هل العلمانيّةُ تمثّلُ الصّورةَ المثاليّةَ للمُجتمعِ الإنساني؟  

هناكَ من يدّعي قائلاً إنّ العلمانية تؤسسُ لحياة إجتماعية يسعدُ الإنسان في ظلها بينما الإسلام لم يؤسس للبشرية سوى القتل والحروب والتعصب؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

هذا إدّعاءٌ عريضٌ يرفعُه دُعاةُ العلمانيّةِ دائماً وقد يكونُ خادِعاً للكثيرِ منَ البُسطاءِ، إلّا أنّهُ قد لا يصمدُ أمامَ التحليلِ العلمي، فالنّظرةُ العلميّةُ الفاحصةُ لا تندهشُ بالعناوينِ البرّاقةِ وإنّما تعملُ على فحصِ المُصطلحاتِ وتفكيكِ المفاهيم، فمفهومُ الإنسانِ، والمُجتمعِ، والحياةِ، والسّعادةِ، منَ المفاهيمِ الإشكاليّةِ في بعضِ الأحيانِ، وبخاصّةٍ عندَما تأتي في سياقِ التّرويجِ لبعضِ التوجّهاتِ السياسيّةِ والإجتماعيّة، ولكَي نعودَ بهذه المفاهيمِ لسياقِها الطبيعيّ يجبُ إعادةُ فهمِ الفلسفةِ العامّةِ لوجودِ الإنسانِ في الحياةِ ومن ثمَّ إعادة فهمِ هذه المفاهيمِ في إطارِ تلكَ الفلسفة.  

فالإنسانُ في النّظرةِ العلمانيّةِ والماديّةِ يختلفُ عنِ الإنسانِ في نظرةِ الرّسالاتِ السماويّةِ، ومِن خلالِ هذا التباينِ بينَ النّظرتينِ تتباينُ القيمُ الناظمةُ لحياةِ الإنسانِ، وحينَها لا يمكنُ إيجادُ قواسمَ مشتركةٍ أو معاييرَ مُتّفقَ عليها يمكنُ أن تُرجّحَ لنا بينَ النّظرتين، الأمرُ الذي يوسّعُ دائرةَ الحوارِ ليعودَ بنا مِن جديدٍ للسّؤالِ الفلسفيّ الكبيرِ، ما هوَ الإنسانُ؟ ولماذا وُجدَ؟ وما هوَ الهدفُ مِن وجودِه؟ وفي ظنّي أنَّ إهمالَ هذا السّؤالِ أو الإجابةَ عنهُ في إطارِ البُعدِ المادّي هوَ السّببُ وراءَ الإختلافِ بينَ الإسلامِ والعلمانيّة.  

ومنَ الصّعبِ التّفصيلُ هُنا في البناءِ الفلسفيّ للإسلامِ ومِن ثمَّ المقارنةُ بينَه وبينَ الفلسفةِ الماديّةِ التي حصرَت الإنسانَ في بُعدِ اللذّةِ والشّهوة وتسخير الإنسانِ مِن أجلِ السّعي الدّائمِ للحصولِ على المزيدِ منَ المكاسبِ الماديّة، إلّا أنّنا نؤكّدُ فقط على أنَّ الإسلامَ يحتفظ بمعانٍ خاصّةٍ للإنسانِ وللمُجتمعِ وللحياةِ وللسّعادةِ، ومنَ المعيبِ مصادرةُ تلكَ المعاني لصالحِ معانٍ أخرى أوجدَتها العلمانيّةُ الماديّةُ، فمثلاً نمطُ الحياةِ الغربيّة بوصفِها الصّورةَ المثاليّةَ للعلمانيّةِ ليسَت إلّا تشويهاً للإنسانِ ومسخاً للحياةِ وتدميراً للمُجتمعِ في نظرةِ الإسلام.  

وعليهِ نحنُ لا نُسلّمُ بأنَّ العلمانيّةَ هيَ الخيارُ المثاليُّ للإنسانِ كما لا نُسلّمُ بالتقييماتِ العلمانيّةِ لصورةِ الحياةِ الإجتماعيّةِ والسياسيّة، وفي نفسِ الوقتِ لا ندافعُ عنِ الوضعِ الرّاهنِ أو التاريخيّ للإنسانِ المُسلم، فالعلمانيّةُ قد تمكّنَت مِن صُنعِ واقعِها الإجتماعيّ والسياسيّ الذي ينسجمُ مع رؤيتِها الفلسفيّة، في حينِ أنَّ المُسلمينَ لم يصنعوا بعدُ واقعَهم السياسيَّ والإجتماعيَّ الذي يتماشى معَ فلسفةِ الإسلامِ حولَ الإنسانِ والمُجتمع، وهذا عجزٌ نعترفُ بهِ ونسعى لتفاديهِ إلّا أنَّ الصّورةَ الكاملةَ للمُجتمعِ الإسلاميّ سوفَ تكتملُ عندَ ظهورِ الإمامِ المهديّ المُنتظر وحينَها ستتضحُ المسافةُ الفاصلةُ بينَ الإسلامِ وبينَ كلِّ التوجّهاتِ الماديّة.  

مع ذلكَ فإنَّ النّظرةَ البرجماتيّةَ للمُسلمِ اليوم تجعلهُ يميلُ إلى النّظامِ العلمانيّ أكثرَ منهُ إلى النّظامِ الإسلاميّ، وذلكَ لكونِ الصّورةِ المُتاحةِ للنّظامِ الإسلاميّ صورةً سلبيّةً تصعبُ معها ممارسةُ الحياةِ في أبسطِ صورِها، فالإختلافُ والتناحرُ بينَ أبناءِ الإسلامِ وإستقواءُ بعضِهم على البعضِ الآخرِ بالسّلطةِ السياسيّة يجعلُ العلمانيّةَ والمواطنةَ هيَ الخيارَ الأنسبَ لينعمَ الجميعُ بهامشٍ منَ الحريّةِ تمكّنُه من ممارسةِ عباداتِه بالطريقةِ التي يؤمنُ بها، فواقعُ المُسلمينَ اليومَ جعلهم يتمنّونَ الحياةَ الغربيّةَ بوصفِها المُخلّصَ منَ العذاباتِ التي تحيطُ ببلدانِهم. ومعَ ذلكَ يبقى الإسلامُ هوَ النّظرةَ الشاملة للإنسانِ، ويكفي فقط النّظرُ في القرآنِ والتدبّرُ في آياتهِ لاكتشافِ ما فيهِ مِن قيمٍ لو طُبّقَت لارتفعَت الإنسانيّةُ بهِ مكاناً عليّاً. فهو سرُّ الحياةِ السّعيدةِ التي يطمحُ لها كلُّ عاقلٍ، إلّا أنَّ ما يؤسفُ لهُ أنَّ هناكَ مسافةً فاصلةً بينَ القرآنِ وبينَ المُسلمين.