هل يمكن أن يستغني الإنسان عن وجود سلطة؟
الشيخ صفاء حسين جودة الحلّي س9: نشأت اللّيبراليّة للتحرّر من قيود {الحاكم والإقطاع والسلطة والدين} وعّبروا عنها (بالفلسفة اللّيبراليّة): التي تُعطي مطلق الحرّيّة في اعتناق أيّ شعائر أو طقوس أو أيّ ممارسات ومن أيّ نوع كانت، طالما لا تُهدّد السلام الإجتماعيّ .... إلخ: وإليكم مثلااً: هُنالك مفهوم شائع لدى العامّة أنّ اللّيبراليّة تدعو إلى الشذوذ الجنسيّ والإلحاد وفي الحقيقة أنّ اللّيبراليّة لاتتّخذ أيّ موقف (مع أو ضدّ) هذه الأفكار أو الممارسات. فهي وإن كانت لا تعرف بأيّ سلطة على الفرد، فهي تأخذ موقفاً صارماً إذا تسبّبت هذه الحرّيّة في الإخلال بالسلام الاجتماعي. أ- تدعو اللّيبراليّة إلى إلغاء السلطة بأيّ وجهٍ كانت. فما جوابكم؟ ب- تعتبر الدين (الثقافة) شيئاً ثانويّاً وتحاربه إن خالف منهجها، فهل من جواب عليها؟ ج- تعتبر اللّيبراليّة بأنّ الإلحاد والحرّيّة الجنسيّة لا يُؤثران على السلام الاجتماعيّ وظاهر كلامهم فيه دعوى إلى الإباحيّة في (الإلحاد والممارسات الجنسيّة) فما جوابكم؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أ- تدعو اللّيبراليّة إلى إلغاء السلطة بأيّ وجهٍ كانت. فما جوابكم؟
لمعرفة خلفيات هذا المشروع لابد من النظر إلى الجذور الفلسفية التي يرتكز عليها، حيث أن إلغاء السلطة مطلقاً لا يفهم إلا في إطار منظور فلسفي يتعامل مع الإنسان بوصفه كائن لا تتقيد حريته بأي شيء، الأمر الذي يدعونا إلى النظر مجدداً لماهية الإنسان فرداً كان أو جماعة، وبعيداً عن استعراض التباين التاريخي لمفهوم الحرية والتطور الدلالي الذي رافق هذه الكلمة، يمكننا أن نقطع بعدم وجود حرية مطلقة فالإنسان الخارج عن الحتميات البيولوجية والاجتماعية لا وجود له، وكذلك الحال لا وجود لمجتمع يجسد الحرية بمفهومها المثالي، إلا إذا افترضنا تماثل وتطابق ذوقي وفكري ونفسي بين جميع افراد المجتمع، وهذا محال بحسب الطبيعة الإنسانية.
ومن هنا نحتاج قبل التطرق لحدود الحرية والمساحة التي يجب أن تتحرك فيها، التعرف أولاً على الإنسان كفرد والإنسان كمجتمع ومن ثم القيام برسم حدود الحرية بحسب الواقعية الممكنة، والواقعية التي نقصدها هي التي يتم إنتاجها بحسب الموقف الجمعي للعقلاء. وبهذا الشكل تصبح الحرية ذات قيمة لأنها توجد ضمن سياقات قيمية تراعي قيمة الإنسان الوجودية، كما تراعي طموحاته ضمن الغايات التي يحددها العقل الجمعي، كما تراعي ايضاً قيمة الفعل ضمن الرؤية الكونية. واللحظة التي يوافق فيها الليبرالي على إدخال ضوابط على الحرية، هي ذاتها اللحظة التي ينفتح فيها النقاش واسعاً أمام كل المرجحات والضوابط بما فيها السلطة الدينية، ولا يجوز الاعتراض حينها طالما السلطة الدينية واحدة من الموجهات الأخلاقية للفعل الإنساني.
وبكلمة مختصرة لا وجود لفرد أو مجتمع مثالي، ورفع القيود عن الإنسان بشكل مطلق قد تتناسب مع الإنسان الكامل الذي ليس فيه نقص، ولكن بعد الاعتراف بالطبيعة الواقعية للإنسان يصبح الكلام عن نوع السلطة التي تحفظ التوازن ضرورة حتمية لا يمكن الاستغناء عنها، وحينها يصبح من المجحف فتح الطريق امام الجميع في الوقت الذي لا نسمح للدين بمجرد المنافسة.
ب- تعتبر الدين (الثقافة) شيئاً ثانويّاً وتحاربه إن خالف منهجها، فهل من جواب عليها؟
الإنسان ليس مجرد كائن حر وحسب وإنما عاقل أيضاً، ودور العقل في الحرية هو تحديد الخيارات الجيدة التي يجب ان يختارها، وبالتالي فتح الطريق امام الإنسان ليمارس اختياراته العقلائية في الحياة ضمن الخطة التي تخدم غايته العليا، وهذه الخيارات العقلائية مرتكزة على مجموعة حقائق منها فطرية، وعقلية، واخلاقية، وعلمية، وبهذا الشكل ينتقل الإنسان من كونه كائن أناني وشهواني يتحرك بدون بصيرة حياتية، إلى مخلوق عاقل ومنضبط بمنظومة من القيم الأخلاقية ومتسامي عن رغباته الدونية.
والنظرة الشاملة للإنسان والمجتمع تقودنا إلى وجود قيم أخرى يهتم بها الإنسان والمجتمع غير قيمة الحرية، مثل قيمة، العدل، العلم، والقدرة، والرحمة، والتسامح، والكرامة، والطهارة، والعزة، والشرف... وسلسلة طويلة من القيم المقدرة عند البشر جميعاً، وبالتالي عندما نقارب الحرية كقيمة اجتماعية لابد من ملاحظة بقية المنظومة القيمة، ومراعاة التداخل الذي قد يحدث بين هذه القيم، الامر الذي يحوجنا إلى دراسة القيم الإنسانية وترتيبها ضمن قانون المهم والأهم، ومن الأخطاء التي وقعت فيها الليبرالية إنها انطلقت من ظرف تاريخي كانت فيه الحرية قيمة ذات أولوية ملحة، ولكنها توقفت عند هذه القيمة من غير ان تراعي القيم الأخرى التي يحتاجها ايضاً الإنسان والمجتمع، أو على الأقل جعلتها القيمة المحورية التي تدور حولها بقية القيم، وهذا غير مسلّم به، لوجود ظروف تتأخر فيها قيمة الحرية لتتقدم قيم أخرى، وخاصة عند تعارض القيم في بعض الظروف الخاصة، فلو تعارضت الحرية مع الأمن مثلاً ايهما نقدم؟ قد يكون الامن لدى الإنسان أكثر أولوية من الحرية، أو لو تعارضت حرية مجتمع معين مع فرض التعليم عليهم، فإيهما أولى قيمة الحرية أم قيمة العلم؟.
وهكذا لابد من رصد شامل للقيم ومراعاتها كحقائق موضوعية بعيداً عن تأثيرات الظرف الزماني والمجتمعي، وهذا هو الباب الذي يمثل فيه الدين ضرورة للإنسان، لكونه نظرة شاملة وموضوعية للإنسان أكثر من نظرة الإنسان إلى نفسه؛ لأن نظرة الإنسان متأثر بالظرف الذي يعيش فيه، ومن هنا نجد ان كل الفلسفات البشرية قد أثر فيها الظرف التاريخي، والمجتمعي، والاقتصادي، والسياسي، والشخصي، بشكل واضح وكبير.
ومع أن هذه القيم هي مشتركات إنسانية وأن معرفتها اقرب إلى البديهة، إلا أن ذلك لا يمنع من غفلة الإنسان عنها وهيمنة الهوى والرغبة الشخصية عليه، فلا يستغني عن تذكير المذكرين وتنبيه العارفين، وهنا تتجلى مهمة الأنبياء بوضوح، كما يصفها أمير المؤمنين (ع) بقوله: (فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إليهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ) وبالتالي الدين ضرورة ليس بعد موت الإنسان وإنما لحياته وحضارته بوصفه الإطار الجامع لكل القيم الحياتية.
ج- تعتبر اللّيبراليّة بأنّ الإلحاد والحرّيّة الجنسيّة لا يُؤثران على السلام الاجتماعيّ وظاهر كلامهم فيه دعوى إلى الإباحيّة في (الإلحاد والممارسات الجنسيّة) فما جوابكم؟
لا يعد الكلام عن السلام الاجتماعي منطقياً بدون الكلام عن الاخلاق، ليس لأن الاخلاق قيمة مطلوبة في نفسها فحسب وإنما لكونها الروح التي تسري في جسد المجتمع، والليبرالية كمذهب فرداني تتحكم فيه المنفعة الكمية يتناقض مع الإنسان كقيمة أخلاقية، فالرؤية الليبرالية للإنسان تتوقف عند كونه كائن أناني براغماتي، وبالتالي هي عاجزة عن تبرير ذاتها كفلسفة تتقصد بناء حياة اجتماعية، وذلك لأن الحياة الإنسانية لا يمكن فهمها دون فهم الإنسان كموجود له قيمة أخلاقية، وبالتالي لابد للحياة من مبدأ يتعالى على المصلحة الفردية، ومن المعلوم أن الكلام عن السلام الاجتماعي لا يستقيم إلا بالكلام عن الاخلاق بوصفها الضامن لهذا السلام، والليبرالية غير معنية في هذا المقام لعدم ارتكازها على أي مبدأ أخلاقي. ومن هنا كان من الطبيعي ألا يكون لليبرالية أي موقف من الإلحاد أو الإباحية لأنها لا تستهدف من الأساس بناء حياة أخلاقية للإنسان. وبالتأكيد على هذا البعد الأخلاقي يمكننا التأكيد على أهمية الأديان بوصفها الإطار الأكثر احتراماً للإنسان.
اترك تعليق