُخاري ج5 ص60]، وعن إبنِ عبّاس كما في [المعجمِ الكبيرِ للطبرانيّ ج23 ص123]، وعن أبي هريرةَ [كما في مجمعِ الزّوائد ج9 ص230]، فالصّحيحُ أنّها مرويّةٌ عن عائشةَ نفسهِا، بيانُ ذلك:   

أمّا رواية أمّ رومان ـ التي رواها البخاريّ ـ فيرويها عنها مسروقُ بنُ الأجدع الذي قدمَ المدينةَ بعدَ شهادةِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وقد توفّيَت أمّ رومانَ في حياةِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فكيفَ يروي مسروق عَن أمِّ رومان؟! وهذا ما دفعَ علماءَ المُخالفينَ للإستشكالِ في حديثِ البُخاريّ، كالخطيبِ حيثُ قال ـ كما في [هدي السّاري ص371]ـ: « أخرجَ البخاريّ عن مسروق عَن أمِّ رومان ـ وهيَ أمُّ عائشة ـ طرفاً مِن حديثِ الإفك، وهوَ وهمٌ، لم يسمَع مسروق مِن أمِّ رومان؛ لأنّها توفّيَت في عهدِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وكانَ لمسروق حينَ توفّيَت ستُّ سنين »، ومنَ المعلومِ انّ مسروق أدركَ عائشةَ وحدّثَ عنها كثيراً، فالحديثُ في الحقيقةِ عن عائشةَ نفسِها، ولِهذا قالَ إبنُ عبدِ البرّ في [الإستيعاب ج2 ص128]: « روايةُ مسروق عَن أمِّ رومان مرسلة، ولعلّهُ سمعَ ذلكَ مِن عائشة ».   

وأمّا روايةُ أبي هريرةَ وروايةُ إبنِ عبّاس فالصّحيحُ أنّها عَن عائشةَ أيضاً؛ لأنّ أبا هريرةَ قدمَ المدينةَ في السنةِ السّابعةِ وإبنُ عبّاسَ قدمَ المدينةَ مُهاجِراً في السنةِ الثّامنةِ، بينما حصلَت الحادثةُ في غزوةِ بني المُصطلق التي حصلَت في السّنةِ الرّابعةِ أو الخامسةِ، فكيفَ لهُما أن يرويا شيئاً لم يشهداهُ دونَ سماعِه عَن عائشةَ، سيّما مع ذكرِ تفاصيلَ لا يسعُ لغيرِ عائشةَ روايتَها؟!   

فالصّحيحُ أنّ جميعَ الرّواياتِ الواردةَ بشأنِ كونِ المقذوفةِ هيَ عائشةُ بنت أبي بكرٍ مرويّةً عَن عائشةَ نفسِها، مع انّ الحادثةَ ـ حسبَ روايتِها ـ لم تكُن صغيرةً، بل حدثَت ضجّةٌ بسببِها، وشاعَ الأمرُ بينَ الجيشِ الذي كانَت عائشةُ ضمنَهم، ثمّ خطبَ النبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وحدثَ تشاجرٌ بينَ الأوسِ والخزرجِ في هذا الشأنِ في المسجدِ، وإستشارَ النبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) وأسامةَ بنَ زيدٍ، وكانَ القاذفونَ ـ حسبَ روايتِها ـ حسّانٌ ومسطحٌ وحمنةَ، وكانَ المُتّهمُ بالجنايةِ صفوانُ بنُ المعطّل.. أينَ روايةُ جميعِ هؤلاء؟ أينَ أحاديثُ المُتّهمِ صفوان ليبرّأ ساحتَه عنِ التّهمة؟ أينَ أحاديثُ القاذفينَ وتوبتِهم حسانٌ ومسطحٌ وحمنة؟ أينَ أحاديثُ المستشارينَ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) وأسامةَ بنِ زيد؟ أينَ أحاديثُ زوجاتِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)؟ أينَ أحاديثُ المُهاجرينَ والأنصار؟!   

فإنعدامُ أحاديثِ جميعِ المُرتبطينَ بالقضيّةِ المُدّعاةِ ـ المُتّهمِ بالجنايةِ، والقاذفينَ، والمستشارينَ، وزوجاتِ النبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، والمُهاجرينَ والأنصارِ ـ يضعُ علامةَ إستفهامٍ كبيرةً جدّاً على أصلِ القصّةِ، فهل جميعُ المُسلمينَ فقدوا الذّاكرةَ بخصوصِ تلكَ الحادثةِ سوى عائشةَ حتّى تختصَّ بروايتِها؟!   

معَ ملاحظةِ أنّ تفاصيلَ الحادثةِ في روايتهِا مليئةٌ بالإشكالاتِ والتناقضاتِ والمُخالفاتِ؛ كدعوى حياةِ أشخاصٍ موتى، ودعوى موتِ أشخاصٍ أحياء، ودعوى نزولِ الجيشِ بمكانٍ لا ماءَ فيه مع أنّه معروفٌ بأنّ فيهِ مياهاً، ودعوى نزولِ آياتِ التيمّمِ حينَها معَ أنّها كانَت قد نزلَت مِن قبلُ، ودعوى نزولِ الحجابِ قبلَ الغزوةِ بينَما نزلت بعدَها، ودعوى أنّ المتّهمَ صفوان كانَ حصوراً ولا يقاربُ النّساءَ معَ أنَّ لهُ زوجةً وقَد إشتكتهُ للنّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بسببِ كثرةِ شبقِه، وغيرِ ذلكَ منَ الدّعاوى الكثيرةِ المُتناقضةِ، وهيَ بمجموعِها تشكّلُ قرينةً قويّة على كونِ أصلِ القصّةِ مُختلقةً لا أصلَ لها ولا أساسَ.   

أمّا الرّواياتُ الواردةُ في أنّ المقذوفةَ هيَ السيّدةُ الطّاهرةُ ماريّة القبطيّة (رضوانُ اللهِ عليها) فهيَ مرويّةٌ عَن أئمّتِنا المعصومينَ (عليهم السّلام)، كما أنّها مرويّةٌ عَن جُملةٍ منَ الصّحابةِ، بل وروتها عائشةُ أيضاً، ويظهرُ مِن رواياتِها أنّه كانَ لها دورٌ كبيرٌ في إثارةِ التّهمةِ وتصويبِ أقوالِ أهلِ الإفك.

روى الحاكمُ النيسابوريّ في [المُستدركِ ج4 ص39] بإسنادِه عَن عائشةَ قالَت: « أُهديَت مارية إلى رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ومعها إبنُ عمٍّ لها قالَت فوقعَ عليها وقعةً فاستمرّت حاملاً، قالَت: فعزلَها عندَ إبنِ عمّها، قالت: فقالَ أهلُ الإفكِ والزّورِ مِن حاجتِه إلى الولدِ، إدّعى ولدَ غيره، وكانَت أمّه قليلةَ اللّبنِ، فابتاعَت لهُ ضائنةً لبوناً، فكانَ يُغذّى بلبنِها فحسُنَ عليه لحمُه، قالَت عائشةُ: فدُخلَ بهِ على النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ذاتَ يومٍ فقالَ: كيفَ ترينَ؟ فقلتُ: مَن غُذِّيَ بلحمِ الضّأنِ يحسنُ لحمُه، قالَ: ولا الشّبهَ؟ قالَت: فحملَني ما يحملُ النّساءَ منَ الغيرةِ أن قلتُ: ما أرى شبهاً، قالَت: وبلغَ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ما يقولُ النّاسُ، فقالَ لعليّ: خُذ هذا السّيفَ فانطلِق فاضرِب عنقَ إبنِ عمِّ مارية حيثُ وجدتَه، قالَت: فانطلقَ فإذا هوَ في حائطٍ على نخلةٍ يخترفُ رطباً، قالَ: فلمّا نظرَ إلى عليّ ومعهُ السّيفُ إستقبلَتهُ رعدةٌ، قالَ: فسقطَت الخرقةُ فإذا هوَ لم يخلِق اللهُ (عزّ وجلّ) لهُ ما للرّجالِ شيءٌ ممسوح ». وجاءَ في [شرحِ نهجِ البلاغةِ للمُعتزليّ ج9 ص195] عن موقفِ عائشةَ حينَ ماتَ إبراهيم: « .. ثمّ ماتَ إبراهيمُ، فأبطنَت شماتةً وإن أظهرَت كآبةً.. ».   

وينبغي التنبّهُ إلى أنّ قضيّةَ إتّهامِ أهلِ الإفكِ للسيّدةِ مارية (رضوانُ اللهِ عليها) ثابتةٌ عندَ الشّيعةِ وعندَ المُخالفينَ ـ وهيَ مرويّةٌ عندَهم في [صحيحِ مُسلم ج8 ص119] وغيرِها ـ، إلّا أنّ المُخالفينَ يرونَ أنَّ حادثةَ الإفكِ حصلَت مرّتينِ، فكانَت المقذوفةُ في إحداها هيَ عائشةُ وفي الثانيةِ هيَ السيّدةُ مارية، ويرونَ أنّ الآياتِ الشّريفةَ في سورةِ النّورِ نزلَت في الحادثةِ التي حصلَت بخصوصِ عائشة.. ولكن، حيثُ تبيّنَ ـ ممّا سبق ـ أنّ الحادثةَ التي حصلَت مع عائشةَ لا أساسَ لها منَ الصحّةِ، فيثبتُ كونُ الآياتِ المعنيّةِ نزلَت في حادثةِ السيّدةِ مارية.  

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.