هل يمكن أن يكون الملحد سعيداً؟
(4)سؤال: أليس من الممكن أن يكون أحدهم ملحداً وسعيداً ومتوازناً ومقتنعاً بفكره بشكل كامل؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الإجابة على هذا السؤال تتوقف على تعريف معنى السعادة، الأمر الذي يعقد المسألة أكثر من يبسطها؛ لأن السعادة شعور باطني وليست فكرة مفاهيمية يمكن شرحها وتعريفها، ومع ذلك تمثل هدفاً إنسانياً وشعوراً مشتركاً يعود على الجميع بالخير والمنفعة.
ومع أن السعادة شعور داخلي إلا أن النفس الإنسانية تتوسل بالعوامل المادية للحصول عليها، فالبعض يعتقد أن السعادة في المال والبعض الاخر يراها في الشهرة أو غير ذلك، إلا أن كل ذلك لا يمثل السعادة بوصفها حالة رضا داخلي وشعور بالسكينة والطمأنينة، وإنما تلك مجرد وسائل يطمح الإنسان أن توفر له ذلك الشعور، ومن هنا نجد من الضروري التفريق بين الوسائل وبين السعادة، فليست هنالك علاقة حتمية بين المظاهر المادية وبين الحصول على السعادة الروحية؛ بل من الممكن أن تحصل السعادة للإنسان من غير أن يكون له أي نصيب من المكاسب المادية.
وإذا كانت الساعدة شعور داخلي واحساس نفسي فلابد حينها من الحصول على توازن داخلي يؤدي إلى سكون النفس وراحة البال، وهذا لا يتوفر إلا إذا حصل للإنسان قناعة كاملة بالحياة، تلك القناعة التي تجعل منه عنصراً مؤثراً في تحقيق فلسفة الحياة وقيمتها الكبرى، فانسجام الروح مع البدن وانسجام كل ذلك مع الغاية العظمى للوجود هو الذي يجعل الإنسان يشعر بكونه إنسان، والإلحاد كرؤية عدمية لا يمكن أن يسمح للإنسان بهذا الانسجام، إذ كيف يكون الإنسان منسجماً مع نفسه ومع من حوله وهو لا يعرف من أين أتي ولماذا أتى؟ ثم يكابد في هذه الحياة متشبثاً بها ومع ذلك توخز منه عنوة من غير أن يفهم لماذا؟ وإلى أين يمضى؟ فالملحد يعيش في وحدة قاتلة تقتله كل يوم ألف مرة، فحتى إذا اختلى بنفسه تجده بعيداً حتى عن ذاته، فلا شيء يركن إليه ولا عضيد يستعين به ولا ملجا يهرب إليه. يقول بروفيسور الرياضيات الأميركي جيفري لانج في كتابه (الصراع من اجل الإيمان) وهو يصف نفسية الملحد وطبيعة علاقته وانفعالاته الفكرية والعقائدية والاجتماعية، محللا سيكولوجيته الانعزالية الهشة، فيقول: (سرعان ما تعلّمت أن لا أحد يعرف الوحدة كالملحد، فعندما يشعر المؤمن بالوحشة فإنه يناجي، من أعماق روحه، الواحد الأحد الذي يعرفه، ويكون بمقدوره أن يشعر بالاستجابة، ولكن الملحد محروم من هذه النعمة؛ لأن عليه أن يسحق هذا الدافع ويُذكّر نفسه بسخفه، فهو إله عالمه الخاص، وهو عالم صغير جدا.. وهو دوما في تناقص مستمر). ثم يقول: (الملحد لا يشبع حاجاته شيء؛ لأن عقيدته تخبره أن ليس للحياة هدف، وأن ليس هناك شيء كامل أو شيء مطلق.. ولا شك أنه توجد دوما في أعماق الإنسان حاجة فطرية إلى تجاوز أبعاده المادية والانجذاب إلى قوة ما وراء الطبيعة تلهمه وتقويه وترشده إلى الصواب.. إننا جميعا نصبو للخلود، وبمقدور المؤمن أن يتخيل السبيل لتحقيقه، أما الملحد فعليه أن يفكر في حلول بديلة آنية)
فالإلحاد إذا تكلم عن السعادة مع هذه العدمية القاسية إنما يمارس خداعاً لنفسه ولمن حوله، إذ كيف يكون الملحد صادقاً في إلحاده متسالماً مع فكرته ثم يكون سعيداً؟، وعليه فإن الإلحاد مجرد تمرد عارض يظهر الكفر بلسانه في حين يمارس الإيمان في عمق وجوده وكيانه؛ وذلك لأن الإيمان حاجة حياتية وضرورة فطرية، وقد صرح اساطين الإلحاد بهذه الحاجة كما عبر برتراند راسل الذي قال في أوج إلحاده: (في أعماقي دائما وأبدا ألم فظيع -ألم فضولي ثائر- وبحث عن شيء يتجاوز ما يحويه العالم). هذا الألم الذي لم يختلف كثيرا عن ثِقل "ألبير كامو" إذ يقول: "ثِقل الأيام مخيف لكل امرئ يعيش وحده بدون إله). حتى نيتشه، الذي صرخ في الجميع عبر كتاباته قائلا: لقد مات الإله، تجد مترجم كتابه هكذا تكلم زرادشت يقول: (إن نيتشه يعلن إلحاده بكل صراحة... غير أننا لا نكتم القارئ الكريم، بما قرأناه بين سطوره، أننا لم نر كفرا أقرب إلى الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار الثائر، الذي ينادي بموت الإله، ثم يراه متجليا أمامه في كل نفس تخفق بين جوانح الناس من نسمته الخالدة) وعليه لا وجود لملحد صادق في إلحاده وإنما الجميع يمارس مكابرة مفضوحة، فالإنسان لا يمكنه أن يتخلى عن روحه ولا يستطيع أن يعيش بدون الاستجابة لنداء ضميره ووجدانه.
في الختام السعادة ليست لحظة مرح لاهية ولا اغنية يرقص على أنغامها الماجنين، وإنما السعادة يقين وقناعة وسكينة ترتقي بالروح بعيداً عن مظاهر الحياة الخادعة، فكلما تسامى الإنسان كلما راء الحقيقة بشكلها الناصع، وكلما تعالى عن ملذات الحياة وشهواتها كلما اكتشف قيم الحياة ومعناها، فيجد السعادة في العطا لا في الأخذ، في الشجاعة والاقدام لا في الجبن والانهزام، في التضحية والفدا لا في الاستسلام والانزواء، فللإيمان شعور أخر بالسعادة واحساس لا يفهمه ولا يمكن أن يفهمه الملحد.
اترك تعليق