العقلانية ضرورة عصرية أم ضرورة إسلامية

مقدمة:

مبحث العقل من أكثر البحوث إثارة في عالم الفكر والمعرفة، وأكثرها غموضاً رغم وضوحه الفطري عند كل إنسان، فما من نظرية معرفية إلا وتتشكل وفقاً لمنظورها الخاص للعقل، بوصفه الأداة المنتجة للفكر والمعرفة، فالألية المعرفية والبناء المنهجي هو الذي يحدد معالم التصور الفلسفي لأية مدرسة، وبالتالي  يصبح التباين الفكري نتاجاً طبيعيّاً للتباين الذي يحققه الاختلاف في المنهج، ولا يمكن خلق رؤية موحدة إلا بإيجاد صيغة مشتركة لآلية المعرفة ومناهج الفكر، ومن ثم تحديد فهم منضبط للعقل كأداة تمثل قاسماً مشتركاً بين جميع البشر، الأمر الذي يوصف عند الكثير بكونه حلماً معرفياً بعيد المنال؛ لأن توحيد البشر ضمن تصور معرفي موحَّد، يُعد محالاً معرفياً في حد ذاته. 

وقد تعايش الفكر البشري وتأقلم مع هذا التباين، كحالة ضرورية تحتمها الطبيعة الإنسانية، فكلما تطورت المعرفة، تباعدت مدارسها وتباينت مشاربها، حتى رجعت إلى نقطة البداية ومرحلة الطفولة الفكرية. 

ورغم وصول الفلسفة إلى ما بعد الحداثة، إلا أنها شككت في أصل المعرفة، فأسست بذلك المثالية والنسبية التي هزت كل القناعات التقليدية، فرجعت بذلك إلى عهد السفسطة ونقطة الصفر التي انطلق منها أرسطو، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثـاً.

مما يعني أن الفكر البشري مبتلىً بأن لا يتفق على رؤية معرفية واحدة، وأن الارتكاز على هذا المنتوج البشري، لتشكيل وعي إسلامي وفهم حقيقي للنص الديني، يمثل بداية خاطئة وسبباً مباشراً لفوضى معرفية، تضيع معها معالم الدين الأساسية. 

فكما أن كل التوجهات الفلسفية امتازت عن بعضها بوجود آليات معرفية مختلفة، فللإسلام أيضاً بناؤه المعرفي الخاص، الذي يعتمد على آلياته الخاصة أيضاً، فالوقوف على ظواهر النصوص، واستبعاد العقل عند بعض التوجهات، لم يكن إلا ردّة فعل في قبال بعض التوجهات، التي أفرطت في الاعتماد على الآليات الفلسفية في المعرفة، وكلا الخيارين لم يكتشفا منهجية القرآن الخاصة في توليد المعرفة. 

كما أن المحاولات الحديثة لتقديم خطاب إسلامي متجدد، لم تبحث عن تلك المنهجية الخاصة، وإنما استعارت بشكل قسري، آليات الفلسفة الحديثة من التأويلية إلى البنيوية إلى التفكيكية وغيرها، مما ساهم في خلق أنماط إسلامية جديدة، زادت من حدة التباين الموجود. 

المسلم بين عقبة الماضي وضرورات الحاضر:

من البديهي التأكيد على كون العقل في الإسلام هو البداية لأي تأسيس معرفي، حيث لا يمكن تشكيل وعي حقيقي، يعبر عن مشروع الإسلام ودوره الحضاري إذا استُبعد العقل، أو لم يوضع في إطاره الطبيعي الذي يكون فيه منتجاً، وبالتالي لا يمكن التأسيس على التباين الموجود داخل الخطاب الإسلامي. 

ومن الواضح إن المسلم المعاصر لم يساهم في إنتاج تصوره الخاص بالإسلام، فمعظم فهمه عباره عن موروث تاريخي تم إنتاجه بعيداً عن شروط الواقع الراهن، ومن هنا ليس من السهل مقاربة الإسلام اليوم بعيداً عن عمقه التاريخي الذي تشكل فيه.

ويبدو أن المسافة التي تفصل المسلم عن متطلبات الحاضر، والتي ساعدت في تحجيم تفاعله مع ضرورات العصر، ترجع بشكل أساسي إلى الرؤية الثقافية التي وقعت رهينة للتاريخ، فالتفكير الذي لا يكون إلا بالرجوع الدائم إلى الوراء، أو الذي يحاكم الواقع بمعايير الماضي، سيكون عقبة أمام حركة الإنسان وصيرورته.

فالمسلم ومع بداية تشكل وعيه الديني، يجد نفسه أمام مجتمع يقوم بتلقينه مجموعة من الإيمانيات والاعتقادات، كما يتم تطبيعه بنظام تشريعي وأخلاقي، من غير أن يكون له الحق في مراجعته أو إعادة فهمه، بل عليه قبوله كمنجز جاهز لا يخضع للحوار والنقاش. ولا يقتصر هذا الامر على السلوك العفوي للمجتمع، وإنما حتى النظام التعليمي في المؤسسات الرسمية يعتمد في غالب الأمر على التلقين والحفظ، وبهذا الشكل حافظ كل مجتمع على خصوصياته المذهبية وليست الإسلامية؛ وذلك لغياب الهوية المشتركة والتصورات الإسلامية الواحدة، حيث اصبح الاهتمام المذهبي هو المهيمن على المشهد الإسلامي أكثر من أي شيء آخر، فيولد السني سنياً والشيعي شيعياً وهكذا حال بقية المذاهب، ومن النادر جداً حدوث اختراقات هنا أو هناك للحصانة العالية التي تمارسها المذاهب لأفرادها، وهكذا توارثت الأمة هذه الانقسامات المذهبية التي تعبر عن الانقسامات التاريخية.

ولا نتجاهل بهذا الوصف المحاولات الاجتهادية المعاصرة التي سعت إلى جعل الإسلام أكثر انسجاماً وواقعية، إلا إنها جهود محدودة لم تتحول إلى خيار تتبناه كل الأمة؛ بل قد تكون مرفوضة من الإسلام الكلاسيكي الذي يمثل التيار العريض من الأمة، فالوصف الذي نرى أنه أكثر موضوعية وواقعية هو الوصف الذي يعترف بالحضور التاريخي أكثر من حضور الواقع، ولا ينحصر ذلك فيما يتعلق بحجم التراث فحسب، وإنما فيما نجده من نمط تفكيري لا يستطيع مقاربة الواقع إلا بشروط تاريخية. 

وهذا الحضور التاريخي كما هو مسؤول عن تلك الانقسامات والتباينات، فهو مسؤول ايضاً عن التراجع الحضاري لمعظم المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي يجعل إيجاد مقاربة للعلاقة بين الحاضر والتراث من أهم المسؤوليات التي تواجه المسلم المعاصر.  

والتاريخ وإن كان محطة سابقة تجاوزها قطار الزمن، إلا أن ظلاله لا تنفك تلاحق الإنسان في كل المحطات التي تأتي لاحقاً، ومن هنا كان اهمال التاريخ البشري واستبعاده يعد خياراً غير مستوعب لحقيقة الإنسان الذي لا يمكن فصله عن ماضيه، وبخاصة فيما يتعلق بالإسلام الذي كانت تجربته الأولى تجربة تاريخية، ومع ذلك فإن الجمود على الماضي واهمال الواقع الراهن يؤدي إلى ضياع حاضر الإنسان ومستقبله.

فهناك فاصل معرفي بين المسلم اليوم والمسلم الأول، وهو فاصل تفرضه طبيعة الإنسان، وطبيعة الواقع المتغير، الأمر الذي يؤدي إلى اختلاف في البنية الثقافية بينهما، وإهمال هذه الخصوصيات شبيه بإعدام الواقع الراهن وتجاوز كل مكوناته. 

وقد أصبح هذا التراث ماده دسمة للتيارات اللا دينية لنقد الإسلام والتأكيد على عدم صلاحيته، فعملت على عزله من الساحة وتجريده عن أي دور حياتي، معتمده في ذلك على نسبية المعارف الإنسانية كضرورة تسالمت عليها الدراسات الإنسانية المعاصرة.

وعلى ذلك فإن إعادة فهم الإسلام وتقيمه في إطار العلوم الإنسانية، يجعله فكراً بشرياً بحتاً لا علاقة له بالسماء، وبالتالي يجري عليه ما يجري على المعارف البشرية من نسبية متحركة لا يمكنها الوقوف عند حقائق ثابتة ومطلقة، الأمر الذي يفرغ الدين عن محتواه ويجرده من أي امتياز وجودي.

كما أن التسليم للنسبية المطلقة بوصفها فكرة عصرية، لا تُبقي أيضاً أي إمكانية لإعادة ترتيب التراث وغربلته، فمعالجة التراث التي تقوم على إنشاء نظام معرفي للفرز، بين (ما هو عقلاني وغير عقلاني) قد توصف هي نفسها بعدم العقلانية ضمن التصور النسبي للمعرفة؛ وذلك لأن المعرفة الإنسانية ليست مخزونة في الماضي حتى يتم البحث عنها هناك، وإنما هي معرفة متحركة بحسب الأفق الزماني للإنسان، وعلى هذا لا يمكن الوصل إلى  مفهوم ثابت يسمى إسلاماً يجب الإيمان به، وكل ما يمكن أن يكون متاحاً حينها هو: فكر إنساني بامتياز أوجده الإنسان وأبدعه ولا علاقة للسماء به، لكونه في حالة من التغير المستمر والتشكل الدائم بحسب الأفق الثقافي لكل مرحلة، أو كما يقول أركون: (نجد ضمن هذا المنظور، أن الإسلام لا يكتمل أبداً، بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي – ثقافي، وفي كل مرحلة تاريخية معينة). 

العقل والنص وخيارات الواقع الراهن:

واستسلام النخب الإسلامية أمام مفهوم النسبية؛ شكل تياراً آخر لم يكفر بالدين صراحة، ولكنه جرده من أي خصوصية إلهية، وأصبح المسلم اليوم بين خيار الكفر بالإسلام والتحلل منه، وبين اهمال الدين وتهميشه، مع الإيمان بالعلمانية في إطار الدولة، والليبرالية في إطار الحريات.   

ومن ذلك يبدو أن الإنسان المسلم بين ثلاث خيارات، الخيار الأول: هو أن يتبنا تديناً عقلانياً يجمع بين النص والعقل، بمعنى أن يعيش كمسلم متدين، ولكن ضمن ظرف الواقع الراهن، فيحقق بذلك وعياً إسلامياً أصيلاً يوجد من خلاله الانسجام التام بين الوحي والعقل. 

والخيار الثاني: أن يكفر بالإسلام بوصفه فكراً تاريخياً لا ينتمي لهموم الإنسان المعاصر، وقد كان هذا خياراً فعلياً للكثير من شباب العالم الإسلامي الذي اختار لنفسه اتجاهات شرقية أو غربية. 

والخيار الثالث: هو الانتصار للإسلام التاريخي ضمن الرؤية السلفية التي لا تسمح بالتواصل العقلي مع متطلبات الحياة العصرية، ومن الواضح ان هذه الخيار له حضور واسع في الوسط الإسلامي وتقف خلفه مؤسسات لها إمكاناتها الضخمة.

من الضروري التأكيد على أن الخطاب الإسلامي المعاصر، بحوجه ماسة لتفعيل دور العقل، وجعله أكثر حضوراً في تشكيل وعينا الراهن بالإسلام، وليس ذلك ضرورياً من أجل الوعي بالمرحلة فحسب، وإنما أيضاً ضروري في فهم الإسلام ضمن عناوينه الكلية. 

وفي المحصلة لا بد أن نعترف بوجود أزمة على مستوى الخطاب الإسلامي بشكل عام، وعلى مستوى الخطاب التجديدي بشكل خاص، وبالتالي  لابد من تفكيك الإسلام التاريخي بمنهجية واقعية، وبعقلية منطقية، وبروحية علمية، حتى نتمكن من بناء رؤية إسلامية أكثر أصالة وانفتاحاً، وكل ما نحتاجه في هذه المرحلة، هو تعزيز ثقة الأُمّة بإمكانية فهم النص، بعيداً عن هيمنة التراث، والبحث عن آليات منهجية جديدة، تستنطق النص بما يتناسب مع المرحلة، الأمر الذي قد يؤدي إلى زعزعة الكثير من المفاهيم التقليدية التي تكلست في نفسية الأُمّة، حتى أصبحت عقبة حقيقية أمام أي مشروع يسعى للنقد والتأسيس العقلاني.

والتكامل بين الوحي والعقل هو الضمان لتحقيق فهم إسلامي مستوعب لكل قيم الدين وحِكمه، وبالتالي ينضبط العقل بهذه الحِكم، ويسترشد بهذه القيم في ملاحقته للواقع، فبدون الوحي المذكِّر بهذه القيم تغيب الضوابط التي تحدد مسار العقل، وبدون العقل تصبح هذه القيم حالة مثالية ليس لها علاقة بالواقع؛ لأن العقل هو الذي يكتشف الواقع المتغير، وهو نفسه الذي يقوم بإرجاع تلك المتغيرات إلى القيم التي يذكِّر بها الوحي. 

هذه التكاملية هي التي تمنح الدين حالة الاستمرار، بحيث يصبح في حالة من التطور الدائم، ومن هنا لا يكون التجديد ضرورة تفرضها الظروف؛ وإنما ضرورة تفرضها طبيعة الرسالة، ولكن ليس بوصفها طبيعة تاريخية، وإنما بوصفها طبيعة ارتبطت بالعقل في اول لحظة التكون. 

وبالتالي التطوير ليس أكثر من الدعوة للعمل بالعقل كما طلب القرآن وأكّد عليه، ومن هنا لا يكون التجديد والمواكبة مفهوماً عارضاً على الإسلام، وإنما هو مفهوم أصيل يفسر عالمية الرسالة وخاتمتها.

صحيح أن هناك أكثر من عقبة تعترض سبيل التطوير، (تقديس الآباء وتراثهم، وتقليد المجتمع الفاسد، والخشية منه، ومن السلطات الطاغية، وأصنام قدست أو أفكار وتشريعات احترمت)، ولذلك لا نجد القرآن أمر بالتطوير فحسب، وإنما عمل على تحطيم كل صنم يقدَّس من دون الله، أيّاً كان اسمه وصورته، وفي الوقت ذاته، يعطي الإنسان عزيمة لا تُفَلُّ لكي يتحدى كل الضغوط.