ما هي الدوافع المبطنة للعلمانية ضد الإسلام؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليسَ هناكَ ضرورةٌ للبحثِ عنِ الأهدافِ المُبطّنةِ طالما هناكَ أهدافٌ معلنةٌ، فالعلمانيّةُ قائمةٌ منَ الأساسِ على إستبعادِ الدّينِ منَ المشهدِ السياسيّ وعزلِه بشكلٍ مُمنهجٍ عَن دُنيا الإنسانِ، وقد يصبحُ هذا الخيارُ متطرّفاً إلى درجةِ الإلحادِ والكُفرِ بالله، ومنَ المحاولاتِ المُبكّرةِ في مواجهةِ المشروعِ العلمانيّ بوصفِه إلحاداً، هوَ ما جاءَ في رسالةِ جمالِ الدّين الأفغاني (الردُّ على الدهريّة)، حيثُ يرى أنَّ كلَّ التيّاراتِ المناهضةِ للأديانِ هي سواءٌ في الإلحادِ مهما تزيّنت بالأسماءِ أو توشّحَت بالصّفاتِ حيثُ يقول: "تخالفَت مظاهرُ الماديّينَ في الأممِ والأجيالِ المُختلفةِ فتخالفَت أسماؤهم فكانوا تارةً يسمّونَ أنفسَهم بسماتِ الحُكماءِ وينتحلونَ الحكيمَ لقباً لأفرادِهم. وأحياناً كانوا يتسيّمون بسيما دافعِ الظّلمِ ورافعِ الجور. وكثيراً ما تقدّموا لمسارحِ الأنظارِ تحتَ لباسِ عرّافِ الأسرارِ وكشفةِ الحقائقِ والرّموز ... وقد كانوا في أوقاتٍ بدعوى السّعي في تطهيرِ الأذهانِ منَ الخرافاتِ وتنويرِ العقولِ بحقائقِ المعلومات. وتارةً يتمثّلونَ في صورِ مُحبّي الفقراءِ وحُماةِ الضّعفاءِ وطلّابِ خيرِ المساكين"
ثمَّ يقدّمُ جمالُ الدّينِ الأفغاني - بوصفِه رائدَ النّهضةِ الإسلاميّة – مقاربةَ الإسلامِ التجديدي التي يراها بديلاً ومنافساً للعلمانيّة بقوله: ".. فهذهِ العقيدةُ أحكمُ مرشدٍ وأهدى قائدٍ للإنسانِ إلى المدنيّةِ الثابتةِ المؤسّسةِ على المعارفِ الحقّة والأخلاقِ الفاضلةِ وهذا الإعتقادُ أشدُّ ركناً لقوامِ الهيئةِ الإجتماعيّة التي لا عمادَ لها إلّا معرفةُ كلِّ واحدٍ حقوقَه وحقوقَ غيرِه عليه والقيامُ على صراطِ العدلِ المُستقيمِ، هذا الإعتقادُ أنجحُ الذّرائعِ لتوثيقِ الرّوابطِ بينَ الأمم لا عقدَ لها إلّا مراعاة الصّدقِ والخضوعَ لسلطانِ العدلِ في الوقوفِ عندَ حدودِ المُعاملات.." .
وفي مقابلِ العلمانيّة الملحدةِ هناكَ علمانيّةٌ يمكنُها التّصالحُ معَ الأديانِ طالما لا تتدخّلُ في الشّأنِ العام، والدينُ ضمنَ هذا الوصفِ يُعتبرُ تجربةً روحيّةً شخصيّةً تمثّلُ صلةً وجدانيّةً بينَ الإنسانِ وبينَ الخالقِ ولا علاقةَ له بالأنظمةِ السياسيّةِ والإجتماعيّة، يقولُ محمّد كامِل ضاهر: "وهيَ تكتفي بنفي أيّ دورٍ (للإلهيّ) أو (الدينيّ) في تنظيمِ شؤونِ المُجتمعِ العامّة كالإدارةِ والسياسةِ والإقتصادِ والتعليمِ والثقافةِ، والإبقاءُ على هذا التنظيمِ بشريّاً بحتاً تتصارعُ فيه برامجُ البشرِ ومصالحُهم الإقتصاديّةُ والإجتماعيّةُ المتغيّرةُ دائماً، دونَ المساسِ بمؤسّساتِ الدّينِ أو التعرّضِ لدورِه في نشرِ مبادئِ الإيمانِ بينَ أتباعِه. وفي هذهِ الحالةِ يبقى الدّينُ مُحتفظاً بقداستِه وبدورِه في تنظيمِ الجوانبِ الروحيّة والأخلاقيّة للإنسانِ دونَ التدخّلِ في الممارساتِ السياسيّة المُتقلّبةِ باستمرار في كلِّ عصرٍ وزمانٍ ومكان، أي أنَّ رفضَ الدّينِ والإيمان ليسَت منَ الخصائصِ الجوهريّة للعلمانيّة"
وهناكَ بعضُ المقارباتِ التي تقدّمُ العلمانيّةَ بوصفِها التوجّهَ الذي لا صلةَ له بالدّينِ أو ما كانَت علاقتُه بالدّينِ علاقةَ تضادٍّ، وقد يتجلّى هذا المعنى في العلمانيّةِ الصلبةِ أو العلمانيّةِ الفرنسيّة، التي تعزلُ الدّينَ عنِ المشهدِ العامِّ بقرارٍ سياسيّ، "أمّا العلمانيّةُ، فإنّها صريحةٌ: إنّها قرارٌ سياسيٌّ يحدّدُ بأسلوبٍ سلطويّ وقانونيّ مكانَ الديني. تنشأ العلمانيّةُ بمرسومٍ تصدرُه الدّولةُ، التي تنظّمُ المجالَ العام" . والتبريرُ الفلسفيُّ لمثلِ هذهِ السّلطةِ الإقصائيّة قائمٌ على كونِ الأديانِ عقبةً في طريقِ الحداثةِ، فالقوانينُ الفرنسيّةُ التي تلاحقُ حتّى الحريّات الشخصيّة مثلَ (الحجابِ) بوصفِه رمزاً دينيّاً، تصنّفُ نفسَها بشكلٍ أو بآخر عدوّاً لدوداً للأديانِ، ومنَ الطبيعيّ أن يتولّدَ موقفٌ سلبيٌّ إتّجاهَ العلمانيّةِ لكونِها تتناقضُ مع المشروعِ الإسلاميّ. "إنَّ شعارَ الإسلامِ على الطريقةِ الفرنسيّةِ أو الإسلامُ الفرنسي يهدفُ صراحةً إلى تفضيلِ إسلامٍ ليبراليٍّ، وحتّى علمانيّ، ما يعني إفراغَ كلِّ دينٍ لا مِن تساميهِ بالضّرورةِ بل مِن مُقتضاهُ المُطلق"
وعليهِ يمكنُنا القولُ إن العلمانيّةِ في أحسنِ حالاتِها تعملُ على إفراغِ الدّينِ مِن محتواهُ الإنسانيّ والحياتيّ، وهذا ما لا يمكنُ التّسليمُ به باعتبارِ أنَّ الإسلامَ رؤيةٌ حياتيّةٌ قبلَ أن يكونَ رؤيًة لما بعدَ الموتِ، ففي الوقتِ الذي يؤكّدُ الإسلامُ على الحريّاتِ وفتحِ الطريقِ أمامَ العقلِ الإنسانيّ لكي يكونَ مساهِماً في بناءِ حياتِه، في ذاتِ الوقتِ يؤكّدُ على بعضِ الجوانبِ الرّوحيّةِ والأخلاقيّة التي تغفلُ عنها هذه التوجّهاتُ المندفعةُ نحوَ الماديّة، وعليهِ لا يمثّلُ الإسلامُ مشروعاً معاكِساً للحداثةِ أو للتطوّرِ البشريّ بل يعملُ على تقديمِ توصياتٍ توفّرُ حالةَ التوازنِ الذي تحتاجُه الإنسانيّةُ بينَ متطلّباتِ الرّوحِ والبدنِ، ويبدو أنَّ الفكرَ الإسلاميَّ وقعَ بينَ توجّهينِ يحملُ كلُّ توجّهٍ منها فهماً مشوّهاً للإسلامِ، فالحالةُ السّلفيّةُ والتراثيّةُ التي لا تسمحُ للعقلِ المُسلمِ بالمواكبةِ والتطوّر حرمَت الأمّةَ منَ المكاسبِ الحضاريّة للإسلامِ، وفي المقابلِ الحالةُ العلمانيّةُ المُندهشةُ بالحضارةِ الغربيّة تصوّرَت الإسلامَ عقبة أمامَ تقدّمِ المُسلمينَ، ويبدو أنَّ الرّؤيةَ المتوازنةَ هيَ التي تجمعُ بينَ الأصالةِ والإنفتاحِ، أي أصالةُ القيمِ والمبادئ السّامية التي يُنادي بها الإسلامُ، والإنفتاحُ الذي يمثّلُ مواكبةَ العقلِ لحركةِ الزّمنِ والتطوّراتِ التي تفرضُها الثقافةُ الرّاهنة.
اترك تعليق