الإسلامَ لم يوجِد الرقَّ ولم يؤسِّس لمُلكِ اليمينِ وإنّما كانَ عُرفاً اجتماعيّاً سائداً قبلَ الإسلام
يشكل البعض على تشريع الرق في الأديان بأن كل ممارسة جنسية لا تقوم على التراضي فهي اغتصاب، وعليه فإباحة نكاح ملك اليمين الخالي من هذا التراضي يصدق عليه انه اغتصاب؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أكّدنا في إجابةٍ سابقةٍ أنَّ الإسلامَ لم يوجِد الرقَّ ولم يؤسِّس لمُلكِ اليمينِ وإنّما كانَ عُرفاً اجتماعيّاً سائداً قبلَ الإسلام، وقد قُلنا هناكَ أنَّ الكثيرَ منَ الظواهرِ الاجتماعيّة قد تكونُ مقبولةً في مجتمعٍ ومذمومةً في مجتمعٍ آخر، أو أنّها مقبولةٌ في حقبةٍ تاريخيّةٍ ومرفوضةٌ في حقبٍ لاحقة، بالتالي التباينُ الثقافيُّ والتاريخيّ يتدخّلُ بشكلٍ مباشرٍ في فهمِ وتقييمِ كثيرٍ منَ الظواهرِ الاجتماعيّة، وقضيّةُ الرقِّ وملكِ اليمينِ قبلَ الإسلامِ كانَت منَ الظواهرِ الضاربةِ بجذورِها في المُجتمع، بحيثُ لا يفهمُ العرفُ المُجتمعيّ في ذلكَ الوقتِ إمكانيّةَ وجودِ مجتمعٍ من دونِ رقيقٍ وملكِ يمين، وما يسعى إليهِ السّائلُ هوَ محاكمةُ ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ لا تنتمي لهذا العصرِ مُستعيناً بأدبيّاتِ هذا العصر، وهيَ محاكمةٌ تفتقدُ شروطَ الموضوعيّةِ التي تراعي الفوارقَ الثقافيّةَ والظروفَ المُجتمعيّة، فلو قُدّرَ لهذا السائلِ أن يعيشَ في ذلكَ العصرِ ويتربّى في تلكَ المُجتمعاتِ لما برزَ لذهنِه مثلُ هذا السّؤال، وعليه فإنَّ مُحاكمةَ العقلِ الاجتماعيّ المُعاصر للعقلِ الاجتماعي قبلَ 1400 عام محاكمةٌ غيرُ عقليّةٍ وغيرُ منطقيّة، ولو قُدّرَ لمُنظّماتِ حقوقِ المرأة أن تعيشَ في ذلكَ الزمنِ ووكّلَ لها محاربةُ هذهِ الظاهرةِ لما تمكّنَت مِن تغييرِها بمُجرّدِ سنِّ القوانينِ الرّادعة، وإنّما تطلّبَ منها ذلك الكثيرَ منَ المرونةِ بغرضِ التغييرِ التدريجيّ لثقافةِ المُجتمع، وهذا ما قامَ به الإسلام، فمنَ المُؤكّدِ أنّ تغييرَ النمطِ الحياتيّ للمُجتمعِ يحتاجُ إلى تدرّجٍ مِن نوعٍ خاصّ يستهدفُ البُنيةَ الثقافيّةَ المُتحكّمةَ فيه، ولذا عملَ الإسلامُ على تأسيسِ بُنيةٍ تحتيّةٍ لثقافةِ المُجتمعِ تُفضي في خاتمةِ المطافِ إلى تخلّيهِ عن ظاهرةِ الرقِّ ومُلكِ اليمين والنفورِ منه، وما يثيرُ العجبَ هو مطالبةُ البعضِ الإسلامَ أن يحرّمَ ملكَ اليمينِ في أوّلِ أيّامِه مِن خلالِ إصدارِ مرسومٍ يحظرُه، جهلاً منهم بالطبيعةِ المُعقّدةِ لتركيبِ المُجتمعاتِ وكيفيّةِ التعاملِ معها، فالتغييرُ الجذريُّ للظواهرِ السّلبيّةِ يتطلّبُ معالجةً جذريّةً تحفرُ عميقاً لتبديلِ الأساساتِ وتعديلِ الأصول، ولا يمنعُ ذلكَ من وضعِ قوانينَ أوليّةٍ تستدركُ بعضَ المظالمِ وتردُّ بعضَ الحقوقِ إلى حينِ حدوثِ التحوّلِ الكبيرِ في المُجتمع، ولذلكَ عندما أباحَ القرآنُ نكاحَ مُلكِ اليمين إنّما أباحَه بوصفِه نكاحًا مشروعًا لدى المجتمعاتِ البشريّة آنذاك، فأمضاهُ الإسلامُ بحدودِه المشروعةِ عندَهم، أي في إطارِ ما يقبلهُ البناءُ العُقلائيّ آنذاك، ممّا لا يراهُ المُجتمعُ الإنسانيّ موردَ عيبٍ أو ضررٍ اجتماعيّ بنظرِهم، وحتّى يصلَ الإسلامُ إلى مستوى تحريمِه لابدَّ أن يصلَ بالمُجتمعِ أوّلاً إلى مستوىً منَ الوعي يرى فيهِ أنّهُ أمرٌ معيبٌ يجبُ التخلّصُ منه، وقبلَ الوصولِ إلى تلكَ المرحلةِ وضعَ الإسلامُ بعضَ التوصياتِ والضّوابطِ حيثُ أوصى بالإحسانِ إليهنَّ وإطعامهنَّ ممّا يطعمُ به عيالَه وعدّهنَّ مِن أهل بيتِه وجُزءاً مِن عائلتِه وحرّمَ ضربهنَّ أو الإضرارَ بهنَّ أو إهانتهنَّ وجوّزَ تزويجهنَّ للآخرينَ وضمنَ لهنَّ حريّةَ الفكرِ والاعتقادِ بعدَ أن كنَّ يعشنَ حالةَ الاحتقارِ والذلّةِ والإهانة.
ولكي يتبيّنَ مدى الفارقِ الثقافي بينَ مُجتمعِ اليومِ وبينَ ذلكَ المُجتمعِ إذا نظرنا إلى مفردةِ الاغتصابِ لما وجدنا لها حضوراً في الثقافةِ المُجتمعيّة لتلكَ الفترةِ التاريخيّة، مما يعني أنّها عبارةٌ اكتسبَت معناها ودلالتَها من واقعِ ثقافةٍ مُستحدثةٍ، وكذلكَ الكلامُ عَن عدمِ الرّضا لا يُفهمُ إلّا مِن خلالِ الاعترافِ بحُرّيّةِ الطرفين، وهذا ما لا يمكنُ فهمُه إذا كانَ أحدُ الأطرافِ مُسترقّاً ليسَ له إرادةٌ أو حريّةٌ في قبالِ سيّدِه، فمُلكُ اليمينِ في ثقافةِ ذلكَ الوقِت ليسَ لها إرادةٌ حرّةٌ حتّى تكونَ راضيةً أو مُكرهة وإنّما هي تابعةٌ لسيّدِها، وعليهِ التأسيسُ لمفهومِ الاغتصابِ يسبقُه التأسيسُ لمفهومِ الحرّيّةِ لجميعِ البشرِ، وهذا لا يتمُّ إلّا بتفكيكِ ظاهرةِ الرقِّ وملكِ اليمينِ من جذورِها، ومنَ الواضحِ أنَّ هذا التفكيكَ لا يتمُّ عبرَ القرارِ السّياسيّ أو الحُكمِ التحريميّ وإنّما يحتاجُ إلى معالجاتٍ اجتماعيّةٍ وثقافيّة تؤسّسُ في خاتمةِ المطافِ إلى تخلّي المُجتمعِ بنفسِه عن تلكَ الظاهرة، وهذا ما عملَ عليهِ الإسلامُ عقائديّاً وفكريّاً وثقافيّاً وتشريعيّاً، ولو سارَ الإسلامُ بالمسارِ الذي أرادَه اللهُ وعادَ الأمرُ إلى ولاةِ الأمرِ الذينَ أمرَنا اللهُ بطاعتِهم لانتهَت هذهِ الظاهرةُ في فترةٍ وجيزة، إلّا أنَّ الأمرَ قد انحرفَ عن مسارِه الطبيعي وتسيّدَ على الأمّةِ خلفاءُ حكموا العالمَ الإسلامي تسعةَ قرونٍ فتحوا فيها البلدانَ وجلبوا منها الجواري، فكثّروا بذلكَ ظاهرةَ الرقِّ وملكِ اليمين، الأمرُ الذي ساهمَ في استمرارِ هذهِ الظاهرةِ لفترةٍ منَ الزّمن، وعندما حدثَ تحوّلٌ ثقافيٌّ للمُجتمعاتِ المُعاصرةِ حدثَ نفورٌ وتخلٍّ عن هذهِ الظاهرة، ولذا لا يمكنُ للمُسلمِ اليومَ أن يتفهّمَ وجودَ مُلكِ اليمين.
اترك تعليق