هل العدالةُ في الدّولةِ العلمانيّة أم الدينية؟
لماذا الدولة العلمانية اكثر عداله من الدوله الدينية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
يرتكزُ هذا السّؤالُ على إفتراضِ أنَّ الدّولةَ العلمانيّةَ أكثرُ عدلاً منَ الدّولةِ الدينيّة، ويعدُّ هذا الأسلوبُ نوعاً منَ الإيحاءِ النّفسي الذي يعطّلُ القدرةَ التفكيريّةَ عندَ المُتلقّي فيستحيلُ معهُ إعادةُ النّظرِ في أصلِ هذهِ المُسلّمةِ، وعندَما تنحصرُ ذهنيّةُ المُتلقّي ضمنَ خياراتٍ مُحدّدةٍ ليسَ مِن بينِها مناقشةُ المُدّعى يكونُ حينَها السّؤالُ موجّهاً ومؤدلجاً.
وعليهِ فإنَّ هذا السّؤالَ لا يمكنُ الإجابةُ عليه ما لم يتمَّ إعادةُ إنتاجِه ضمنَ سياقٍ مُحايدٍ ينظرُ بموضوعيّةٍ إلى طرفي المعادلةِ، فعندما يبحثُ السّؤالُ عن العدالةِ بشكلٍ مُجرّدٍ تنفتحُ أمامَه الخياراتُ وتتساوى أمامَه الفرصُ وحينَها يكونُ أكثرَ إنصافاً في المقاربةِ بينَ الإتّجاهاتِ المُختلفةِ، ومِن هُنا قُمنا بتعديلِ السّؤالِ فجعلنا العدالةَ هيَ الهدفَ وجعلنا الدّولةَ العلمانيّةَ والدينيّةَ أحدَ الخياراتِ البحثيّة التي نقاربُ مِن خلالِهما العدالةَ في تجلياتِها المُمكنةِ، وبذلكَ أصبحَت صيغةُ السّؤالِ هيَ (هل العدالةُ في الدولةِ العلمانيّةِ أم الدينيّة؟)
معَ أنَّ طرحَ السّؤالِ بشكلِه الجديدِ يُعدُّ أكثرَ صعوبةً وتعقيداً؛ لأنَّ الإجابةَ لا تكتملُ إلّا بوضعِ مفاهيمَ للكلماتِ المفتاحيّةِ في السّؤالِ مثلَ ما هيَ العدالةُ؟ وما هيَ الدّولةُ؟ وما هيَ الدّولةُ العلمانيّة؟ وما هيَ الدّولةُ الدينيّة؟ إلّا أنَّ ذلكَ يمثّلُ السّياقَ الطبيعيَّ الذي يتمُّ فيه فهمُ المسألةِ بشكلٍ موضوعيٍّ ومنهجي.
منَ الواضحِ أنَّ الإجابةَ الكاملةَ تتطلّبُ بحثاً مفصّلاً قد يستوعبُ كتاباً خاصّاً الأمرُ الذي لا يتناسبُ معَ هذا المقامِ، إلّا أنّني أرتأيتُ التأكيدَ على هذهِ المُلاحظةِ حتّى أضعَ الموضوعَ ضمنَ الإطارِ الصّحيحِ، وسوفَ أكتفي هُنا بإجابةٍ مُختصرةٍ مُعتمداً أسلوبَ التنقيطِ مِن أجلِ ضغطِ الأفكارِ في نقاطٍ مُحددة.
• الدّولةُ بالمفهومِ الحديثِ لا تُعتبرُ النموذجَ النهائيَّ الذي تتعطّلُ معه القدرةُ الإبداعيّةُ للعقلِ الإنسانيّ وإنّما الخياراتُ تظلُّ مفتوحةً أمامَ أنظمةٍ وأشكالٍ غيرِ مُنحصرةٍ لتقديمِ حضارةٍ للإنسانِ أكثرَ إنسجاماً بينَ الرّوحِ والمادّةِ. فاهتمامُ الدّولةِ الحديثةِ بالحاجاتِ الماديّةِ جعلها خياراً ناقصاً لا يمثّلُ الطموحَ الإنساني.
• الدّينُ بالمعنى العامِّ لا بالمعنى الخاصِّ يمثّلُ الضميرَ الأخلاقيَّ للإنسانِ، كما يمثّلُ تطلّعاتِ الرّوحِ إلى عالمِ القيمِ والفضيلةِ، فلا تستقيمُ حياةُ الإنسانِ بعيداً عنهُ بوصفِه عاملَ النّقدِ الدّائمَ للواقعِ الفاسد، فوظيفةُ الدّينِ هيَ وظيفةٌ نقديّةٌ مستقبليّةٌ أو هوَ الرّوحُ الأخلاقيّةُ التي تمنحُ الحضارةَ الإنسانيّةَ الحيويّةَ والفاعليّةَ، وبالتّالي مقاربةُ الدّينِ ضمنَ الإطارِ القشريّ يعدُّ تشويهاً لهُ وطمساً لحقيقتِه، وهذا ما تقعُ فيه المدارسُ العلمانيّةُ عندَما تصوّرُ الدّينَ ضمنَ الشّكلِ الصّوري الجامدِ، في حينِ أنَّ الدينَ لا يحتفظُ بشكلٍ مُحدّدٍ ناهيكَ أن يكونَ جامداً، وإنّما الدّينُ هوَ القيمُ التي تسري في جسدِ الحضارةِ كما تسري الرّوحُ في جسدِ الإنسانِ. فالإسلامُ مثلاً ليسَ إلّا نظامٌ قيميٌّ وأخلاقيّ يقومُ بدورِ المُراقبِ للحركةِ المتجدّدةِ للإنسانِ ويعملُ على ضبطِ تلكَ الحركةِ وِفقاً لتلكَ القيمِ الأخلاقيّة، فالدّينُ يؤكّدُ مثلاً على قيمةِ العدالةِ إلّا أنّهُ لا يفرضُ شكلاً محدّداً أو طريقةً إجرائيّةً لتحقيقِ العدالةِ وإنّما يوكلُ الأمرَ للإنسانِ بحسبِ الظرفِ الزّماني الذي يعيشُه، وفي هذه ِالمرحلةِ يقومُ الدّينُ بدورِ التوصيةِ وحثِّ الإنسانِ بضرورةِ تطبيقِ هذهِ القيمِ، وعندَما يقصّرُ الإنسانُ في تحقيقِ تلكَ القيمةِ لا يتحمّلُ الدّينُ مسؤوليّةَ ذلكَ التّقصيرِ، بل نجدُ أنَّ للدّينِ دوراً ثانٍياً وهو النّقدُ للتجاربِ المُنحرفةِ عن القيمِ. وبالتّالي أيُّ محاولةٍ لإبعادِ الدّينِ عنِ الحياةِ هوَ إبعادٌ للقيمِ الأخلاقيّةِ عن الحياةِ وإبعادٌ للسّلطةِ النقديّةِ التي تمارسُ دورَ الرّغيبِ على الواقعِ التطبيقيّ لتلكَ القيمِ وهو بالتّأكيدِ خيارٌ خاطئٌ يؤدّي حتماً إلى تشويهِ صورةِ الإنسان.
• على المستوى النظريّ يمكنُ للعدالةِ أن تتحقّقَ سواءٌ إعتبرنا النّظامَ الحاكمَ يستمدُّ نظامَه القيميَّ منَ الدّينِ أو يستمدُّه منَ المادّة، إلّا أنَّ الفرقَ يكمنُ في تحديدِ مفهومِ العدالةِ بينَ التجربتينِ، فالعدالةُ الماديّةُ لا يمكنُها تحقيقُ الإعتدالِ والتوازنِ بينَ الحاجاتِ الماديّةِ والحاجاتِ المعنويّة، لكونِها لا تعترفُ بتلكَ الحاجاتِ منَ الأساسِ، في حينِ أنَّ العدالةَ في المفهومِ الديني تعترفُ بجميعِ الحاجاتِ الإنسانيّة وتعملُ على توزيعِ الفُرصِ بينَها بحيثُ لا تكونُ حاجةٌ على حسابِ حاجةٍ أخرى.
• في الإطارِ النّظري لا يمكنُ تقديمُ الدّولةِ العلمانيّة على
الدينيّة، وذلكَ إذا فهمنا العلمانيّةَ بوصفِها إفراطاً في الجانبِ المادي وتفريطاً في الجانبِ الرّوحي والأخلاقي للإنسانِ، وفي المقابلِ إذا فهمنا الدينَ ضمنَ التّوازنِ الذي يُحقّقُ تكاملاً للإنسانِ ماديّاً ومعنويّاً، حينَها تصبحُ العلمانيّةُ خياراً ناقصاً لا يكتملُ إلّا بالدّين.
إلّا أنَّ المُفارقةَ تكونُ واضحةً إذا إنطلقنا في التقييمِ مِن واقعِ التّجربةِ الإنسانيّة، فالتجاربُ الدينيّةُ في الحكمِ قد غلبَ عليها الطابعُ السّلبي، في حينِ أنّنا نجدُ التّجربةَ العلمانيّةَ المُعاصرةَ وبخاصّةٍ في الدّولِ الأوروبيّةَ قد مثّلَت حلماً للأجيالِ حتّى الإسلاميّة، الأمرُ الذي يجعلُ الصّورةَ مشوّشةً يصعبُ معها التمييزُ الموضوعيُّ بينَ التجربةِ الدينيّةِ والتجربةِ العلمانيّة بل قد تفقدُ التجربةُ الدينيّةُ روحَ المُنافسةِ منَ الأساسِ، في حينِ أنَّ التقييمَ المحايدَ والموضوعيَّ يقودُنا إلى القولِ: لا التجربةُ العلمانيّةُ تمثّلُ الصّورةَ المثاليّةَ لِما يطمحُ لهُ الإنسان، ولا التجاربُ الدينيّةُ تمثّلُ تعبيراً صادِقاً عن الدّين، ومِن هُنا نحنُ نؤكّدُ على أنَّ النّقاشَ العلمانيَّ الديني يجبُ إعادةُ طرحِه بنفسٍ نزيهٍ يبحثُ عمّا يمثّلُ طموحاً للإنسانِ، ومنَ الخطأ البحثُ عنِ الطموحِ الإنسانيّ ضمنَ المُقارناتِ التنافسيّة لكونِها تمنعُ الإنسانَ منَ التّفكيرِ في الخياراتِ خارجَ حدودِ ما هو مجرّبٌ بالفعلِ، فبالقدرِ الذي يمكنُ جمعُ شواهدَ مشوّهةٍ للتجربةِ الدينيّةِ يمكنُ جمعُ شواهدَ أيضاً مشوّهةٍ للتجربةِ العلمانيّة، الأمرُ الذي يتطلّبُ منّا إيجادَ مفاهيمَ جديدةً للدّولةِ وللدّينِ وللإنسانِ بعيداً عنِ الإسقاطاتِ السلبيّةِ للتجاربِ التاريخيّة. وعليهِ فإنَّ التيّارَ الدينيَّ والتيّارَ العلمانيَّ يجبُ أن يرتقي إلى مستوى الهمِّ الإنساني والبحثِ مِن جديدٍ مِن أجلِ إعادةِ فهمِ الإنسانِ روحيّاً ومادّيّاً ومِن ثمَّ إيجادِ النّظامِ الذي يلبّي طموحاتِه بعيداً عن جعلِ البحثِ محصوراً بينَ الخياراتِ المُجرّبة، وإذا تمَّ فهمُ الإنسانِ فهماً حقيقيّاً وواقعيّاً على أنّهُ روحٌ وجسدٌ يعيشُ في الدّنيا ويتطلّعُ إلى الآخرةِ، حينَها لا يمكنُ النّظرُ إلى الدّينِ بهذهِ السّطحيّةِ المُتفشّيةِ بينَ التيّاراتِ اللادينيّة.
• في المُحصّلةِ إنَّ العدالةَ مُضافاً إلى أنّها منَ القيمِ الفطريّةِ هيَ أيضاً قيمةٌ إسلاميّة، والإنسانُ مسؤولٌ على المستوى الفطريّ وعلى المُستوى الدينيّ عن تحقيقِ العدالةِ في الواقع، وعليهِ مسؤوليّةُ الإخفاقِ تلاحقُ الإنسانَ بوصفِه كائناً لهُ إرادةٌ لا بوصفِه كائناً متديّناً أو علمانيّاً.
اترك تعليق